الخميس ١٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم حسن العاصي

أسئلة التاريخ والراهن

نحن لا نريد إحياء الماضي بما هو، فهو يدخل في تكويننا الفكري والثقافي الشعوري واللاشعوري، كخبرات وليس كواقع يمكن استعادته، إذ هو ماض له ما له وعليه ما عليه. فإذا جعلناه أمامنا فكأننا نضع العربة أمام الحصان، وهو سيسد طريقنا ويمنعنا من رؤية وقائع حياتنا المعاصرة المتجددة بحركة عاصفة تكاد تسبقنا ولا نستطيع الإمساك بحلقاتها الرئيسة إلا متأخرين. ولذلك فإن التواصل مع تاريخنا يجب أن يكون من خلال هذه الوقائع وليس العكس. فقدرتنا على التواصل مع الحداثة والثورات العلمية والتكنولوجية وهي في الجوهر العقلانية والعلمانية والديموقراطية، هي التي تجعل تاريخنا في تواصل مع حياتنا المعاصرة، ونحن نكافح لبناء وطن عربي حر قادر على المساهمة في صنع الحضارة الحديثة بدون التواءات وتكييفات خاصة. بالتواصل مع التحولات والتبدلات الاقتصادية والسياسية والثقافية العالمية، يتم التأكيد على الهوية القومية العربية، التي هي في هذه المرحلة المقاومة والصمود في وجه التحديات والمشاريع الإمبريالية التفكيكية والتجزيئية لتدمير هذه الهوية.‏

وهكذا حين لا يستطيع الواقع الراهن تقديم أجوبة عن أسئلة يطرحها الفكر الانساني فإننا نكون إذ ذاك أمام أحد احتمالين: إما أن الأسئلة التي طرحناها على الواقع أسئلة زائفة، والأسئلة الزائفة لا جواب واقعياً عنها، أو أن الواقع راكد إلى الحد الذي ليس باستطاعته أن يجيب.
اننا أمام مشكلة جد معقدة ألا وهي: كيف تأتى أن تكون بعض أسئلة الراهن أسئلة طُرحت قبل قرن ونيف من الزمان؟.
أجل: فسؤال التقدم التاريخي الذي طرحه النهضويون العرب ما زال سؤال المعاصرين من المفكرين العرب. وسؤال نحن والغرب الذي جهد الفكر النهضوي لفضّه، ما زال راهناً بل وحاضراً بصورة أكثر إلحاحاً. ناهيك عن أسئلة الدين والعلم والفلسفة واللاهوت، ونظام الحكم، والتجديد الديني. أتراها أسئلة يطرحها الوعي العربي انطلاقاً من رؤية العالم كما يجب أن يكون، أم هي أسئلة ناتجة عن وعي العالم كما هو أو بما ينطوي على إمكانيات تحتاج إلى إرادة مولدة للأجنة.
القول بأن الواقع راكد لم يتغير منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى هذه اللحظة المعيشة، قول يتناقض مع سيرورة التاريخ الفعلية. لكن التغير لم يكن في اتجاه الإجابة الواقعية عن أسئلة الفكر العربي الحديث. أي أن أياً من أهداف عصر النهضة العربية لم يجد طريقه إلى التحقق.

أليس من الحكمة والحال هذه أن نتحرر من أسئلة الماضي القريب ونطرح أسئلتنا المعاصرة، أي أهدافنا الواقعية؟. فلطالما أن أهدافنا القديمة قد مضى حين من الدهر على طرحها دون أن ترى النور؟
نحن أمام مشكلة حقيقية. المشكلة هي التالية: علاقة الطموحات بالواقع. إذا ما نظرنا إلى المسألة من هذه الزاوية فإن الأسئلة نفسها التي طرحت في الماضي يمكن أن تصبح واقعية إذا ما أحسن البحث عن أجوبة واقعية عنها.

نظن أن لا شيء قابل للتحقق تاريخياً إذا لم يكن بالأصل إمكانية قابعة في قلب الواقع، ومن المحال تكسير رأس التاريخ لإجباره على أن يكون كما نريد دون أن يكون التاريخ في حالة حمل صادق، أقول صادق لأن أكثر المشكلات في الحمل الكاذب الذي يخدع الإرادة , وارتباطا بذلك يمكن القول إن إمكانية قابعة في قلب التاريخ تظل قابعة فيه إذا لم تجد الإرادة الفاعلة لنقلها إلى إمكانية , وادا تسلحنا بهذ المنهج في تحليل العلاقة بين أسئلة الفكر العربي وبين الواقع ندرك أمرين: لماذا أخفقت الأفكار بالمعنى التاريخي , وما هي الأفكار القابلة للتحقق.

إذاً إما أن أهدافنا السابقة كانت عبارة عن إمكانيات لم تجد الإرادة، أو انها إرادة واعية أنتجت أهدافنا دون أن تكون إمكانيات.

فبعض المفكرين العرب يحدد رؤيته لطبيعة العصر، ثم يعود إلى الواقع العربي ليراه من زاوية العصر فيطلب من العرب الدخول إلى هذا العصر وهو منطق غير سليم في معالجة المشكلة التي نحن بصددها، فما معنى دعوة البعض: لضرورة دخول العرب إلى العولمة مثلاً؟ وكأن المسألة هي مسألة خيار أن ندخل أو لا ندخل ثم ما معنى أن ندخل أصلاً ,
الصواب بظني هو أن نمتحن أسئلتنا وفق منطق العصر وهل هي أسئلة صحيحة راهنة أم زائفة؟ وأن نكشف في الواقع نفسه عن أسئلة جديدة لم تطرح في السابق ـ إن وجدت طبعاً.
مثلا سؤال الوحدة العربية، وهو هدف مشترك عند الأغلبية من العرب، وهو ثمرة وعي بأن هناك قوماً اسمهم العرب مجزؤون إلى دول شتى، رغم أن العرب يحوزون على ما هو مشترك، إذاً الوحدة العربية هدف لم ينشأ من فراغ. وهو إمكانية وما يتمتع به العرب من شروط موضوعية تسمح بأن تكون الوحدة إمكانية.
النظر إلى الوحدة تمَّ في إطار التدليل على أن العرب أمة يحوزون على كل شروط تكون الأمة، ولما كان العرب أمة، ولما كان أفرادها يعون أنهم ينتمون إلى أمة فإن الوحدة ضرورة تاريخية ولا بد وأن تقوم.
هذا هو الوعي القديم بالوحدة العربية. الآن هل هذا السؤال ـ الهدف زائف أم حقيقي؟
الجواب هو سؤال حقيقي لأنه إمكانية لكن هذه الإمكانية ضاعت وتضيع وقد تضيع إلى أمد طويل بسبب أن الوعي والإرادة( الانظمة السياسية والشعوب) لم يتعاملا مع هذه الإمكانية تعاملاً صحيحاً.
لنأتِ إلى سؤال الحرية: هذا السؤال هو قديم أي طرح منذ بداية عصر النهضة، ما الذي يجعل سؤال الحرية راهناً ؟ انه ببساطة غياب الحرية، ولماذا غابت الحرية، كان الجواب سياسياً، انطلاقاً من أن السؤال هو سياسي فقط , فقد نظر إلى الحرية بوصفها تحرر الأمة من الفقر والجهل والاستعمار وما شابه ذلك، حسناً إنها أشكال من التحرر تستحق أن يقاتل من أجلها, ولكن كل أشكال الحرية الآنفة الذكر لا قيمة لها إذا لم تطرح الحرية بوصفها حرية الإنسان الفرد، أي حرية الأنا, لقد سُلب الأنا ونفي ونسي، لم تكن السياسة وحدها هي التي غربته عن عالمه، بل القيم السائدة بكل أنواعها. جعلت منه شيطاناً يعاذ بالله منه , والحق أن سؤال الأنا مرتبط إلى حد كبير بسؤال راهن وملح أمام الفكر العربي المعاصر، ألا وهو سؤال الدين والسياسة والعلاقة بينهما , وكان دائماً يريد للعلم أن يتحرر من القول الديني، ويريد للفلسفة أن تنال استقلالها، دون أن يعني ذلك أن العلاقة بين الدين والسياسة لم تطرح، بل طرحت في إطار الإصلاح الديني الإسلامي ومشكلة الحكم والتي أخذت صيغة فصل الدين عن الدولة لدى التيار العلماني عموماً ولدى الإصلاح الديني ,لكنها مناقشات تمت في عالم يسير نحو بناء الدولة الحديثة، ولم تشهد المنطقة حركات إسلامية كما هو حال الحركات الإسلامية الراهنة التي تكاد تسيطر على الوعي العام والشارع العربي.

إن سؤال الدين والسياسة، هو سؤال عملي أولاً وقبل كل شيء، لا يمكن أن تتحرر السياسة من الدين إلا إذا تحررت السياسة من دولة السلطة وصارت تعبيراً عن سلطة الدولة، إن النتائج المترتبة على الانتقال من دولة السلطة إلى سلطة الدولة كثيرة وذات أبعاد ثقافية اقتصادية اجتماعية وتنموية وحدوية , فسلطة الدولة وحدها التي تفكر بوصفها عقل المجتمع. فيما دولة السلطة لا تفكر إلا بذاتها وباستمرارها وبإيجاد كل السبل الكفيلة بالقضاء على ما تتعرض له، وبالتالي هي دولة قمعية بامتياز.

ومن الأسئلة التي مازالت حاضرة في الفكر العربي سؤال نحن والآخر، تشير نحن إلى العرب وتشير الآخر إلى الغرب.
مفهوم العرب واضح، مفهوم الغرب غامض، إنه قوة عسكرية علمية اقتصادية ثقافية مهيمنة عالمياً، أمريكا في هذا العصر غرب لأنها تنتمي تاريخياً إليه.

الآخر المهيمن هذه هي المشكلة التي كان الفكر العربي يضعها موضع التساؤل في صيغتين: كيف نصير غرباً، وكيف نتحرر من الهيمنة الغربية.

علينا أن نتحرر أولاً من السؤال القديم: كيف نصبح غرباً وكيف نتحرر منه، لأنه سؤال زائف: سؤال يريد أن يستعيد حضارة خارجية ويعيد إنتاجها، كما يريد أن يتحرر منها، أي من هيمنتها بعد أن يعيد إنتاجها.

الآن ما السؤال الجديد الذي علينا أن نطرحه والذي يمس وضع حركة التحرر العربية ,

إن العالم قد تغير، ما يعنينا من التغيير هنا هو التغير الذي له علاقة بالسؤال الآتي:

هل من الحكمة فهم الراهن العربي بمتغيراته وتغييره بمفاهيم وحركة تهضت لمواجهة واقع تاريخي مضى ؟
ينطوي السؤال بتقديري على جواب مضمر يشير الى ان حركة التحرر العربية اصبحت جزء من زمن ولى ,ولم تعد بقادرة على مد وعينا الراهن بما يتيح لنا فهم عالمنا الحالي او التصدي له , انها ببساطة قد فقدت قوتها التاريخية.
وحركة التحرر العربية ,سواء اكانت تلك التي قفزت الى السلطة , او تلك التي بقيت خارجها , ماكان لتكون فاعلة اصلا الا بسبب بينية العالم القديم اثناء الحرب الباردة ,واذ زالت هذه البنية , زالت بالضرورة فاعليتها ولكن دون انجاز تاريخي في حقل الاستقلال والتقدم الاجتماعي.المازق الذي نعيش هو التالي: ان تغير العالم ونهاية حركة التحرر العربية قد تما دون تحقيق اهداف واقعية , ولكن اهدافنا بوصفها مشكلات تتعين بعالم جديد هي ذاتها قد اصابها التغير كما اصاب الفاعلية الناهضة لحلها.

هل هناك اسئلة اخرى ؟ نعم , لكن الاجابة العلمية على الاسئلة السالفة ضرورة موضوعية , فلاجدوى من اطالة النظر الى الخلف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى