الثلاثاء ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم رامي نزيه أبو شهاب

الإنتاج والإستهلاك المعرفي

كان التأمل منذ الأزل عقيدة من يتطلع إلى ما وراء الأفق، لينظر ويقيم بينه وبين هذا الكون الشاسع ألفة تتخذ من الفهم والإدراك ركيزة لشرح ما غمض من أمور هذه الدنيا، هكذا حدثتنا سير الأنبياء والفلاسفة والحكماء، وهم يحاولون جاهدين إقامة علائق تبرهن على العلل والأسباب في شرح قيم الوجود- هذا الوجود الحائر المضطرب اللامنتهي- خاضوا في لجة العقل، ليصلوا للمرتجى، فكانت لهم أقوال ورؤى حملت على عاتقها مخاضات تصنع الأمم في صياغة شبه نهائية لذاتها المجتمعة حينا والمتشظية حينا آخر لتبحث عن صورها وألسنتها. فأقامت على ترابها مصانع إنتاج المعرفة لتنضح منها غذائها (المعرفة) هذا المنتج الذي نتناسى أنه ربما يكون المنتج الأكثر أهمية في سوق الوجود البشري كونه منشأ بنية الأمة ولا سيما بنيتها العميقة التي تعد بؤرة لمدارات وبنى سطحية لا متناهية التوالد في مواجهة عقم تلاشي الوجود الثقافي.

إن هذا العالم ليس من صنع يديك، فقد باتت القيم المعرفية التأملية المنتجة في مرحلة العدم في زمننا المعاصر، وانسحب ذلك على تقنيات القراءة والبحث والمعرفة. فها نحن نشهد تراجع ملكة الإبداع والابتكار المحلي في( العالم العربي) إلى مرحلة الاستهلاك المعرفي المفرط من حيث الحصول على المعلومة من خلال ضغطة زر، أصبح الكائن البشري ليس مضطرا للوقوف أمام رفوف المكتبة وتقليب الصفحات سعيا وراء المعلومة، وبات رائدا من رواد ( الانترنت) للحصول على ما يريد دون إدراك لحقيقة المعلومة وصحتها وقيمتها، وهنا تقبع المشكلة السحيقة في عملية تشكيل العقل العربي خاصة، الذي بات ينظر للثقافة والعلم والمعرفة من منظور استهلاكي، يشابه ذهابه إلى مجمع استهلاكي والتبضع منه بطريقة سريعة آلية يريد منتجا سريعا وجاهزا كوجبة طعام، دون العناء بالتفكير في آلية الإنتاج لتلك السلعة ما دامت في متناول اليد، وهذا ينسحب على إنتاج المعرفة التي أصبحنا من مستهلكيها، لذلك لم نعد نضيف شيئا جديدا للحضارة البشرية، إلا كوننا سوقا مستهلكا سلعيا وثقافيا. ولعل عقم العقلية العربية على إنتاج منظومة فكرية عربية أصبح شيئا مسلما به ومنتهيا حتى دون بذل أدنى جهد للتزحزح والتململ وهذا ينسحب أيضا على المناخ الأدبي والنقدي والثقافي، الذي بات مستوردا للفلسفات والمناهج الغربية لعجزه عن العودة إلى النشاط الفكري لممارسة شيء من التأمل ومن ثم الابتكار والخلق بعد أن استكان إلى الاستيراد الثقافي، إن مرحلة الاستعانة بالآخر لا تعني مطلقا الخمول واجترار مقولات عابرة، بل أن مفهوم الاستعانة يعني حقيقة البحث عن نقطة اشتعال في عقول باردة انطلاقا لحوارات تنتج في النهاية منظومة فكرية وتيارات تساند قيمة الوجود والحلول الخاص بعيدا عن التماهي بصور الأقوى.

إن هذا الاجترار الثقافي لما يقوله الآخرون، أصبح فراغا يحيط بنا من حيث لا نعلم، ولعل الشاعر العربي أدونيس يقارب الوجع حين يعلن أن العرب كأمة مبدعة أصبحت في طور الانقراض، حيث أنها غير قادرة على الارتباط بأي قيمة منتجة محليا على أي صعيد، ابتداء من التعاطي الدبلوماسي إلى الحذاء، فهي بحاجة دوما للآخر لحل مشاكلها السياسية والتنموية والتعليمية والتربوية، إلى حد اقتراض لغة الآخرين – وهنا معضلة عميقة - في التعلم باعتبار أن المشكلة تكمن في اللغة التي تقف عائقا في وجه التطور، على الرغم من أن جميع الأمم في العالم تدرس وتتعاطى وتتطور في لغتها الأم، ولننظر في أصغر الدول التي تفرض على المتعلم أن يدرس بلغتها حين يحل في ربوعها قادما لتحصيل العلم، بينما نقوم نحن بنزع ثقافتنا ولغتنا و هنا نقارب قيم الاستهلاك التي عممناها على كل المستويات تجاريا وثقافيا ولغويا وحضاريا وسياسيا.

أن تبقى قابلا للتعاطي والانفتاح شيء محبذ، حين تكون متمكنا من قدرتك على أن تضيف للثقافة الإنسانية، فكم نحن أحوج إلى تلك الأسماء التي رفدت الثقافة العربية، وهي ليست من صلب العروبة، ولكن استطاعت الثقافة العربية واللغة العربية دفعها إلى انتهاج نظامها اللغوي والثقافي، ولا أريد أن أكون مسطحا في ذكر تلك الأسماء لعلماء مسلمين وشعراء كانت ثقافتهم ومعارفهم ضمن البوتقة العربية.

لا بد لنا قبل أن نكون سوقا ومستهلكين أن ندرك أن القضية ليست فقط مقايضة إنما هي عملية إحلال وإقصاء عن مركز الوجود الذاتي لكوننا أمة ذات حضارة، ولكي نكتنه هذا الشيء، علينا أن نبتعد قليلا عن صخب الاستهلاك إلى مرعى هادئ ، لعل وعسى أن نجد شيئا ما نتأمله ونعيد أنفسنا إلى ذواتنا التي بتنا غريبين عنها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى