الثلاثاء ٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧
بقلم محمد غاني

التجديد في التراث الديني

يذهب فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي.1. و هو من كبار الكتاب العالميين في القرن العشرين إلى أن " القيام بخطوة جديدة أو التلفظ بكلمة جديدة هو أكثر ما يخشاه الناس"2 ، أما الروائي العالمي مارسيل بروست ،3، صاحب رواية "البحث عن الزمن المفقود" فيرى في تقاطع مع الفكرة السابقة أن » رحلة الإستكشاف الحقيقية لا تستلزم الذهاب لأراض جديدة، بل تستلزم الرؤية بعيون جديدة « 4. لكن هاته الدعوة الى التجديد إن كانت دعوة منهجية علمية بحثة، ألا يمكن أن تتناقض مع الدين و مقاصده؟ أم هي أمر من صميم الدين غفل عن إتيانها أصحابه؟ و هل يا ترى هل هو من باب الضرورة أن نجد كل تجديد دعوة إلى القطيعة مع ما سبق من التراث؟ أم أن في ذلك استمرارية للماضي بحلة جديدة نقية من كل الرواسب؟
متحف الروح

هل يا ترى يجوز لنا أن نشبه المفاهيم الدينية بالمتحف الروحي الذي يزخر بذخائر نفيسة لا بد من تقديمها في طبق عصراني حتى يتم قبولها من طرف الشباب المليئ بكل حيوية و نشاط، منبهر بالحداثة و أزمنة ما بعد الحداثة، فإن لم نقولب ماضينا و تراثنا بحسب الوقت و متطلباته، قد نبدو لأنفسنا قبل أن نبدو للآخر الحضاري، خارج الزمن. يبدع رودولف بينغ الفنان النمساوي المعروف ،5، قائلا عن ما يشبه السياق الذي نرومه" نحن أشبه بالمتحف، إذ يتعين علينا أن نقدم للناس تحفاً قديمة في إطار عصري"6.

ألا يشبه عرض المبادئ الأبدية في كتاب أزلي بالمتحف الروحي؟ بلى. ألم يقل الله عز وجل في حق قومه الذين ابتعدوا عن مبادئ القرآن سواء قراءة بالعين (تلاوة) أو قراءة بالجوارح (تطبيق)، "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا"7 فعبر بالهجران و كأنه شبه الكتاب بالمكان في إشارة بليغة بأنه مكان روحي يأوي النفيس من المبادئ الأزلية العميقة في تاريخ الماضي كما في تاريخ المستقبل بمعنى بعيدة الأبعاد إن ماضيا أو حالا أو مآلا.

تحريك الراكد من المياه

قد يبدو هذا العنوان قريبا إلى علم البيولوجيا أو هندسة المياه منه الى المجال التداولي الذي يخصنا و هو مجال مقاربة الدين، في حين أنه ألصق بالدين منه الى هندسة المياه، فكيف يا ترى يزول اللبس و يرتفع الغموض و ينجلى نور الفهم؟ إن الرسول الأكرم سقى النبتة الانسانية ،التى أنبتها الحق من الأرض نباتا، بماء التوحيد حين أمرصحابته الكرام غير ما مرة بترداد كلمة التوحيد حيث روى ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه وكان جاهلياً فأسلم، قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا".8.

غريب أمر الدين هذا حين تتقاطع رؤيا الصحابي،9 ، مع وحي لفظ حديث الرسول بل و بوحي القرآن، ألا ترى معي أيها النبيه ذلك التقاطع الجلي بين لفظ "تفلحوا" في الحديث المذكور مع رؤيا الصحابي التي لقن عبرها ألفاظ الأذان ومن لفظه "حي على الفلاح، وتقاطع كل ذلك مع التعبير القرآن عن حقيقة الانسان و كونه نباتا خرج من الأرض و يرجع إليه حيث أعلن هاته الحقيقة المدوية قائلا عز من قائل"والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا"10 ، فيتضح مما سبق أن بما لا يدع مجالا للشك أن أوراد القرآن الكريم و كلمة الاخلاص شراب زلال "ورد روحي" يشربه كل من ورد رياض الجنة "الحديقة الروحية" أو "واحة التوحيد" من حلق للذكر و مساجد يذكر فيها اسم الله فتزهر الأرواح داخل أجساد الصالحين من هاته الأمة كما أزهرت ورود الصحابة الكرام بفضل فلاحة النبي الأكرم لأرضهم الروحية"القلب" فأصبحوا "كزرع أخرج شطأه فآزره يعجب الزراع"الأنبياء" ليغيظ بهم الكفار.11.

ان ثبت ما سبق في الفكر و القلب، تبين أن التجديد في الدين مطلوب لما فيه من تحريك الراكد من المياه ولذلك يبعث الله لهاته الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها12.
الخطأ مسلك للإبداع الديني.

فرق بين الإبداع و البدعة فالإبداع انطلاق مما في اليد و البدعة اختلاق مما ليس في اليد، أو قل الإبداع من السنن الحسنة و البدعة ادعاء للابتكار من دون سند أو أصل. انطلقنا في هذا التفريق من أقوال أصحاب العلوم الحقة في انتظار مقارنتها بأصحاب علوم الفقه في الدين.

يرى توماس أديسون ،13، المخترع الشهير أنه "لكي تخترع أنت بحاجة إلى مخيلة جيدة وكومة خردة"،14، فالمخيلة ضرورية لكن الانطلاق من شيء موجود أشد ضرورة و إلا كان مجرد دعوى أو سراب كما هو شأن السحر و السحرة.

أما الفيلسوف الإغريقي لوكريتيوس،15، فيذهب إلى أنه "لا شئ يمكن إبداعه من لاشئ"،16، و لذلك شبه النبي الأكرم علماء أمته الصادقين بأنبياء بني اسرائيل لأنهم لا يتخذون البدعة منهجا بقدر ما ينتهجون شرعة الابداع مسلكا، حيث أن الفرق بين الرسول و النبي ليس كما يفهمه البعض أن النبي يوحى إليه و لا يؤمر بالتبليغ و الرسول يؤمر، بقدر ما هو أن الرسول صاحب رسالة و النبي يعضدد من داخل الرسالة لذلك قال عز وجل لموسى"سنشد عضددك بأخيك"،17، فكذلك علماء الأمة الوسط مأمورين بالابتكار من داخل الدين حتى لا يمل تابعوه و سالكو طريقه من طول الطريق، و لا يخفى ذلك على علماء المقاصد الشرعية إذ يرون أن ذلك عين مقصود الشارع و اختلاف الشرائع و تنوعها داخل الشريعة الواحدة كما تغيرت الشرائع و الكسوة الخارجية (يهودية، نصرانية، اسلام) و بقي الدين و روحه واحد وهو توحيد الإله (المعنى الحقيقي للإسلام).

خاتمة.

إن دور المفكر و المثقف و العالم داخل المجال التداولي لمقاربة الدين هو تحريك الراكد من المياه ليتقد نور الفكر و الروح داخل انشغالات كل مسلم و مؤمن بتوحيد الإله بصفة عامة ليبدأ في تحديد موقعه في طريق المحجة البيضاء أو قل داخل منهج و شرعة بحثه عن ذاته في هذا الوجود و من ثم نزوعه الى البحث عن خالقه وفاطره.

إنه فقط بهاته الفلسفة الدينية يمكن أن نفهم التراث الديني لا أن ننطلق من رؤية قاصرة للدين على أنه حزمة من الشرائع التي ينبغي أن تؤدى كل يوم و بشكل معين حتى دون التدبر في مغزاها فيكون مصير الممتثلين لها دون إعمال فكر كمثل الطفل الصغير الذي يأمره والده بالالتزام بالذهاب للمدرسة فإن هو امتثل دون وعي بمقاصد والده من تلك الأوامر فإنه سيرجع لا محالة بخفي حنين، كما هو الشأن سلفا لدى أغلبية المتمدرسين في عالمنا العربي.

لا عجب بعد ذاك أن يكون تحريك التساؤلات حول ما يبدو بديهيا في الدين ليتم التفكير فيه من جديد حسب مقتضيات العصر، لهو من أولى الأولويات التي ينبغي على كل مثقف و مفكر التنبيه اليها حتى نبدع نمطا جديدا للتفكير الديني، ذلك أن الاسلام مدرسة روحية على المتمدرس داخل مجالها أن يعرف مقصودها ليحصل النتائج المرجوة و الترقي المنشود.

الهوامش

1- فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي (بالروسية: Фёдор Михайлович Достоевский) (11 نوفمبر 1821 - 9 فبراير 1881).

واحد من أكبر الكتاب الروس ومن أفضل الكتاب العالميين، وأعماله كان لها أثر عميق ودائم على أدب القرن العشرين.
العديد من أعماله المعروفة تعد مصدر إلهام للفكر والأدب المعاصر، وفي بعض الأحيان يذكر أنه مؤسس مذهب الوجودية ، للتفصيل انظر موسوعة ويكي بيديا، تحت اسم فيودور دوستويفسكي.

2 - انظر موقع http://neverssurender.blogspot.com/ عن السعادة و النجاح في الحياة.

3 - مارسيل بروست (Marcel Proust؛ 10 يوليو 1871 - 18 نوفمبر 1922) روائي فرنسي عاش في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 في باريس ، من أبرز أعماله سلسلة روايات البحث عن الزمن المفقود (بالفرنسية: À la recherche du temps perdu) والتي تتألف من سبعة أجزاء نشرت بين عامي 1913 و1927 ، وهي اليوم تعتبر من أشهر الأعمال الأدبية الفرنسية. للتفصيل انظر موسوعة ويكيبيديا تحت اسم مارسيل بروست.

4 - انظر موقع http://neverssurender.blogspot.com/ عن السعادة و النجاح في الحياة.

5 - رودلف بينج بالإنجليزية (Rudolf Bing 9 يناير 1902- 2 سبتمبر 1997 ) متعهد حفلات نمساوي المولد.

عمل في برلين ودارمشتاد خلال العشرينات والثلاثينات قبل تولي مسئولية قيادة أوبرا جليندبورن عام 1936. صار رعية بريطانية سنة 1946 وساعد في تأسيس مهرجان إدنبره. للتفصيل انظر موسوعة ويكي بيديا تحت مسمى رودلف بينج.

6 - انظر موقع http://neverssurender.blogspot.com/ عن السعادة و النجاح في الحياة.

7 - الفرقان 30.

8 -أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (15448) وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" برقم: (834).

9 - عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب بالناقوس وهو له كاره لموافقته النصارى طاف بي من الليل طائف وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله قال فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال وما تصنع به؟ قال قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خيرٍ من ذلك فقلت: بلى. قال تقول: الله اكبر …. إلى نهاية الأذان، قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألْقِ عليه ما رأيت فإنه أندى صوتاً منك قال فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجرّ رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي أُرِي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد. رواه أحمد (15881) والترمذي (174) وأبو داود (421).

10 -نوح 17-18.

11- اشارة الى قوله تعالى"محمد رسول الله. والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مثلهم في التوراة. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه، فآزره،فاستغلظ، فاستوى على سوقه، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما" الفتح 29.

12 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
(إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دينها)
رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (149) ، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/599)

13- توماس إديسون (1841-1931): هو مخترع أمريكي أخترع المصباح الكهربائي وطوره واخترع نظام توليد الكهرباء وأداة تسجيل الصوت وأخترع العديد من الأجهزة التي أثرت على البشرية ويعد أديسون رابع مخترع أكثر إنتاجاً في التاريخ بما حققه من اختراعات مثل تطوير جهاز الفوتوغراف وألة التصوير السينمائي بلإضافة إلى اختراع المصباح الكهربي المتوهج الذي يدوم طويلاً، فقد لقبه أحد الصحفيين بلقب (ساحر مينلو بارك).

14- انظر موقع http://neverssurender.blogspot.com/ عن السعادة و النجاح في الحياة.

15- تيتوس لوكريتيوس كاروس حوالي 99-55 ق م, فيلسوف وشاعر روماني. عمله الوحيد هو القصيدة الفلسفية الملحمية De rerum natura، وتعني على طبيعة الأشياء، أو على طبيعة الكون، وهي عن معتقدات الإبيقورية.

16- انظر موقع http://neverssurender.blogspot.com/ عن السعادة و النجاح في الحياة.

17- القصص 35.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى