الخميس ١ أيار (مايو) ٢٠٠٣
المفكر التونسي محمد لطفي اليوسفي لـ(المشاهد السياسي):

الاختلاف لا الهوية هو ما يتحكم بأنماط الخطاب في الثقافة

محمد لطفي اليوسفي ناقد وصاحب مشروع فكري وأستاذ الأدب والنقد في الجامعة التونسية، له العديد من المؤلفات النظرية في الشعر والأدب والفكر أثرى بها المكتبة العربية على مدار عشرين من السنوات. منها "في بنية الشعر العربي المعاصر"، "الشعر والشعرية: الفلاسفة والمفكرون العرب ما أنجزوه وما هفوا اليه"، "الشابي منشقاً"، والعديد غيرها.

مؤخراً صدر له عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في بيروت ثلاثة مجلدات ضخمة تحت عنوان "فتنة المتخيل" وتحتوي هذه المجلدات التي زادت صفحاتها على الألف ومائتي صفحة من القطع الكبير نظرية متكاملة حول الكتابة العربية منذ عصر التدوين وحتى اليوم. في هذا الكتاب يقوم اليوسفي بتشريح جسد الثقافة العربية، ويقدم اكتشافات بالغة الأهمية يفصح عنها للمرة الأولى، وذلك بواسطة منهج جديد وجريء. إنه بحق عمل فكري من طراز نادر في أهميته، يتجاوز فيه الرؤية الحداثية التقليدية التي قدمها عدد من المفكرين العرب الذين قدموا مشروعات جريئة في قراءة الثقافة والفكر العربيين على مدار العصور وأخصهم علي أحمد سعيد (أدونيس) في كتابه "الثابت والمتحول".

في هذا المشروع الفكري الجديد يفكك اليوسفي بجرأة وبراعة نادرتين أسئلة الثقافة العربية في مدار عصورها، وقد استغرق منه تأليف هذا الكتاب سنوات طوالاً بعيداً عن الإعلام وأضوائه الزائفة، وهذا الحديث معه يتيح للقارئ العربي فرصة للتعرف على جانب من عمله الفكري الجديد ونظريته حول ما يسميه بـ"الجاذبية المعاكسة" في الثقافة العربية.

سألت المفكر محمد لطفي اليوسفي:

 لكل عمل نقدي أو فكري خلاصات أساسية يثبتها مؤلفه في ما يشبه خاتمة الكتاب. ترى ما هي أبرز الخلاصات التي يقدمها كتابك بأجزائه الثلاثة للقارئ العربي؟

يمكنني القول أنني حرصت في كتابي بأجزائه الثلاثة، على استكشاف آليات التفكير التي تدير أنماط الخطاب في الثقافة العربية، لذلك مضت القراءة ضد التصنيفات التي تقوم عادة بتقسيم التاريخ الثقافي الى أحقاب وعصور، ونظرت في الوشائج الدلالية التحتية التي تدير أنماط الخطاب في هذه الثقافة، وهي وشائج بموجبها يصبح تقسيم تلك الأنماط وتفريعها بالاستناد الى سماتها الظاهرة أو بالاستناد الى ظرفها التاريخي نهجاً يحجب من أسرارها أكثر مما يكشف. لذلك أرى أن التسليم بأن تكون أنماط الخطاب التي تفصح عنها المتون العربية القديمة أنماطاً بيّنة واضحة المعالم والسمات إنما يتضمن، في حد ذاته، تكريساً لمبدأ الهوية وإبطالاً لعمل الاختلاف.

والحال أن الاختلاف هو الذي يتحكم بأنماط الخطاب ويديرها، وهو يعلن عن نفسه في شكل قانون ينظم تلك الأنماط وفق نسق بموجبه تبدو كتب المفسرين وكتب الوعّاظ مثلاً، كما لو أنها تندرج في دائرة الخطاب الديني والخطاب الجمالي، لاسيما أنها إنما نهضت لتحرس المدينة وناسها وقيمها. وتشكلت لتمارس الهدي والوعظ والإرشاد، وتكرّس التقنين والمراقبة والمنع ورسم حدود المباح والممنوع. فلقد صنفت تلك الكتابات لتطارد الفتنة وتحذر من مهاتكها. تشكلت مأخوذة بالعقل الذي يلجم الأهواء، فمجدته، أعلته، انتصرت له، عدّته سبيلاً الى خلاص المسلم في الدنيا، واعتبرته طريقاً الى نيل الرضوان في الآخرة، فيما هي تطارد النزوات والأهواء والرغبات، تنتصر للروح باعتبارها ذات سماوي سماوي، وتتفّه الجسد لأنه درن قدّ من الطين والوحل.

لكن المسألة في الحقيقة مختلفة تماماً عن هذا التوصيف، فدواخل النصوص تخفي أشياء أخرى، ولقد توصلت الى أنها غالباً ما تكون متعاكسة!

نظرية الشعر

 توقفت في كتابك على نظرية الشعر والشعرية عند العرب، ما هي الخلاصة التي يمكن تثبيتها في هذا الصدد؟

نظرية العرب القدامى في الشعرية وأدبية الكلام تشكلت مأخوذة بالنصوص الإبداعية. ظلت تلك النظرية توهم بأنها تنشد فهم النصوص ومضايق الإبداع وأسراره، لكن الفهم أعلن عن نفسه في شكل مراقبة وحراسة وتقنين. جاء الفهم في شكل تسييج للكلام حتى لا يخرج من منطقة العقل الى دائرة الفتنة. والفتنة بوابة التهلكة، لا يمكن للجميل أن يكون جميلاً إلا إذا كان نافعاً. هذا ما أقرّته النظرية. والنص لا يمكن أن يعدّ أدبياً وينال شرف التسمية إلا متى تمكن من الإسهام في بناء المدينة وحفظ على ناسها أمور دينهم ودنياهم. وهو لا يمكن أن يحقق هذه الغاية على التمام إلا متى جمع الى الإمناع المؤانسة، ومتى لبّى حاجة الناس الى الجميل وحاجتهم الى النافع أيضاً.

مطلوب من النص أن ينهض بمهمة اجتماعية إذن. أما إذا خرج من هذه الرحاب وعدل عن النفع، فإنه يتحول الى خطاب فتنة، ووقتها يعظم خطره، لأن الفتنة هي بوابة التهلكة. الفتنة حال تعني الخروج من أسيجة الوعي الى ما وراءه، وهذا الماوراء يفلت من قبضة العقل.

 خلصت في كتابك الى فكرة عميقة عبرت عنها بمصطلح "الفتنة" مفادها أن النص عندما ينكتب إنما يتمرد على المقولات التي تحرسه. وقد يذهب في وجهات جمالية معاكسة؟

ههنا بالضبط يشرع مبدأ الجاذبية المعاكسة في العمل. إن الخطابات التي جاءت تحرس الخطاب وتفنّنه وتضبطه كثيراً ما تحولت الى ميادين عمل للاختلاف. فصارت تكرس الفتنة التي نذرت نفسها لمطاردتها وإهدار دمها. صارت المتون التي صنّفت لتحرس المدينة وترقّيها من شرور الأهواء والرغبات تكرّس النزوعات والأهواء التي نذرت نفسها لمطاردتها. كفْت الكتابة عن كونها خطاب منع وزجر وتقنين، واستسلم منتجوها الى فتنة الكلام. اندسّ الخطاب الجمالي في تلاوين الخطاب الديني والوعظي وشرع في العمل. ولذاتها انتصرت الكتابة من جهة كونها مسرحاً لعمل الاختلاف.

إن مبدأ الجاذبية المعاكسة الذي يدير أنماط الخطاب في الثقافة العربية، ويحدد كيفيات تنافذها وانتشارها وتوسيعها لميادين عملها يتعارض مع مبدأ الهوية ويلغيه. ذلك أن التعامل مع النصوص باعتبارها ذات هويات ثابتة محددة تسمح بتقسيمها وتصنيفها الى خطاب جمالي وخطاب ديني وخطاب أخلاقي، يوهم في الظاهر بأنه صنيع يساعد على فهم القديم العربي وتقريبه منا فيما هو يحجبه ويغرّبه عنا، وهو تعامل بموجبه يقع الاحتفاء بالنصوص التي عدّها العرب القدامى مجسدة للأدبية، وإهمال تلك التي تعمّدوا السكوت عنها أو تلك التي لم يفكروا فيها أصلاً.

إنه لمن التبسيطية أن يقع النظر في رسائل الجاحظ مثلاً أو في كتاب البخلاء أو في رسالة الغفران باعتبارها وحدها النصوص التي تجسد عبقرية الثقافة العربية وطرائفها في إنتاج متخيلاتها ورموزها وتشخيصاتها التي ابتنتها في رحلة بحثها عن المعنى، والحال أن هذه العبقرية تبدو باهتة في تلك المواضع، لا سيما إذا قورنت تلك النصوص بنصوص أخرى تسجد الكيفية التي تفكر بها الثقافة في نفسها والكيفية التي تستسلم بها للحلم والرغبة، وتحلم ذاتها.

فسواء كانت هذه النصوص في السيرة أو في التاريخ أو في الرحلة أو في التصوف والحديث عن المعراج، أو جاءت في شكل منامات أو في شكل تفاسير للنص المقدس، أو تعدّت ذلك وتحولت الى كتب إباحية تمجّد الذات وتحتمي بالجسد، فإنها تظل تشير الى أن مبدأ الجاذبية المعاكسة يعمل لا يكلّ.

وهو مبدأ بموجبه تشهد أنماط الخطاب العديد من الانحناءات والتعرجات وتصبح ميادين عمل للاختلاف. وبموجبه أيضاً توهم كتب الوعظ والتفسير بأنها تتنزّل من المدينة في قلبها، وتذود عن قيمها وناسها، فيما هي تخترق من الداخل بما يجعل منها خطاب انشقاق وخروج وحلم، فتفلت من قبضة العقل أو تجتذبه الى نهاياته. وتتحول الى خطاب مأخوذ بالنهايات والأقاصي، خطاب فتنة.

صورة الشاعر

 هل هذه الآليات الخفية التي تعمل في ما وراء النص، لو في طبقات من النص التراثي العربي غير منظورة مباشرة هي من الأساسية الى هذه الدرجة التي تتحدث عنها؟

نعم، وأستطيع أن أقول أن ثمة إنابة، ثمة تبادل أدوار، ثمة استبدال أيضاً. فلقد اعتبر العرب الشعر خطاباً يصدر عن الأهواء الجارفة والعواطف القوية التي لا تروّض. وقرنوا بين الإبداعية وقوة الهوى. لذلك حرصوا على تقنين الشعر وضبط حدوده وحراسته. ظل الشعر يوهم بأنه خطاب فتنة وخروج وانشقاق فيما هو يشهد نوعاً من التبديل عصف بناره وذهب بلهبه داخل المدينة الإسلامية الناشئة. لم يعد يلبي حاجات الناس الجمالية فعزفوا عنه وهجروه. حتى صار تعاطيه بين الناس هجنة ومعزة، وشرعت الذاكرة الجماعية في حبك تاراتها من الشعر والشاعر. حقّرتهما معاً. وابتنت لهما، في كتب الأخبار وكتب أخبار الأدب، تصاوير في منتهى القتامة، توجّتهما بالسواد. وتفننت في حبك الأخبار التي ترسم للشاعر صورة بغيضة في منتهى الدونية، وللشعر منزلة تسوّيه بالبضاعة والسلعة. عبثاً حاول النقاد والمنظّرون أن ينتشلوا الشعر والشاعر من الهوان والضعة، لا سيما أن الدفاع نفسه كان ينطلق من الوعي المأساوي بأن دولة الشعر دالت وزمانه ولّى. والناظر في كتابات المنظرين والنقاد القدامى من أمثال ابن طباطبا وقدامة بن جعفر وعبد القاهر الجرجاني والقاضي الجرجاني وابن رشبق وابن حزم وابن خلدون وغيرهم يلاحظ، في يسر، أن الدفاع عن الشعر إنما كان يصدر عن اليأس من انتشاله. لذلك طفحت الكتابات النقدية بإدانة الذين لا يولون الشعر حقه من التبجيل، وشهّرت بهم. لقد تشكلت الكتابة النظرية في شكل خطابات متوترة غاية التوتر، ووصلت من شدة توترها أن التجأت الى السباب والشتائم تكيلها للناس لأنهم عزفوا عن الشعر وعدّوه معرّة ونقيصة وهجنة.
وفيما كانت الكتابات النظرية تقتصر للشعر منطلقة من وعي فاجع بأن زمن الشعر رحل: كانت كتب الأخبار وكتب أخبار الأدب التي تناولت سير الشعراء وأفعالهم تسطر ثارات الوجدان الجماعي، وتنتقم له من الشعر والشاعر فتتفنن في تدوين معراتهم ومثالبهم .لم يكن انتصار النظرية للشعر والشاعر يتشكل مقصوداً لذاته بقدر ما كان مأهولاً بالرعب من الخطابات التي شرعت تفتك من الشعر رياسته وتستحوذ على مكانته في الوجدان الجماعي، ومنها مثلاً ما برع انقصاصي في ابتداعه من قصص وتزيّد في الكلام يكرس الفتنة وينتصر للأهواء والرغائب، ويلبي حاجة الناس الى الفاتن والغريب والمغاير، وبذلك نشأ نوع من التعارض الخطير بين النظرية النقدية والمتون التي حدّثت عن أخبار الشعراء وسيرهم.

إن النظرية من ابتداع أعلام ونقاد ومفكرين معروفين ينتمون الى طبقة الخاصة. أما الأخبار التي حدّثت عن الشعر والشعراء فإنها ترد في المتون مسندة الى أجيال من الرواة. وهذا يعني أنها ظلت توسّع من دائرة انتشارها عبر الزمن، وهي لا تتنقل وتنتشر في منتديات مغلقة يرتادها الخاصة، بل توسع من دائرة نفوذها ورواجها خارج تلك المنتديات، وهذا ما يجعل منها خطاباً يمتلك سطوة في الوجدان الجماعي كما بيّنت.

خطاب الحداثة

 أرجو منك أن تتوسع في شرح مصطلح الجاذبية المعاكسة، وطبيعة عمله في النصوص القديمة؟

إن مبدأ الجاذبية المعاكسة لا يدير المتون القديمة فحسب، بل يتسلل الى الخطابات التحديثية ويشرع في تحديد مساراتها، لا سيما أن العديد من هذه الخطابات لم تتمثل الوشائج الدلالية التحتية التي تحكمت بأنماط الخطاب في القديم العربي، والحال أن تلك الوشائج التحتية كثيراً ما اضطلعت بدور المسيّر أو القناة التي من خلالها يتسلل القديم ويمكر الداعين الى تخطيه أو المنادين بتجاوزه قبل فهمه وتمثله في اختلافه وتمدده. لقد تشكل خطاب الحداثة، في أغلب الأحيان، مسكوناً الى حد الهوس بضرورة نسيان القديم ومحوه وطرده من الذاكرة. وإنه لمن الطبيعي أن يبادل ذلك القديم المطلوب طرده ومحوه تلك الخطابات التي جاءت تتنصل منه مكراً بمكر وكيداً بكيد.

إن خطاب الحداثة كثيراً ما تعامل مع المتون القديمة منظوراً اليها في ضوء المقررات النظرية التي ابتناها العرب القدامى. فلم يقع تمثل لحظات التقاطع بين الأجناس وما ينتج عنها من تضايف بموجبه تتحول أشد الخطابات التي حرصت على مطاردة الجميل والتزمت بمحاربة الفتنة، الى خطابات جمالية لا تقل إبداعية وفتنة عن الخطابات التي نذرت نفسياً لتهميشها وإقصائها وإهدار دمها. ولذلك تحول ما نظنه مساءلة للقديم ابتداعاً. وصار ما نظنه استكشافاً له نوعاً من الاختراع بموجبه توهم المساءلة النقدية أنها تنشد فهم القديم العربي في ما هي تبتني له صورة من اختراعها. وكثيراً ما تكون تلك الصورة مسرحاً لتمثلات استشراقية من ابتناء أشد الخطابات الاستشراقية الغربية ظلامية ورفضاً للآخر.

الجاذبية المتعاكسة

 لكن هل يمكن القول أن خطاب الحداثة العربي احتاج لأن يفصح عن رغبة صريحة في تأصيل نفسه، وهل إن هذه الحداثة المتوهمة ذاتها، تنطوي بدورها على عناصر مضادة لها؟

ههنا أيضاً يعلن مبدأ الجاذبية المعاكسة عن نفسه، لكنه لا يعلن عن نفسه في ما تلهج به الخطابات التحديثية من أطروحات ومقررات، بل يندس في ما تتكتم عليه ويحولها عن مقاديرها. فتوهم تلك الخطابات بأنها متلفتة الى قدّام، تنشد ابتناء المستقبل وتهفو الى تخليص الثقافة العربية عن وهنها وضعفها وعجزها عن الإسهام في تجديد أسئلتها والإسهام في ابتناء الثقافة الكونية، فيما هي تتشكل مخنوقة من الداخل بأطروحات أشد الخطابات عنوسية في الإسلام، ومقولات اعتى الخطابات الاستشراقية بغضاً للآخر ورفضاً للاختلاف.

وبذلك تستبطن النصوص الحديثة سواء كانت في التفكير الفلسفي أو في النقد أو في الشعر والسيرة والرواية حشداً من مفارقات مدوّخة، فتوهم بأن مدارها ومحصّل أمرها البحث عن تجديد أسئلة الثقافة العربية. لكنها تتشكل متلفتة الى الوراء، فتعيد انتاج المتخيلات والتشخيصات التي حفلت بها المتون القديمة، توهم بأنها تسائل القديم العربي وتفتتح قدّام الفكر سبل استكشاف ذلك القديم وطرق تمثله وتخطيه، لكنها تخترع لذلك القديم صورة من ابتداعها. وكثيراً ما تكون تلك الصورة المخترعة قاتمة في غاية القتامة. لأن منتج الخطاب التحديثي يرمي من ورائها الى حفز المتلقي على النظر الى قدّام والعزوف عن الماضي. لكن القديم العالق بوجدان ذلك المتلقي وجده كثيراً ما يدفع به الى العزوف عن تلك الصورة القاتمة والعزوف عن الخطابات التحديثية التي ابتنت تلك الصورة واخترعتها أن تعرّفها على القديم العربي.

هكذا تبرع المفارقات في نسج مكائدها وفتل أحابيلها. لذلك حالما يقع تملّي ما تلهج به الخطابات التحديثية من دعوات الى الحرية والاختلاف والديموقراطية وتحرير الفرد من سطوة المطلقات والمعاليات، من الطغيان والقهر والاستبداد، سرعان ما ينكشف أن مبدأ الجاذبية المعاكسة يعمل لا يكل. إذن، ما يوهم بأنه انتصار للحرية والديموقراطية وللاختلاف ليس سوى مظهر يخفي وراءه ميلاً الى الغلبة ونزوعاً الى التسلط والقهر.
لذلك حالما نتملى الشعر والرواية والسير الذاتية والمذكرات والخطابات ذات المنحى النقدي والفلسفي، أي مجمل أنماط الخطاب التي تؤسس مجتمعة جسد خطاب الحداثة – حين نتملأها – من زاوية المتخيل الذي تصدر عنه وتكرّسه. سرعان ما تتكشف لنا الصورة الحاصلة للمؤلف عن نفسه في الثقافة العربية. وهي صورة، تمثل في حد ذاتها، مفاجأة بغيضة من مفاجآت القراءة والبحث.

المؤلف المستبد

 ها نحن نصل معك الى خلاصة الخلاصة في بحثك المتعمق داخل جسد الثقافة العربية، إنك تلمس جمر السكوت عنه، فإلام توصلت؟

خلصتُ في هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة: الى أن طبائع الاستبداد المترسبة في أصقاع الذات العربية، هذه الطبائع البغيضة الموروثة عن أحقاب من القهر والبطش والدم المراق كثيراً ما تستبد بالمؤلف فيشرع في ممارسة سطوته على اللغة وعلى الكلمات وعلى الجنس الأدبي. فيما هو يمارس اعتى أنواع القهر والسطوة على متلقيه المفترض.

ثمة نوع من التباهي المروع ينشأ في لحظة الكتابة بين صورة المؤلف وصورة المستبد. حتى لكان المؤلف في الثقافة العربية المعاصرة إنما يصدر من الإحساس الفاجع استحالة الخلاص، فيمارس الكتابة لا باعتبارها نشاطاً له دوره التاريخي في تجديد أسئلة الثقافة العربية، بل يتخذ منها فك نجاة ليحقق خلاصه الفردي فيما هو يوهم بأنه منشغل بالخلاص الجماعي، أو لكانه إنما يوهم بأنه منشغل بالبحث عن سبل الخلاص الجماعي ليعلي نفسه ويمجدها متخذاً من المتلقين جميعاً وسائل لتحقيق اسهاماته الفردية فيما هو يتكتم على افتتانه بالغلبة والقهر والاستبداد، وافتتانه بصورة المستبد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى