الخميس ٦ شباط (فبراير) ٢٠٢٠
بقلم فتحي العابد

ابني بدأ يكبر

ابني بدأ يكبر
بدأ البيت تنقصه الفوضى والإزعاج، بدأت بعض الرسومات المضحكة تختفي من على جدران المنزل أو أي ملصقات مليئة بالألوان على أبواب خزانته.
كنت قد انتقلت إلى الكتابة على الهاتف وأنا جالس ألاعبه أحيانا وأتفرج فيه حينا آخر، وحتى لايترك أثار يده اللزجة على وجه حاسوبي، فعاقبني بأن أصبح يشطب برمشة عين تدويناتي من على الهاتف التي أسجلها في صفحة معلقة، تصل أحيانا إلى 99 بين نصوص طويلة وقصيرة، انتقاما منه لأني لم ألبي له طلبه.
صرت أرى أقل من ذي قبل بقايا الخبز أو البسكويت أسفل الأريكة أو بقايا بري أقلام متناثرة في البيت.
بدأت أجلس لأقرأ كتابي، أو على حاسوبي لأكتب بعض خربشات حروفي، دون أن يأتي ابني الصغير ليقفز عليّ، أو يغلقه ويضمني ويغمرني بالحب ويلح في أن ألعب معه كما يريد لا كما هي قواعد اللعبة..
انتقلت أجلس إلى جنبه في غرفته أوقات مراجعة دروسه، ولا يهمني في تدويناتي بعدما أصبح عنده هاتفه الخاص، وألعابه الإلكترونية الخاصة به، وترك لعب لعبته المفضلة في هاتفي أو كما كان يفاجئني بتلك الرسالة (عفوا لقد نفد رصيدكم) من باقة الرسائل.
أعلم أن الحياة ستكون مختلفة، عندما يكبر ابني أكثر، والبيت سيصبح هادئا، وأنا متيقن من الآن أن ذلك لن يعجبني، لذلك آخذه معي في السيارة بوتيرة أكثر من ذي قبل غالبا دون أمه، وإن هو كارها أحيانا، لكي أنفرد به داخلها أين تنعدم مساحة الهرب لأشحنه بأرصدة كثيرة تعلمتها في حياتي، ليردها لي وهو كبير.. محدثا إياه أحيانا عن العالم الذي لايعرفه.. عن الإحترام وتقدير تعب والديه ، وخاصة أمه، لأنها هي التي تحبه من لحظة أن يفتح عينيه، وأباه الذي يحبه بدون أن يظهر في عينيه فيظلمه.
قائلا: يابني، أمك هي التي تقدمك إلى العالم، بينما أباك يحاول أن يقدم لك العالم فيشقى، هي التي تمنحك الحياة، بينما هو يعلمك كيف تحيا هذه الحياة فيجهدك، هي تحملك داخل رحمها تسع أشهر، بينما هو يحملكما باقي العمر ولا تشعر، هي تصرخ عند الولادة فلا تسمعها، وهو يصرخ بعد ذلك، فتتضايق منه ومن صراخه.
أمك تبكي إن مرضت، وأبوك يمرض إن بكيت منزويا، هي تتأكد بأنك لست جائعا، بينما هو يعلمك أن لا تجوع فلا تدرك، هي تحملك على صدرها، وهو يحملك على ظهره فلا تراه.
يابني أمك تحميك من السقوط، بينما أباك يعلمك القيام بعد السقوط فيرهقك، حب أمك تعرفه منذ الولادة، بينما حب أبوك تعرفه عندما تصبح أبا..
صرت اليوم أنا من يبحث عن الجلوس معه لأحادثه وأصاحبه، لأنه عندما يكبر أكثر بحول الله وقوته، سأمشي في المغازات غير متسارع الخطى دون أن أقلق لمروري في قسم الألبسة الموقعة و"الماركات" المشهورة، لكي لا يطالبني بالشراء، ولن يدخل علي في منتصف الليل خائفا من حلم أو كابوس ليتمددّ بيني وبين أمه آمنا وظهري حماية لرأسه.
أنا اليوم ومازال ابني لم يكبر ألوم نفسي كثيرا على عقابه، إذ لم يكن يدرك سبب العقاب ويبكي قلبي فأنكب عليه وهو نائم مقبلا، ومعاتبا نفسي.
بعد خمسينيتي الأولى عرفت أن الحوار مع ابني هو طريقة لتعريفه بالعالم الخارجي وتأسيس اللغة لديه، أتعامل معه بتلقائية وتذكيره بأعيادنا وعاداتنا، ومشاهدة فيلم "كوباي" معه أحيانا، ويرى طريقة تعاملي مع أمه، مشجعا ومطمئنا إياه دائما بعد النقد، مستمدا صبري وقناعتي من تجربة شغلي كمحضّر ومفوّض من طرف السلطات القضائية لأطفال أحداث فاقدين السند العائلي، أو لهم سلوكيات منحرفة تتعارض مع قواعد المجتمع الإجتماعي الذي ينتمون إليه، بسبب سلوك والديه أو عنف وقع عليه.
أتذكر قول أحد القضاة لي: "لا تضرب طفل وتبرر بأنك تأدبه، أو لكي تبعده عن السلوك الخاطئ، حينما تضرب طفل فهذا يعني أنك تعاني من مرض نفسي أو أحقاد متراكمة في محاولة لإظهار قوتك على الأطفال".
في غدوّي ورواحي أتخيل المستقبل وأتذكر تلك المواقف كلها وغيرها الكثير، فأحمد الله، على أن رزقني الله ابنا في درجة متقدمة من الأدب والاحترام في مجتمع اختلط في" الصافي بالكرفة"..
أحاول دائما الإستمتاع بكل لحظة مع ولدي واللحظات قليل.. فأحداث اليوم هي ذكريات المستقبل.. أحاول الإستمتاع بتربيته وتعليمه كل شي، فهي تجربة ثرية حقا.. اليوم قلبه مازال لي ولأمه، أما غدا فقلبه لغيرنا، خاصة إذا لم نتركا عنده رصيدا لذلك وهو صغيرا.. أحاول الإستمتاع به قبل أن يكبر فتشاركني فيه صوارف الحياة وملاهيها وبقدر استمتاعي به وهو صغير أستمتع به وهو كبير.
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
فتحي العابد


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى