الاثنين ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٦
بقلم سناء أبو شرار

أماكن....

لماذا لا تغادرنا الأماكن حتى ولو غادرناها؟ لماذا تسكن الذكرى والروح والقلب حتى ولو أختفت عن الوجود؟ لماذا يبدو وجودنا كله مرتبط بأماكن معينة بخيوط غير مرئية ولكن من المستحيل قطعها؟

ولماذا تنحدر دمعة صغيرة حين نتذكر ذلك المكان البعيد الذي لم نعد نستطيع أن نعود إليه، أو هناك حيث كانت ذكرى مؤلمة أو ذكرى سعيدة ؟

هناك مقال نكتبه لأجل فكرة ما، وهناك مقال نكتبه لأننا يجب أن نكتبه، وهناك مقال نكتبه بسبب صورة ما أثارت بأنفسنا مشاعر لا بد أن تعبر عنها الكلمات، أحد تلك الصور هي صورة للمغنية العالمية داليدا حين عادت إلى الإسكندرية حيث عاشت طفولتها لغا لإحدى عشر عاما، دخلت إلى البيت القديم وهي تبكي بمرارة، صعدت الدرجات المهترئة ولم تكن تتوقف عن البكاء، رأيت تلك الصورة منذ سنوات بعيدة ولكنني لم أنسى بكائها المتألم، تلك المغنية المشهورة والثرية في ذلك الزمن، تعود إلى البيت الذي أحتضن طفولتها لسنوات غارقة في القدم وتبكي وتبكي دون توقف.

ما الذي دفعها للبكاء ؟ رغم ثرائها وشهرتها، تبكي بذلك البيت القديم والمتداعي، ماذا أثار ذلك المكان في نفسها من مشاعر ؟ كل منا يمكن أن يكون بموقفها، أن يتوقف في لحظة ما من حياته ويعود لأماكن أحبها غادرها أو غادرته ولكنه نفس الحزن ونفس الدموع ونفس الحنين الذي لا يُفارق الروح. إنها أماكن تحفر نفسها في الروح والقلب والعقل، فتصبح جزء من ذات كلٍ منا، لذلك لا يستطيع البعض أن يبيع بيت العائلة او أرض العائلة أو حتى قطع الشجرة القديمة التي كانت في حديقة البيت القديم. لذلك ندفع الأموال لأجل المحافظة على ما هو ثمين بأرواحنا وقلوبنا، حتى أننا حين نصف شعور الحب لشخص ما نقول له : " لك مكان في القلب".

أماكن، مثل الخليل، بجبالها ومنحدراتها ووديانها، بأشجار الصنوبر التي غطت الجبال، ودوالي العنب التي تسلقت الجدران. الخليل وكأس من الشاي مع الميرامية في ساعات الفجر الأولى حين تستلقي المدينة بهدوء بين أحضان الجبال البيضاء والتي لا تحيا إلا مع الصمت بحضرة الجبال وبهائها. الخليل والشوارع المحفورة بين الجبال والتي تتجه نحو القدس أو بيت جبريل، والوديان الغارقة في الضباب لشدة إنحدارها للأسفل، وقمم الجبال المُغطاة بأشجار الصنوبر، حيث تتسلل الشمس بهدوء وخجل بكل صباح. الخليل ودمعة صغيرة تبكي رحيل الأحباء وحياة كاملة تمر مع الشوق وعدم القدرة على العودة، الخليل وحب لا ينتهي، لا يموت ولا يغيب تماماً مثل الشمس التي تشرق كل يوم على قمم جبالها.

أماكن، مثل الإسكندرية في ساعات العصر، حين تتألق الشمس ببريقها الذهبي على صفحة المياة الزرقاء، وحين يجلس العشرات من الناس بهدوء على الشاطيء يراقبون لحظات الغروب وكأن الشمس سوف تغرب لآخر مرة، دائماً وكل يوم وبذات الجمال وبنفس الإنبهار.

أماكن، مثل دمشق في الليل، او لنقل ذكرى دمشق المحفورة في الروح والفؤاد، تمتليء الشوارع بالمشاه، يسيرون إلى أي مكان، في الأسواق وبين البيوت، فدمشق مدينة فسيحة ممتدة تغريك بالمسير والمسير إلى ما لا نهاية، ورائحة الياسمين تملأ الشوارع وحدائق البيوت. ثم تتوقف في النهاية في مقهى شرقي قديم كي تشرب فنجان من القهوة السوداء حلو أو مر المذاق، وتراقب الجدران التي نُقشت عليها الأحرف الشرقية والتي تؤطرها قطع من النحاس اللامع ؛ ثم تقف على قمة جبل قاسيون لتراقب غروب الشمس أو شروقها وتنظر إلى المدينة العريقة المتلألأة بألق التاريخ وعذوبة الحاضر، وترغب بألا تنتهي الحياة أبداً، ترغب بأن تحيا هنا لأنه هنا فقط تتجدد الحياة بكل لحظة رغم مرور الموت.

أماكن، مثل مدينة مونبيلية بفرنسا، هناك حيث ساحة المدينة الواسعة، والأوبرا القديمة، ثم الشوراع المرصوفة بقطع مربعة من الحجارة شديدة النعومة، يمكنك أن تسير لساعات في شوراع ضيقة لا توجد بها سيارات، فقط مقاهي ومحلات تجارية وأصوات الأقدام، وحين يأتي الليل تتشوح المدينة بوشاح دافيء وبأضواء تملأ كل الشوارع، في مونبيلية لن تعرف طعم الغربة لأنها مدينة شرقية في بلد غربي، لذلك تبدو عذبة جميلة مختلفة لأنها المدينة التي مزجت ما بين الشرق والغرب بأناقة وبجمالٍ ساحر دون أن تسأل نفسها لماذا.

أماكن، مثل فينا وقصورها وحدائقها، وشوارعها التجارية التي لا تدري أين تنتهي أو أين تبدأ، فيينا وأناقة الغرب، بهدوئها وصفاء أجوائها، فهي المدينة الأوروبية التي تبدو قروية بروحها ولكنها عصرية بمظهرها. فيينا في الشتاء، حين تشرق الشمس فترتدي ملابسك وتعتقد بأنك سوف تستمع بدفء الشمس ولكن البرد يبدو قارساً رغم شروق الشمس. فيينا والمقاهي الواسعة وبمقاعدها القديمة حيث جلس الفنانون والكتاب والشعراء، وصوت الكمان الذي يأتي عبر النوافذ لفنان يمنح موسيقاه دون مقابل. فيينا وسقوف البيوت التي تبدو كلوحات فنية ترغب بأن تنظر لها لساعات وكأنها متحف ممتد الأطراف.

أماكن، مثل سويسرا، بجبالها التي تكتسي بأشجار ذات خضرة تختلف من جبل لآخر، سويسرا ببحيراتها الرائقة العذبة والهادئة. سويسرا بشوارعها القديمة وساعاتها المنتشرة في كل الزوايا والمحلات التجارية التقليدية والقديمة، سويسرا التي تحب الألعاب والألوان وكأنها طفلة لا تكبر أبداً.

أماكن كثيرة لا حصر لها، تماماً مثل أنفاسنا التي لا عدد لها، ولكنها جميعها لها مكان ما على سطح هذه الأرض وأيضاً في الارواح والقلوب. تبدو الأماكن فلسفة الوجود، جزء من كينونة الانسان، لذلك وحين تصل لأول مرة لمكانٍ ما، توقف قليلاً واصغ لنبض قلبك ولصدى المكان بروحك لأنك وهناك عميقاً في ذاتك سوف تحمل جزء من هذا المكان وسوف تترك جزء من ذاتك به.

ولكنه ذلك المكان الأكثر تأثيراً، الأشد إلتصاقاً بالروح، إنه ذلك المكان حيث مرت الطفولة، وحيث تشكلت ذات كل منا عبر الأيام بين الجدران والشوارع والبيوت، هناك حيث تسكن الروح ولا ترحل رغم ترحال الجسد، يبقى ذلك المكان له ذكرى تختلف عن ذكرى أي مكان آخر، وله نبض في الروح وتألق في النفس مهما مرت السنوات، ويتحول في الذكرى من مجرد مكان إلى وجود دفين عميق نلجأ إليه حين نحتاج لعاطفة صادقة، ونتذكره حين نريد أن نشعر بأنه لا يزال لنا مكان في قلب أحدٍ ما، ونعود إلى زواياه وظلاله كلما ضاقت بنا الأماكن التي نعيش بها، فنجد الرحابة والظل والهدوء هناك بعيداً في زاوية نائية وصامتة من ذاكرة تقمصت المكان فلم يعد هناك وجود للزمن ولا للمسافات إلى أن امتزجت الذكرى بالمكان فأصبحا عالماً وحداً تجوب به الروح حيثما وأينما تشاء...


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى