الأربعاء ٤ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم صلاح السروي

الدولة المدنية والدين

ما أن تحقق الانتصار الأول والحاسم لثورة الخامس والعشرين من يناير فى مصر بازاحة رموز النظام القديم عن سدة الحكم .. وقبل أن تتشكل ملامح الدولة الجديدة، حتى أخذ الجدل (بأشكاله الفكرية والسياسية والدينية) فى التزايد على الساحة السياسية والمجتمعية فى مصر، حول طبيعة وشكل الدولة القادم، وهل يكون مدنيا - ديمقراطيا؟ أم دينيا – اسلاميا؟ أم مدنيا بمرجعية اسلامية؟ ومن المهم هنا الاشارة الى الحضور القوى لجماعات الاسلام السياسى فى مصر منذ زمن السادات، والذى تزايدت قوته نتيجة لعوامل متعددة ليس مجال الخوض فيها الآن.

ولا يزال الجدل دائرا، وأظنه سيبقى حتى اقرار الدستور الدائم لمصر. وقد تمثلت الحادثة الأكثر بروزا والتى أدت الى تسخين هذا الجدل، فى الملابسات التى أحاطت بواقعة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، التى خاضتها بعض القوى تحت شعارات دينية واضحة .. بدءا من القول بأن "التصويت بنعم واجب شرعى"، وانتهاء باعتبار البعض أن الموافقة على هذه التعديلات وانتصار رأى القائلين ب(نعم) لم يكن ناتجا عن رغبة أغلبية المصوتين فى تحقيق الاستقرار والتجاوز السريع لمرحلة الثورة الى مرحلة الدولة، انما هو تعبير عن انتصار لهذا الاتجاه الدينى على التحديد، فأسماه أحد شيوخهم ب"غزوة الصناديق".. بما تحمله تسمية (الغزوة) من معانى الغلبة والقهر ذات الطبيعة الدينية الواضحة، بالاحالة الى الدلالات التاريخية للحروب الدينية فى العصور الاسلامية الأولى.

هكذا أخذ الأمر أبعادا تجاوزت الموقف السياسى لتصل الى الصراع الطائفى - الدينى المباشر. خاصة اذا عرفنا أن بعض المصوتين ب(لا) كانوا من المسيحيين، الى جانب باقى المصريين بالطبع، الذين رفضوا هذه التعديلات لأسباب متعددة .. لعل أبرزها الاعتراض على الصلاحيات الواسعة الممنوحة للرئيس. بينما كان دافع القائلين بنعم، من أصحاب الاتجاهات الدينية، هو ماعتبروه حفاظا على المادة الثانية من التعديل الدستورى، الذى تابع ماجاء فى الدستور السابق، من أن الدين الرسمى للدولة هو الاسلام، وأن مبادىء الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع.

فبدا الأمر وكأنه صراع بين أنصار الدولة الدينية من المحافظين على الصفة الدينية الاسلامية للدولة المصرية.. وأنصار الدولة المدنية (التى يمكن أن تفهم هنا، حسب دعايات الفريق المشار اليه من أصحاب ال"نعم" على أنها دولة لادينية، وربما كانت فى نظرهم معادية للدين على نحو مباشر وصريح).

وبصرف النظر عن واقعة الاستفتاء، (فقد ثبت أنها كانت خالية من المعنى ، نظرا لصدور اعلان دستورى عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بعد ذلك، شمل أكثر من ستين مادة دون اللجوء الى استفتاء أو غيره)، فانه من الواضح هنا وجود قدر هائل من الخلط أوعدم الدقة فى تعريف وفهم كلا المفهومين (أى الدولة الدينية والدولة المدنية) .. فهل كانت الدولة السابقة على الثورة دولة دينية لمجرد النص على أن دين الدولة هو الاسلام ؟؟ وبالتالى، هل الغاء هذا النص يعنى أن الدولة قد أصبحت ملحدة مثلا ، أو معادية للدين ؟؟ وما معنى الدولة المدنية ؟؟ وما موقفها من الدين ؟؟ وما معنى الدولة الدينية ؟؟ وهل قيامها يحقق صالح الدين أو صالح الوطن ؟؟ وهل حققت تجارب الدولة الدينية المعاصرة نجاحا وازدهارا لشعوبها من أى نوع ؟؟

لقد عرفت البشرية مفهوم "الدولة الدينية"، ومقابله "الدولة المدنية" ورديفها "العلمانية"، فى العصور الحديثة فقط، عندما أطلقت هذه التسمية (الدولة الدينية) للدلالة على الدولة التى تتمتع فيها الكنيسة، باعتبارها ممثلة للسلطة الروحية (الدينية)، فى الوقت نفسه بنوع من السلطة الزمنية (الدنيوية). أى أنها جهة واحدة تجمع السلطتين معا: الدينية والدنيوية، وهو ما كان حادثا فى أوربا خلال العصور الوسطى، ولايزال يحدث حتى يومنا هذا فى بعض البلدان. فكانت تقوم بتنصيب الملك ومنحه الشرعية، وتقوم ببعض أدوار الشرطة والقضاء، فتقبض على من تراهم مخالفين، وتطبق عليهم الأحكام. وتجمع الضرائب وتتدخل فى الأنشطة الفكرية والعلمية والفنية والسلوك الشخصى للأفراد .. الخ. ولم يخل الأمر من بعض المذابح والكثير من ألوان الاضطهاد والارغام فى حق أصحاب الأديان المغايرة كاليهود (والمسلمين فى الأندلس) .. وحتى فى حق المسيحيين أنفسهم من أتباع الطوائف أو المذاهب المخالفة كالمذابح المتبادلة بين البروتستانت والكاثوليك والتى ظلت بقاياها ماثلة الى عهد قريب فى الجزء الانجليزى من ايرلندا. وكانت الكنيسة تقوم بذلك مدعومة من - أو متحالفة مع – الملك والاقطاعيين، فى حلف طبقى - سياسى – دينى، يتحكم فى أرزاق ورقاب البشر والشعوب.

حتى قامت الثورة الفرنسية (1789) وما تلاها من ثورات فى مواجهة هذا النظام بأكمله، وأصبح من المحتم ازاحة السلطة الملكية الاستبدادية (الأوليجاركية) مع كل حلفائها من رجال الدين والاقطاعيين. لتقيم مكانه نظاما آخر، مدنيا، يقوم على الدستور والقانون والمؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية المستقلة ، وليعود الدين شأنا دينيا صرفا وليس مرتبطا ب – أو مهيمنا على - أى شأن آخر، كما هو متعارف عليه الآن فى معظم دول العالم المسمى بالحر أو الديمقراطى.

وقد عرف التاريخ العربى والاسلامى، بدوره، ألوانا متفاوتة من الصراع السياسى القائم على أسس دينية وعلى الاستغلال السياسى للدين، بدءا من واقعة التحكيم بين على (رضى)ومعاوية، واضطهاد المخالفين فى الرأى والتعامل العنيف معهم بوصفهم كفارا، مثل ما حدث مع أبو منصور الحلاج والسهروردى وابن رشد والخوارج والشيعة والزنج والقرامطة .. الخ. و لايزال الاستخدام السياسى للدين قائما بدرجات متفاوتة فى معظم البلدان العربية والاسلامية. ولعل أبرزها فتوى تحريم التظاهر ومعارضة الحكام فى السعودية ، واعتبار المعارضين من أولياء الشيطان فى ايران.

ان هذا يعنى أن الدولة تكون دينية بقدر ما يتحكم فيها (بدرجة أو بأخرى) رجال الدين ، أو ممثلو الدين، بمقتضى صفاتهم الدينية أو بارتكازهم على دعاوى دينية (وليس باعتبارهم مجرد متدينين عاديين)، فى الشأن السياسى العام، كأن تتم صياغة القوانين العامة على أسس دينية ولخدمة أصحاب الدين المعين أو حسب تعاليمهم الدينية، دون غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى من المواطنين. أو أن تتم التفرقة بين المواطنين واستبعاد جنس أو طائفة منهم وحذفها من الحياة العامة، كالمرأة أو الأقباط مثلا، تبعا لتعاليم هذا الدين. أو أن يتم قصر نوع من الوظائف العليا على طائفة دينية دون غيرها. أو أن يتم التدخل القسرى بالتحريم أو التجريم والمنع والمعاقبة، فى شئون غير دينية بطبيعتها كالعلم والفن والفكر. أوالتدخل فى سلوكيات الأفراد وحرياتهم الشخصية .. الى غير ذلك، تحت ذرائع دينية مزعومة. مما يمكن أن يصبغ المجتمع بنوع من الاستبداد والشمولية المتسترة بالقناع الدينى.

وغنى عن القول أن الدولة قد تكون استبدادية ولكنها غير دينية، بينما تستعين برجال الدين أو بالدعاية الدينية فى مواقف أو لحظات تاريخية معينة، بغية تحقيق أغراض سياسية واضحة، مثلما فعل السادات ومبارك وصدام حسين وجعفر نميرى وضياء الحق .. الخ. ولكن لايمكن القول أن الدول فى عهود هؤلاء كانت دينية، وانما كانت توظف الدين وتستخدمه كما تستخدم أية أداة دعائية أخرى، فى نفاق أوخداع جمهورها. ان هذا يعنى أن مجرد ذكر عبارة "الدين الرسمى للدولة هو .." الخ، لايعنى بالضرورة أن هذه الدولة تعد دولة دينية بالمعنى الكامل للكلمة. وان كانت قابلة لذلك ، أو مرشحة له على نحو أو آخر، مثلما حدث فى السودان بعد حعفر النميرى.

وقد تقوم الدولة على أسس دينية أو طائفية محددة وواضحة، بما يعنى أنها دولة لأصحاب هذا الدين أو الطائفة فقط، وما يستتبع ذلك من اجراءات وقوانين وممارسات ، تفضى فى مجملها الى أن يتحول كل أتباع الديانات أو الطوائف الأخرى الى مواطنين من الدرجة الثانية، وربما لايصبحون مواطنين بالأساس. وفى المقابل يصبح المواطنون المنتمون لدين الدولة محكومين بمراسيم دينية تتحكم فى فكرهم ووعيهم وسلوكهم، بصرف النظر عن اراداتهم أو رغباتهم الخاصة، وتصبح المرجعية الحاكمة التى يقاس عليها صواب وخطأ أية فكرة أو موقف أو سلوك، هى فتاوى رجال الدين أو قادة الجماعات الدينية. وهذا يوضح ما صرح به عدد من بعض أصحاب الاتجاهات الاسلامية المتطرفة ، من أن الديمقراطية ليست نظاما اسلاميا، من وجهة نظرهم. لأن الحاكمية فى الاسلام، حسب زعمهم، انما هى لله الذى بث أحكامه فى النصوص الدينية المقدسة، متمثلة فى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة.

ولأن هذه النصوص متعددة المستويات من حيث الوضوح والتعقيد، فمنها المحكم ومنها المتشابه ومنها الناسخ والمنسوخ، وتتأثر فى فهمها بدرجة الوعى اللغوى، والبلاغى، والوعى بأسباب النزول .. الخ، فانها تحتاج الى شيوخ متخصصين من أجل شرح وتبيين الحكم الدينى على وجه الدقة واليقين. من هنا أصبح ما يسمى بحاكمية الله، فى حقيقته، ليس الا حاكمية الأمير أو الشيخ الذى يفسر هذا النص الدينى ويستخرج معانيه. ولأن هذا الأمير أو الشيخ مجرد انسان يداخله الهوى والنقصان والغرض، اذا بالدين يتم احتكاره وتأميمه لصالح فئة محددة وربما لصالح شخص واحد، ومن ثم يتحول الى لعبة سياسية بامتياز، وتتحول الدولة التى يستمد حكامها شرعيتهم من الدين الى شموليات استبدادية ظلامية يسودها القمع والقهر والتخلف بمختلف ألوانه وأشكاله، فمنذا الذى يحق له معارضة من ينطق بلسان السماء ويحقق ارادتها !!. لذلك حدث ما عرفه التاريخ الاسلامى بمحنة أحمد بن حنبل وما أشرت اليه آنفا من حروب الخوارج والشيعة والفرق الكلامية التى يدعى كل منها أنه وحده الفرقة الناجية والباقون كفار ومصيرهم فى النار ودمهم حلال .. ومثلما حدث فى دولة طالبان أفغانستان من صدور أحكام بالغة الغرابة والعجب، كتحريم الحلاقة مثلا أوتحريم الموسيقى وتعليم البنات .. الخ. وما يحدث فى السودان والصومال من صراع لانهائى يكون ثمنه ضياع الانسان والأوطان. أو أن يصبح الدين أحد أسلحة "المتغلب" الذى لايتورع عن اشهاره فى وجه خصومه حتى لو كانوا ينتمون الى الدين ذاته، ويستخرج منه ما يبرر اجبارهم على طاعته وتقديس سلطته، والا حق له قتلهم ومحقهم. هل لذلك علاقة بما صدر فى السعودية مؤخرا من مراسيم (غير السابق الاشارة اليها)، مدعومة بفتاوى دينية بالطبع، تحرم توجيه النقد أوالاعتراض لأى من رجال الدين أو الحكام، معا ؟؟.

هذه هى الدولة الدينية التى يرى بعض الفقهاء، مثل الماوردى ومحمد عبده وعلى عبدالرازق وغيرهم، أن لاعلاقة لها بالاسلام. وأن الاسلام، حسب الأخيرين تحديدا، انما يقوم على أن الأمة – الشعب، هى مصدر السلطات وأن نظم البيعة، والشورى، وعدم جواز احتكار الحقيقة الدينية أو الدنيوية، انما هى الأجنة الأولى لدولة القانون والمؤسسات والحريات بالمعنى المعاصر للكلمة.

ان هذا يعنى أن البديل الوحيد الممكن، الذى يتفق مع الفهم المتطور لصحيح الدين والذى يقبله عصرنا ويحقق مصلحة بلادنا ويحفظ وحدتها، والذى يستطيع أن يجنبنا مصير أفغانستان والصومال وممارسات الزرقاوى (الملقب بأمير الذباحين والذى قتل من المسلمين أضعاف ماقتل من المحتلين فى العراق) وملالى ايران .. الخ، يتمثل فى نموذج الدولة المدنية الديمقراطية. وهى الدولة القائمة على أن السلطة فيها للشعب وهو مصدر شرعية الحكم، وأن مصلحته ورضاه هما معيار الصواب والخطأ فى عمل الحكام. انها تلك الدولة القائمة على حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير، وأن الشعب يمثل كيانا واحدا غير مجزأ ولا ينبغى السماح بوجود أى تمييز بين أبنائه فى الحقوق والواجبات على أى أساس، سواء أكان العرق أو الدين أو الجنس .. وأن هذا الشعب يمثل، فى جملته، كيانا راشدا لايحتاج الى وصاية ولا هيمنة من أحد مهما بلغ شأنه . وأن هذه الدولة تدار عن طريق دستور يتم اقراره على نحو ديمقراطى ويتفرع عنه جملة من القوانين تقوم بسنها سلطة تشريعية منتخبة ومستقلة، وتقوم بتنفيذها سلطة تنفيذية مستقلة ومسئولة أمام الشعب، ويفصل فى خلافاتها سلطة قضائية مستقلة بدورها، ولا سلطان عليها الا سلطان القانون .. الى غير ذلك من أحكام تقوم جميعها على فكرة أن الدولة انما هى ملك للشعب وخادمة له وليست متسلطة عليه. كما أنها كيان بشري لاقدسية له ويمكن نقده وتعديله وتطويره متى دعت الحاجة ومتى اتفقت ارادة الشعب أو أغلبيته على ذلك.
ان الدولة المدنية، اذن، هى دولة القانون القائمة على فكرة المساواة والعدل والحرية فى مقابل كل معانى الاستبداد والقهر والشمولية. كما أنها الدولة الوحيدة التى يمكن أن تحفظ للدين قدسيته وتحميه من الابتذال والاستغلال فى غير موضعه وفى غير ما أنزل من أجله، ان دور الدين هو الحفاظ على مكارم الأخلاق (انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والسمو الروحى القائم على التدين الاختيارى الخالى من القسر والخوف من المطوعة ورجال الهيئة اياها، والرقى الانسانى القائم على الرحمة والعطف والمحبة. كما أن هذه الدولة المدنية هى الوحيدة التى تقوم على حماية حق الاعتقاد والايمان، وتحمى جميع المتدينين من طغيان وقهر أتباع الأديان الأخرى. فالجميع أمام القانون سواء ، والجميع مواطنون مصريون يمتلكون وطنهم وحريتهم.

ولا حرية لوطن يرسف أبناؤه فى أغلال العبودية

ولا حرية لأعداء الحرية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى