الاثنين ٢٣ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم حسين سرمك حسن

الساموراي العاشق الأخير

يوما بعد آخر يتخلى الشعراء العرب عن أعظم قضاياهم المركزية التي هي المفتاح لباقي الاهتمامات الإنسانية والوجودية، ألا وهي قضية الحب، حب المراة تحديدا، وما يتفرع عنه من إنشغالات تتصل بالأمومة والأرض والطبيعة والإنتماء وغيرها، حدّ أن شعراء كبارا معروفين بدأوا قبل أكثر من نصف قرن، عشاقا كبارا، وإذا بهم ينتهون الآن وقد نفضوا أيديهم الشعرية من هذه القضية المفتاح بدعوى أنهم صاروا «رائين»!! وبهذا يخسرون الشحنة العظيمة المنعشة المسؤولة عن وجودهم إنسانيا وشعريا. يقول المحلل النفسي الفرنسي «بيير داكو»: (نساء أيامنا هذه أو النساء منذ بعض الزمن هي الاستطاعة الخفية التي تقود العالم، سواء كن سراري بيوت الحريم أو الخدور أو مومسات أو عشيقات أو زوجات وأمهات أسر، فليس نظام الأبوة ولو كان هادرا سوى مزاح لطيف بالقياس إلى القوى الغامضة التي يتصف بها النوع الأنثوي). وقد يكون التحول من موضوعة المرأة العظيمة إلى موضوعات الرؤية ممثلة في عروق النحاس وإسقاطات المربع الأزرق والمرايا الميتافيزيقية وغيرها مرتبطا، عند بعض الشعراء، بضمور قواهم النفسية والجنسية مع تقدمهم في العمر. إنهم ينسحبون من أروع ساحات المواجهة الشعرية وأكثرها سخونة وضرورة لزرق مصل الحياة والنماء والديمومة في عروق وجودنا التي أيبستها حركة الحضارة المادية الساحقة. إنهم يخلون المضمار أمام حركة العولمة الكاسحة، التي تهدف، ببساطة، وفي تعليق طريف لأحد المختصين بعلم الاجتماع، إلى تحويل الإنسان إلى أنبوب يمتد من المطبخ إلى المرحاض عبر خلخلة كل القيم الجميلة التي تتأسس عليها حياة المجتمعات البشرية، وتحويلها إلى مفهومات تتعلق بالحركة اليومية المتعلقة بسد حاجات البقاء الحيوانية. إن استقرار أي قيمة معنوية يجعلها قيمة جوهرية في مسيرتنا وأطر علاقاتنا الإنسانية، في حين أن خلخلتها وجعلها مهتزة الدعائم ومتغيرة الدلالات في حيواتنا يجعلها عابرة وغير حاسمة في تقرير ماهيات سلوكياتنا. قبل سنوات سئلت مجموعة من الشباب والشابات الأمريكان عن معنى الرومانسية، فأجاب غالبيتهم بأنها الإتصال الجنسي بالشريك في "البانيو" أو في الحديقة تحت المطر!! وصحيح، بطبيعة الحال، أن التحولات الجذرية التي حصلت في المجتمع قد طالت المفاهيم الروحية والأخلاقية والسلوكيات الجنسية، ولكن حركة "تصنيع" الحب العارمة التي تشهدها المجتمعات الغربية، والتي تحاول شركات الإعلام والموضة والسينما والجنس عابرة القارات الكبرى هناك تصديرها إلى العالم، مسؤولة عن جانب كبير من مسخ وتشويه تلك المفاهيم الجميلة في الحياة الإنسانية وفي مقدمتها: الحب، الحب الذي لم يكن له، ولم يبق له من نصير منافح غير الشعراء. فالشعراء هم " الساموراي الأخير " الذي أخذ على عاتق روحه مسؤولية الدفاع عن آخر معاقل الحب في الحياة البشرية. فهم يدركون أن الإنسان لا يتربع على هامة المملكة الحيوانية إلا لأنه "حيوان رومانسي":

(مُرّي بصحرائي
لِيُعْشِبَ
بلقعُ..
حتى الرّصيفُ إذا مررتِ
سيخشعُ
إنْ كان حُسْنُ الأخرياتِ قصيدة ً
فجمالُ وجهِك ِيا أميرةُ
مَطلعُ..)

ومن هؤلاء الشعراء الذين تصدّوا، وعبر أكثر من أربعين عاما من مسيرته الشعرية، وبدءا من أول مجموعة شعرية له "عيناك دنيا"، لمعالجة موضوعة الحب، والإنهمام العميق والملتهب بالمرأة المعشوقة بتمظهراتها الوجودية كافة، بإيمان حقيقي وإدراك ثاقب، هو الشاعر "يحيى السماوي. وتأتي مجموعته الأخيرة هذه "بعيدا عني.. قريبا منك"، لتؤكد نظرتنا هذه.

درس من "حافظ الشيرازي":

(هناك وصف أسطوري ومثير للقاء بين حافظ الشيرازي والشخص الأكثر شرّا في ذلك الوقت، الغازي القاسي تيمورلنك، الذي اندفع بقوة في جنوبي فارس، وقتل سبعين ألف شخص في أصفهان، ودخل شيراز في ديسمبر من سنة 1387 م. استدعى حافظا الكبير السنّ، كانت سنّه آنذاك سبعا وستين سنة، وقابله بأبيات من إحدى القصائد:

(إذا كانت الحسناء التركية تقبلني
فسأعطيها بدل خالها بخارى)

ثم قال تيمورلنك بغيظ:

"بسيفي الصقيل أخضعت معظم العالم، وأنت شاعر بائس سيّء الحال تبيع مدينتي وقاعدة ملكي بخال على خدّ فتاة ؟!"

أجاب حافظ حانيا رأسه احتراما:

" أنت على حق، إنه بسبب هذا الإنفاق المتهوّر آلتُ إلى الحال البائسة التي تجدني عليها الآن".

سُرّ الإمبراطور كثيرا بحافظ، ولم يكتف بأن أعفاه من العقوبة بل بعثه بعيدا وقدّم له أُعطية – كتاب "يد الشعر" – ص221 و222 )(1).

.. وإذا كان "حافظ الشيرازي" الشاعر المتصوّف مسرفا، أوصله إنفاقه المتهور في الحب إلى الحال البائس الذي رآه عليه تيمورلنك، فإن وريثه الماكر "يحيى السماوي" يشترك معه في هذا الإسراف الجنوني في الإنوخاذ – وليس بتعبيرات المتصوفة رغم محاولة يحيى التستر بأرديتهم الأخاذة – في الحبيبة "اللاتسمى":

(جِئْتُ ياقانِتتي الزهراءَ
أشكوني إليْك ِ
فأنا أصْبَحْتُ غيري:
سُفني ترفضُ أنْ تُبْحِرَ
إلآ
لـمراسيْ شاطِئيك..
وطيوري
لا ترى منْ شجَر ِ البستان ِ
إلآ
ناهِدَيك ِ..
وفمي
أعْلنَ إضرابا ً عن التقبيل ِ
إلآ
شفتيْك ِ..
ودروبي
كلها تنبذ خطوي
حين لا يأخذني الخطوُ
إليْك ِ
ويديْ
تَصْفعُني لو مَسّدتْ
غيرَ يديك ِ..
وفؤادي
لا يرى شِعري جَديرا ً
بمداد ِ النبض ِ
إلآ
عندما يهطلُ أمطارا من الدّفء ِ
عليك ِ..
ما الذي أبْقيتِ مِني
للينابيع ِ..
وللأرطاب ِ..
والأطياب ِ..
والأحباب ِ..
والأصحاب ِ..
إنْ كنتِ ملكْت ِ الأمرَ مني
وأنا -كُـلّـي -لدَيْك ِ ؟..)..

ويحيى يشترك مع الشيرازي -ومع الشعراء المتصوفة عموما-في صفة الإسراف المتهور الآسر في التعلق بالمحبوب.. في غربته عن ذاته عندما لا تكون المعشوقة في ذاته.. في ضياعه حينما لا يكون مأوى سفنه شاطئ الحبيبة الدافئ.. وفي تشتت بعضه وقت أن لا يكون كلّه بين يدي "قانتته". لكن يحيى له امتيازاته الخاصة التي أسسها بعرقه الشعري والتهاب انفعالاته الحبية؛ امتيازات تضع له توصيفا يجعله يفترق عن سبيل حافظ وأنداده. لقد اسس يحيى "بنية" خطاب صوفية في رسائله الملتهبة التي يوجهها إلى حبيبته. لقد اختار اسما ذا مسحة دينية/ صوفية معروفة استولى على المجموعة وهو: الزهراء:

(أنزلتُ خارطة الصبابة ِ من جدارِ القلبِ..
علّقْتُ التي ليستْ تُسمّى..
زخّتِ الزهراءُ منْ عليائها
مَطرا ً من الضّوء ِ المُبارَكِ..
فاسْتحَمَّ القلبُ بالنور ِ المُقدّسِ
فرَّتِ الظلُماتُ من ليلي
فحيثُ مشيتُ يأتلِقُ الطريقْ
بشموس ِ قانتتي الأميرة)..

وهو -أي يحيى-حين يوصّف محبوبته بهذا الإسم الأنثوي: الزهراء، فإنه يخلق فارقا شاسعا بينه وبين الشعراء المتصوفة الذين يضعون موضوع حبهم في صيغة المذكّر لأسباب نفسية عميقة ليس هنا مجال تناولها. وهو يفترق عنهم كذلك في أنه لا يتردد في إضفاء "أسماء حسنى" على هذه الحبيبة، فهي التي تختصر الأسماء، وهي المئذنة الضوئية.. وهي ذات أسماء "أرضية" مشتقة من الطبيعة التي هي ؛ الأنثى، رمزها وخلاصة فعلها، هي النجمة والوردة والنخلة.. لكنه سرعان ما يقفز – وهذه من سماته الأسلوبية التي عالجناها سابقا(2)-من أرضية التسميات اليومية المعتادة إلى التسميات والصفات الوجودية الحاسمة شبه المؤسطرة، فهي الماء المحيي الذي جعل الله منه كل شيء حيا، وهي المحراب المقدس الذي يفتح ابواب الفردوس:

(وأسَمّيها: التي تختصرُ الأسماءَ..
والمئذنة َ الضوئية َ..
النخلة َ..
والوردةَ..
والنجمة َ..
والماءَ الذي
يُحْيي هشيما ً ويَبابْ
والتي مِحرابُها
يفتحُ للجنّة ِ
بابْ..)

.. وحتى في التسميات والتوصيفات الأرضية / البشرية هي جامعة مانعة لكل شيء في وجود الشاعر المتيم. إنها في مجموع صفاتها ومسمياتها هي في المعنى الباطن لحضورها الموضوع الأمومي الكلّي.. وهو – أي الشاعر – ومن جديد، يتحول من هذا الكيان الموصف الأرضي / البشري، إلى ما هو فائق الفعل.. متعال.. شبه مؤسطر:

(الأنيسة ِ..
والنّديمة ِ..
والصديقة ِ..
والعشيقة ِ..
والرّفيقة ِ..
والحبيبة ِ..
والتي نفخَتْ بروح ِ العشق ِ
في صحراءِ عمري
فاسْتحالَ الرّملُ ياقوتا ً
وصار حصى مفازاتي
الزّبُرْجدَ والعقيقْ)

ويحيى لا يتردد في استعارة الصفات المقدسة ليمزجها في تركيبة مغيبة بصفات حسّية منعشة فتساهم هذه التركيبة في تخدير ردة فعل البصيرة الناقدة، تخديرا يعبر عن وقفة تصافقية لأنانا الأعلى.. وعلى وفق هذا المخطط يدس الشاعر الكثير من سموم الهبوط بمقررات التعالي السماوي المرجعية في عسل التحليق بممكنات الإنتفاخ النرجسي الأرضي الشعرية، في خلطة خطابية تضمر ما هو مؤسس مهيب لصالح ما هو مبتغى عشقيا:

(يا حبيبي
أيّها الآمرُ..
والواهِبُ..
والمانِحُ..
والمُمْسِكُ..
والمُمْطِرُ دفئاً وعبيرْ
جئتُ مذبوحاً من الشوق ِ..
ظميئا ً..
فاسْقني من ثغركَ العذب ِ
ولو
كأسَ زفيرْ..)

وسريعا سأستبق ما يمكن أن يثور في ذهن المتلقي من إمساك نقدي محق عن استخدام الشاعر ما يسمى عادة بـ "الغزل المعاكس"، تغزّل الشاعر الذكر بمحبوب من الجنس ذاته في الوقت الذي قلنا فيه إن الشاعر قد افترق عن الشعراء المتصوفة في التشخيص المؤنث لموضوع الحب، فأقول إن ما يبدو مفارقة هنا سيكون موقفا مبررا ومتسقا حين نضع في اعتبارنا الظل الأنثوي في لاشعور الرجل، والظل الذكوري في لاشعور المرأة، اللذين يتيحان لهما التغني بموضوع حب مطابق لجنسهما.

... المهم أن الأسماء، ولأن اللغة أداة بشرية، تصل حدا تعلن فيه عجزها عن الإحاطة بسمات المحبوبة.. محبوبة تتسع، بفعل انوخاذ الشاعر، دائرة فعلها لتبلغ مديات كونية، ولهذا فلن يبقى لدى الشاعر من منفذ غير أن يضع لموضوع حبه اسما

"لا يُسمّى"، وهي مداورة تحرّشية ترتفع بالمعشوقة من الأرض إلى السماء، مداورة تصل ذرى اندفاعتها المسمومة في التسمية اللاحقة: "اللا أحد" التي يضفيها يحيى على حبيبته برهاوة، تسمية تستل من مخزوننا الجمعي اللاشعوري التسمية المقدسة الغائرة:

(بتُّ أدعوها "التي ليستْ تُسَمّى"..
فهيَ الشيءُ الخرافيُّ
الذي أعْجَزَ قاموسي
فأطلقتُ عليه ِ " اللا أحَدْ "
وهِيَ الرُّوحُ
التي أوجَدَها اللهُ
على شكل ِ جَسَدْ
وهِيَ اللحظة ُ..
والبُرْهَة ُ..
والدَّهرُ الأبدْ
زفّها اللهُ لقلبي
فاتّحَدْنا..
مَنحَتْني شرَفَ الموت ِ..
وميلادا ً..
ونهرا ً..
وولدْ....)

.. وهذه الحبيبة ذات قدرة كلية خارقة هي مزيج من التصور الطفلي عن الرحم الأمومي الذي يحيي ويميت.. موطن الهناءة الفردوسية الأول الذي نسج الخيال البشري الجنة السماوية في الحياة الآخرة على منوالها.. واستيهامات القدرة الكلية التي تنبني عليها سيكولوجية الطفولة المبكرة في علاقتها بالعالم الخارجي والتي تبقى لائبة في أحشاء العملية الشعرية مسؤولة عن أكثر عطاياها إلهاما وتأثيرا في الموقف الدفاعي للإنسان في وجه المثكل.. إن ملهمته لا تمتلك القدرة على أن تجدد شبابه وتعيده صبا فتيا:

(وأسَمّيني الذي شاخَ شريدا ً
ثمّ لمّا
دخل المحرابَ صَبّا ً
حاسرا ً عن قلبه ِ
عادَ فتيّا ً
يركبُ البحرَ
ويرتادُ السّحابْ..)

حسب، بل هي قادرة على بعث الأموات، وهو انموذجهم، تبعثه بالكلمة.. كن فيكون:

(مرّة ً:
كرَّ عليَّ الحزنُ والشوقُ
فمُتُّ..
شيّعَ الأطفالُ والعشاقُ جُـثماني..
ولكنْ
قبلَ دَفني
هبَطتْ مُلهمتي من عرشها الصوفيّ
صاحَتْ:
أيّها الجاثِمُ في التابوت ِ: إنهَضْ..
فبُعِثتُ
نابضا ً.. حَيّاً..
كأني
مرّة ً أخرى وُلِدْتُ !..)

.. والشاعر منبهر مسحور بحضور هذه المرأة في حياته حدّ أنه يعيد ترتيب الحقائق كلها، مهما كانت راسخة ومتطاولة، كي تتناغم مع مظاهر وجود ملهمته. أكثر من ذلك إنه مستعد للي عنق كل تلك الحقائق ويعيد تفسيرها بطريقة " إسقاطية " تؤسس لأطروحات جديدة لم ينتبه إليها المؤرخون ولا التاريخ.. فالتاريخ قد أخطأ خطأة كبرى حين ثبت أن المعلقات عشر قصائد عظيمة كتبت بماء الذهب وعلقت في أستار الكعبة.. إنه يؤرخ الأمر من جديد في "علم" كلي يرى فيه البدايات الإرهاصية الشديدة الكمون في أحشاء التاريخ:

(قدْ أخطأَ التاريخُ
حين قالْ:
إنّ المُعلّقات ِ عشْرٌ
كُن َّ يا أميرتي أجْمَلَ ما قِيْلَ من الشّعر ِ
وما يُقالْ..
عُلِّقْن َ في الكعبة ِ يا أميرتي
أجيالْ
قدْ أخطا التاريخُ يا حبيبتي..
وها أنا اكتشفتُ
حين أبْحَرتْ سفينتي
تبحثُ عن ممالك ِ الياقوت ِ..
والمرجانِ..
و التّيْنِ الذي تُصْنعُ منه ُ
الخمرة ُ الحَلالْ:)

فما هي الحقيقة التي عثر عليها يحيى، والتي أخطأ التاريخ في تسطيرها ؟. هي حقيقة أولى تبدا مع الوجود الأمومي الذي هو دائما مبتدأ ومنطلق.. كرامات الزهراء القانتة هي في جوهرها كرامات أمومة.. وانفعالات الشاعر في حقيقتها إنفعالات الإبن المبهور المغيّب الذي يعيد كتابة التاريخ من لحظة إلتحامه البدئية بالكينونة الأمومية.. تلك الأنثى التي تشكل أول وآخر الحقائق في حياة الشاعر الإبن.. فما "يعلق" أولا هما عينا الأم على أستار كعبة وجوده.. تعليق يكتسب مدياته الشرعية من فعل الله وتفضيله جمال الأنثى الأثيرة المتوّجة على عرش اللاشعور:

(عيناك ِ أوّلُ المُعلّقات ِ
لكنّ الذين أبْحَروا في البَحْث ِ
قدْ خانهمُ الخيالْ..
لمْ يعرفوا
أن ّ الإله َ يعشق ُ الجمالْ
وأنهُ
حين انتهى
من خلق ِ كلّ الكون ِ
في ليالْ
سَوّاك ِ يا حبيبتي قصيدة ً
تمشي على الأرض ِ
فتمشي خلفها
حديقة ٌ زهورُها الشعرُ..
وبستانان ِ من تين ٍ
وبُرتقالْ !!)

.. ودائما تأتي عملية الخلق ساترة للتصور الطفلي عن الحمل والولادة ونشأة الكون والحياة.. فأول شيء يُخلق، وحسب تسلسل أولويات وجود "الآخر" في عالم الحياة الطفلية وضرورته لديمومتها ونمائها هو الحبيبة التي تحمل سمات صورة تلك الأنثى الغائرة في الوجدان. وتلك الأنثى هي "طبيعة" الإنسان الأولى.. هي الطبيعة الحقة في ازدهارها وينعها وخصبها، بل هي ملكة الطبيعة المتوجة والمرجعية التي لا معنى لاي فعل كوني إذا لم يرتبط في لاشعورنا بفعاليات تلك الطبيعة الأصل.. فالنهر والفراشات والزنابق العذراء – ولاحظ وصف العذرية للزنابق – لها – كما هو معروف – قيمة بايولوجية كبرى في حياتنا كموارد للبقاء والجمال.. لكن كل تلك القيم لا تزدهر إلا عبر تلك الترابطات الخفية بالدور الرحمي الفردوسي المنعم مع إحالاته العشقية التي تجعل الثرى سماء في ضربة شعرية سحرية:

(أميرتي صاحِبةَ الجلالة ِ
الزهراءْ:
النهرُ..
والندى..
الفِراشاتُ..
الشّذا..
الينبوعُ..
والزنابقُ العذراءْ
واقِفة ٌ
وراء سور عرشِك ِ الصّوفيّ
تسْتأذِنُكِ الدخولَ
كيْ تُعْلِن َ عن ولائها
لِتاجكِ الضّوئيّ في
مملكةِ العشقِ التي
قد جعلتْ من الثرى
سماءْ !..)

وقفة مع السمة السردية والوحدة الموضوعية:

.. وقد قلت سابقا إن يحيى يعمد قاصدا على توظيف الروح السردية، وهذه من سماته الأسلوبية، في تقديم ثيمته الشعرية أفكارا وصورا في صورة وقائع محبوكة تشد أوصال القصيدة فلا تعود صورا متناثرة وأحيانا مفككة كما يحصل لدى بعض الشعراء. إن روح الحكاية في تسلسل حوادثها، ووجود "ثيمة" مركزية يعزز نسيج القصيدة. كما أن اللجوء إلى الحوار "يمسرح" الأدوار ويخلق تناظرا في الأصوات التي يوزع الشاعر عليها دلالات خطابه. يظهر ذلك في أكثر مقاطع القصيدة ولكنه يتجلى بقوة في المقطع السابع عشر حيث يشق جدار القلق الوحشي رأس الشاعر، فيسيل دمه، ويتم إدخاله المستشفى. ويحكي لنا الشاعر الكيفية التي تعاملت فيها الممرضة معه، والحوار الذي دار بينهما، والإجابة "النكوصية" المحيّرة التي قدمها عندما سألته الممرضة عن عمره:

(أجْلسَتني امرأة ٌ تعْتمِرُ القُبّعَة َ البيضاء
فوق مقعد ٍ شِبه ِ وثير ٍ
سألتني بعدما قاستْ ليَ الضّغط َ..
ونبْضي..
ورأتْ إشارة َ المِحْرار ِ:
كمْ عُمْرُكَ "يايا"؟
فأجَبْتُ:
أنا ياسيّدتي ما زلتُ
في رَحْمِ "التي ليْسَتْ تُسَمّى":
نُطْفة ً تأمَلُ أنْ يُحضنها صدرٌ وبَيتُ..
أتُراني
دون َ أنْ أدري:
اكتسى عظميَ لحْما ً
فوُلِدتُ ؟
أترى أنَ الدمَ النازف من رأسي
بقايا من دم الطّلق ِ
ولكني جَهلتُ ؟
إنني أعرفُ نفسي: لمْ أعِشْ بعدُ..
فهل يُمْكِنُ أنْ يحْدثُ قبلَ العيْش ِ
موْتُ ؟..)

وارتباطا بالوحدة الموضوعية فإن المتلقي قد لا يجد ضرورة سياقية تفرض وجود المقطع السادس عشر الذي يتحدث فيه الشاعر عن زيارته بحيرة البط حيث رأى طفلا ليس كالأطفال العاديين:

(أمسِ ضُحى
رأيْتُ في بحيرة ِ البط ِّ صَبيّا ً
يرتدي سحابة ً..
تضحَكُ في مُقلتِه ِ الحقولْ
رأيْتُ في ضحكته ِ
براءة َ القانتة ِ البتولْ
وفي بياض ِ البطّ لونَ قلبِها..
وكنتُ ما بينهما
سفينة ً تُبحرُ في المجهولْ..)

ولا أريد الإطالة في المعاني الرمزية لاستدعاء هذا الكيان الطفلي في بحيرة البط، حيث يهيمن البياض على المناخ العام هناك، وسأركز على سمة أسلوبية لدى يحيى وتتمثل في "قصديته" العالية، حيث يكون لكل "حركة" شعرية مغزى ودور. وهو لا يلقي باي صورة أو مشهد أو فكرة عبثا ويتركها سائبة بلا وظيفة. فبعد عشرة مقاطع، يعود الشاعر إلى صورة الطفل والبط.. ليضرب بنعومة على وترها رمزا لانعتاقه وعودته إلى بهاء الطفولة وبياض نقائها وهو يعود إلى أحضان البتول المباركة حيث أشرق بدرها في ظلمة عزلته وضياعه:

(أعْشَبَتْ كلَّ صحارايَ..
ظلامُ الأمس ِ ولّى..
فغدي أبصرُهُ الان أمامي
واضِحا ً
كالبدر ِ في الليل ِ الأغنَّ
فأرى شبّاكيَ المفتوحَ للشمسِ
ملاذاً للفِراشات ِ..
العصافير ِ..
أراني فيه ِ طفلا ً
يسبقُ البط َّ إلى النهر ِ
يُغنّي..)

عودة:

.. وقد قلت إن الشاعر قد شيد بنية صوفية / دينية لخطابه العشقي، فهناك المحبوبة التي يضفي عليها سمات القداسة وحتى التأليه، وهناك رسولها، "صوفائيل" الذي حاول الشاعر "تنكير" طبيعته الحسّية من خلال اشتقاق تركيبة الأسم من السمة الصوفية المرتبطة بلاحقة لغوية سومرية ترتبط بسمة الألوهة "إيل"، تضاعف من "التغريب" الأسطوري لدوره، وهنا الـ "مرسل" إليه، الشاعر الذي "ينتظر" أن تأتيه وصايا قانتته الزهراء.. أن "تنزل" عبر صوفائيل الذي "يبلّغه" بها بصورة غير مباشرة:

(جاءني في خلوةِ الفجر ِ على الساحلِ "صوفائيلُ"
يمشي خلفهُ الأطفالُ..
والأزهارُ..
والنهرُ..
وأسرابُ الحَمامْ
قالَ ليْ:
تُبْلِغُكَ الضّوئيّة ُ العِشق ِ السّلامْ
وتقولُ احْذرْ منَ:
الغمْز ِ..
أو
اللمْز ِ..
أو الهَمْز ِ
إذا تكتبُ شعرا ً..
فالذي يغمزُ
أو يلمِزُ
أو يهمِزُ من طاهرة ِ الثوب ِ لئيمٌ..
وأنا فردوسيَ الناسِكُ لا يدخلهُ
المارقُ..
والآثِمُ..
والآكِلُ من صَحْن ِ اللئامْ
لِيكنْ شِعرُكَ عَفّاً كالتراتيل ِ..
طهوراً كالتّسابيح ِ..
نقِيّاً كدموع ِ العِشق ِ والوجد ِ..
مُضيئاً كالمرايا..
ونديّا ً كالغمامْ
ليسَ شِعراً
حين لا يُسْهِمُ في الذّود ِ عن الوردِ..
وعن عشّ ِ العصافيرِ..
الفراشاتِ..
ولا يُسْهِمُ في حرب ِ القناديل ِ
على وحشِ الظلامْ..)

.. وهنا، وفي واحدة من حالات "التبليغ" غير المباشر، تأتي الوصايا أخلاقية لا تشمل السلوك الإنساني الشخصي للشاعر حسب، بل السلوك الشعري أيضا. كما أنها تكون في الغالب هادئة ومتصالحة مع الوضع الاستقبالي المسترخي للشاعر. لكن، في بعض الحالات، لا يتورع الرسول عن أن ينقل رسائل حسّية، كأن تكون رسالة ذكرى طعم قبلة علقت في ذهن وروح الشاعر.. قبلة كان قد تعاطاها مع المحبوبة المتعالية:

( زارَني في الطّيفِ "صوفائيلُ "
غطّاني بورد ٍ..
رشّ جُرحي بزفير ٍ
فيهِ نفحُ الفلِّ..
والرّيحان ِ..
والنعناع ِ..
دفءُ الخبز ِ..
طعْمُ القبلة ِ الأولى التي كانتْ
وكنتُ
نتساقاها إذا ثرثرَ عِطرُ الليل
واسْتفحَلَ صَمْتُ ! ).

لكن حركة "التبليغ" هذه ترتبط برهبة عميقة تهز كيان الشاعر العاشق حتى عندما تكون عبر الرسول صوفائيل في أي وقت تتجسد فيها "آيات" ودلائل الحضور الخارق للقانتة التي لا تُسمّى.. لتمظهرات خرافية تبرهن على لاأرضية هذه الإمرأة الخارقة.. هذه "اللاأحد" التي تشكل لها الآيات الشعرية المبلّغة عير صوفائيل أنها "كل أحد".. وأنها القوة المحيطة بكل وجود.. والشاعر يتبلغ برسالة القانتة الزهراء فيرتعد كيانه.. ويرتجف.. ويبكي.. ويتشاهد.. ويكبر وهو يسمع صوفائيل يصوّر له واحدة من آيات اللاتسمى / اللاأحد حيث العلامة المعجزة التي ينسكب فيها المطر، في حركة معكوسة تخالف ما سارت عليه شرعة الكون ونواميسه الطبيعية، من الأرض على السماء !! فيخر الشاعر خاشعا مغشيا عليه:

(ذُعِرَتْ روحي..
تساءلتُ: هل السّاعة ُ حانتْ ؟
فتشاهَدْتُ..
وكبّرْتُ ..
وحَوْقلْتُ..
وبَسْمَلْتُ.. فصوفائيلُ لا يكذبُ..
صوفائيلُ مبعوثُ التي أكرَمَها اللهُ
فكانتْ كعبَة َ العشق ِ
وناموسَ النقاءْ
رَجَفَ القلبُ..
تماسَكْتُ..
ولكنْ خانني صوتي
فأجْهَشتُ بنوبات ِ بُكاءْ !
صاحَ "صوفائيْلُ" بيْ:
ياسادن َ الصوفيّة ِ العذراء ِ
لا تفزَعْ..
فإنّ الخيرَ جاءْ
هذه ِ الأمطارُ بعضٌ
مِنْ كرامات ِ التي أكْرَمَها الـلهُ
فكانتْ كعبة َ العِشق ِ..
ومِحرابَ العصافير ِ..
إذا تسْجرُ تنّورَ الدعاءْ:
يَحْبَلُ الغيمُ.
وتخْضَرُّ البساتين ُ..
وتنهالُ على الظلمة ِ
مِشكاة ُ الضّياءْ !..)

.. وصحيح أن المتلقي قد يعتقد في التقاطة محكمة ظاهريا أن الشاعر مازال يقف في صف الصوفية التي تضفي الكرامات على محبوبها، وهذه كرامة من كرامات هذه القانتة الزهراء أنعم بها الله عليها كما يخبره صوفائيل، وهو استنتاج يمكن ان نربكه في الإيغال معه وتعزيزه من خلال حركة يشيدها الشاعر على أساس شرط صوفي آخر يصوّر فيه تلك المرأة الزهراء القانتة، وقد باغتته في غفوة عزلة لتمارس معه كرامة مضافة. لكن التأمل العميق الذي يربط هذه الحركة بالحركة الكلية العامة للقصيدة ( جشطلت –gestalt ) سيكشف لنا دهاء الشاعر ومكنته المسمومة المقتدرة في رسم حركة مماهاة يكون فيها "مدثرا" نائما، مدثرا بالشوك وشباك الصيد، ونائما على سجادة الرمل.. تدخل عليه فجأة وتصرخ به فترتعد أوصاله وتتمزق.. وتمد يدها السحرية لتنعش روحه وتحقق آيات جديدات من آيات حضورها الخارق، فإذا الشوك عشب وشباك الصيد غيمة.. وإذا النورس المقطوع الجناحين الذي كان يرقد إلى جواره قد غدا طفلا يلعبُ !!:

(داهمتني..
في متاهات ِ ضَياعي " اللا أحَدْ ":
نائما ً..
مُفترِشا ً سجّادَة َ الرّمْل ِ
لحافي من شِباك ِ الصّيد ِ
والشّرْشَفُ شوكٌ وزَبَدْ
وجِواري نورسٌ
دون جَناحينِ رقدْ
مُطبِقا ً ثغري على زهرة ِ رُمّان ٍ..
يَدٌ وسّدَت ِ الرّأسَ
وفوقَ الوجْه ِ يدْ
صَرَختْ بيْ ..
فزَّ قلبي..
فتناثرْتُ قدَدْ
لمْلمَتْني..
ثمّ غطّتْني بشيء ٍ يُشبِهُ الغَيْمَة َ..
مدّتْ يَدَها تحتَ ضلوعي
فاسْتحال الشّوكُ عُشْبا ً
وإذا النورسُ طِفلٌ يلعَبُ..)

.. لكن من هنا ستأتي البراهين التي تطيح بالقناعة التي أسسها المتلقي قبل قليل والتي سرنا معه فيها خطوة مداهنة استدراجية.. فلا المرأة القانتة تماثل الأنموذج الصوفي المعروف لموضوع الحب، أو حتى للحضور الأنثوي في سياق الظاهرة الصوفية.. ولا كراماتها تشابه كرامات المرأة الصوفية.. فالشاعر له نهجه "الصوفـي" الخاص.. وهو نهج ينزل بموضوع الحب الأنثوي إلى أرضية الفعل الجسدي البشري.. وفي لغته ومسار تعامله مع هذه القانتة يجد أن من أعلى أشكال حصانتها هو: عصمة نهديها. هكذا يصفها: "معصومة النهدين" وهو يجب على سؤالها إياه عن سرّ شقائه:

(سَألتْني: ما الذي أشقاكَ ؟
قلتُ: النَدَمُ الصّوفِيُّ يا معصومة َ النهدين ِ..
بيْ مني حَياءٌ: أنتِ قلبٌ طاهِرٌ بِكْرٌ
وقلبي ثَيِّبُ..
وأنا أمْسيَ طيْشٌ..
والطِلا..
واللعِبُ
والندى أمسُك ِ يامُلهِمَتي
والذّهَبُ
كيف لا ينشبُ ما بيْنَ ضلوعي
اللهبُ ؟
كفكفتْ دمعي وقالتْ
لكَ ماضيكَ..
وليْ يومُكُ والآتي الذي أرتقِبُ..)

.. وإعلان الشاعر "ندمه الصوفي" هو، ومرة ثالثة، مناورة مراوغة قد توقع القارئ في مصيدة التأويل الصوفي الفج والمباشر. ومن حقائق السلوك الصوفي، هو أن الصوفيين الكبار ما هم إلا خطاؤون كبار لم يصلوا سدة النقاء السلوكي والتطهر الروحي والالتحام بالمطلق، إلا بعد رحلة طويلة مع الخطيئة وإثقال الذات المنهكة بالآثام. ويحيى، في الظاهر، وكرحلة ابتدائية، يتفق معهم في هذا الوجدان المثقل بالذنوب، ذنوب وصل ثقل حمولاتها على كاهل ضميره حدّ أنه لا يستطيع النهوض. كان ضائعا تتلاقفه أيدي الملذات الشيطانية التي ألقته في مهاوي متاهات النزوات الطائشة كما يقول:

( كنتُ لا أقدرُ أنْ أنهض
من ثِقلِ خطيئاتِ ضَياع ِ الأمسِ
ما بينَ نديماتٍ
وكأس ٍ راعِفِ الرّاح ِ ودِنِّ
فأنا كنتُ ضحايايَ..
وجلّادي..
وسَجّاني..
وسجني.. !
خَدَعَتْني نزَواتٌ
أوْهَمَتْ عينيَّ..
فاسْتعْذبتُ في طيشيَ شهداً..
ورحيقا ً..
بكؤوس ٍ من متاهاتٍ وظنّ ِ..)

إنه يبدأ معهم منطلقا واحدا من خط شروع الشوط نفسه في الضمير المعذب بالإحساس بالذنب بسبب واحد وحيد هو الغرق حتى أذني وجوده في ملذات العشق والجسد حتى أنه صار يخشى أن تفتح بوابة ذنوب الماضي الذي يلاحقه ويؤرقه، ماض لا خلاص من سياطه سوى أن يتبتل في محراب البتول القانتة:

( لا تفتحي بوّابة َ الأمس ِ
اغلقيها..
واختمي بالشّمْع ِ نافذةَ العِتابْ
كُنّ السّرابَ..
وأنتِ وحدك ِ جئت ِ بالأنهار ِ..
والواحات ِ..
في زمن ِ التصَحُّر ِ والخرابْ
.................................
ما عدتُ أذكرُ مِن رماد ِ الأمس ِ شيئا ً.
مَنْ تكونُ مَها ؟
ومنْ ليلى ؟
أضعْتُ كتابَ ذاكرتي
وصِرتِ الأبجدية َ..
واليَراعَة َ..
والمِدادَ..
غدوت ِ وحْدَكِ -لا شريكَ لدينِ عشقِكِ -
في تفاصيل ِ الكتابْ
فدعي سؤالك ِ عن رماد ِ الأمس ِ
إنّ تهجّدي الصّوفـيَّ
في محراب ِ عِشقك ِ -إنْ سألت ِ-
هو الجَوابْ.. )

ولا حل لديه للهروب من ماض "نواسيّ – نسبة إلى أبي نواس" سوى التطهر الكامل؛ غير أن ينفض يديه من آثام عمر كامل أمضاه في خضم الطلا والنهود والسيقان المغوية.. كان نواسيا حدّ النخاع.. ثم صار يفزع من الحان والدنان وخصور القيان. وكل هذا التغيير قد حصل بفعل تعلقه بالقانتة، وهذا هو حال يحيى في تماهيه مع أنموذج لا يصلح للتماهي هو أبي نواس:

( أبو نؤاس ٍ تابَ..
لا يُغويه ِ صدرٌ نافِرُ النهدين ِ..
لا مَلاسَة ُ الساقين ِ..
لا تغنّجُ العينينِ ..
لا الكحْلُ الذي يَثمَلُ منهُ الجفن ُ
والأهدابْ
........................
أبو نؤاس ٍ لمْ يعُدْ أبا نؤاس ٍ
صار يُدعى:
سادِنَ القانِتة ِ الصّوفيّة ِ..
البتول ِ..
والأميرة ِ الناسِكة ِ..
الطّاهِرة ِ التي هواها رحمة ٌ
وعِشقُها ثوابْ.. )

وتماهي يحيى مع النواسي، وكان بإمكانه أن يختار أنموذجا صوفيا خطاء مادام قد وضع نصب عينيه وكرر أنه قد نجا من الغرق في بحر آثامه بسبب "الندم الصوفي" كما اصطلح عليه وتحوّله إلى سادن للقانتة البتول – هذا التماهي هو نوع من انسرابات مكبوتات اللاشعور التي امتهنت الغواية.. مكبوتات اللاشعورالتي هي الحي الذي لا يموت.. مكبوتات تضغط لتنسرب عند أي فرصة وتحت أي غطاء خصوصا عندما ترتخي قبضة السلطة الرقابية في جهازنا النفسي الداخلي كما هو الحال في لحظة الإبداع الشعري. انسربت هذه المكبوتات ولوّنت بقوتها الغرائزية المحببة صور توبة الشاعر الذي منحها بدهاء وإلحاح لغوي مثابر طابعا صوفيا، فهو الخطّاء التائب الذي أصبح سادن مخلّصته القانتة البتول ذات الكرامات عبر استلام وتنفيذ وصاياها التي يبلغه بها رسولها صوفائيل. لكن صوفية يحيى هي صوفية الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، الذين يقولون ما لا يفعلون.. ويفعلون ما لا يقولون. لقد أعلن عن ندمه الصوفي لفظا وجاء سلوكه حسّيا وأرضيا عملا، وها هو يرسم أمام أعين المتلقين فعلا أو استيهاما حلميا إلتحامه "الصوفي" الخاص:

( أمسِ -فجـراً-أطبَقَ السُّهدُ جفوني
فرأيْتُ الوردَ -أو شُـبِّـه َ لـيْ -
ينسجُ ثوبين ِ من العطر ِ..
وعصفوراً عجيباً
ريشُه ُ يقطرُ نورا ً
كالذي يقطرُه ُ في الليل ِ
جفنُ الأنجُم
..............................
ورأيتُ النهرَ -أو شُـبِّـه َ لـيْ -يَغسِلُ
ساقيك ِ..
ونهديك ِ..
ويَلتفُّ على الخصرِ التِفاف َ البُرْعُم ِ
فتعَجّبْتُ..
وصلّيْتُ صلاة َ الفجر ِ قصرا ً..
ثمّ صلّيْتُ...
وصلّيتُ...
ولكنْ:
فرَّ من وجهي إلى ثغرك ِ والجيد ِ فمي
ويدي مَرّتْ على الخصر ِ برفق ٍ
كالذي يفعلُ ذو نُسْكٍ
بباب ِ الحَرَم ِ..)

وهو التحام يختلط به في تركيبة عجيبة المقدس والمدنس في وصفة كيميائية شعرية يجيدها يحيى. خلطة تعيد إلى ذهنك انسيابات مباركة كثيرة في مواضع عدة من القصيدة على طريقة "الخمرة الحلال" التي تحدث الشاعر عنها سابقا، أو على طريقة وصف توبة أبي نؤاس - أو الشاعر لا فرق – الذي تحول صبوحه الكتاب وغموقه دمع التوبة ومزّاؤه الترتيل !!، أو، وهذه أشد الانسرابات مكرا، ما حمله المقطع الثالث عشر من مقارنة إلتفافية محكمة بين عذابات حبة القمح في تحملها عناء الإنفلاق من أجل أن تصبح بيدر قمح، أو احتراق رغيف الخبز لينضج ويصبح طعمه مقبولا للاستهلاك البشري، ضربها الشاعر كأمثلة على الحالة التي يكون فيها الوجع نعمة مثل وجع المخاض ليصل إلى "تخريج" مراوغ يبرر فيه "عذابات" انغماسه المطوّح في آثام الغرائز وذنوب الملذات كي يصبح "موضوعيا" في حاجة للتطهر العزوم على يدي قانتته البتول !!:

( نِعَمُ اللّه ِ كثيراتٌ.
وبعضُ الوَجَع ِ القاتِل ِ نُعْمى
حَبّةُ القمح ِ إذا لم تنفلقْ
داخلَ طينِ الحَقل ِ
لن تصبحَ للبيدر رحْما
ورغيفُ الخبز لولا النارُ
ما اسْتُعْذِب طعْما
وأنا لولا ذنوبُ الأمْسِ
ما جئتُ إلى واحاتِك ِ الزهراء ِ
توّابا ً من الشّوك ِ
وأسْتسْقي هَديلا ً يوقِظُ النّـايَ الأصَمّا..)

.. ولكن ضياع يحيى، والحق يقال، وهذه من السمات الأسلوبية لمنجزه الشعري، لم يكن بفعل دوامة ضغوط غريزية فجة مربكة. أبدا، إنه نتيجة طبيعية لاغترابه مع ذاته وفي وطنه. إنها غربة مضاعفة واستلاب مرير. جحيم أن تكون غريبا عمّن حولك، وأكثر جحيمية أن تكون غريبا عن البشر الذين يحيطون بك حدّ أن تشعر بأن "لا أحد" يحيط بك من كل جانب في خواء مرير ومهلك، وشتان بين حالة الـ "اللاأحد" الإغترابية الفاجعة التي يحياها الشاعر في أتون محنته واستلابه، وبين تلك البتول، وعصومة النهدين، "اللاأحد" أيضا التي "هبطت" عليه من فردوسها لتستنقذه. هي الحل العلاجي الوجودي "الطباقي". لقد نبذه وطنه بلا رحمة فالتهمته الأذرع الأخطبوطية للمنافي الخانقة ليحاصره كابوس "اللاأحد" في الداخل والخارج:

( لا أحَدْ..
خلدَ الطيرُ إلى العُشّ ِ..
الندامى غادروا مائدة َ الليل ِ
ونامَتْ خضرةُ الأشجار ِ
والشارعُ قفرٌ ..
لا أحَدْ....
وحدَكَ الانَ تجوبُ الليلَ
تسْتجدي من الشمس ِ شروقا ً..
نيزَكٌ يسْقط ُ..
برْق ٌ..
نادِلاتُ المطعم ِ الليليّ أطفأنَ المصابيحَ..
السُّكارى غسلوا بالصّخبِ الشارعَ
من ثرثرة ِ الصمت ِ..
وأنتَ النورسُ الشرقيُّ
تستجْدي الفراتين ِ نميراً
وحبيبا ً كلما تقربُ من شرفة ِ عينيه ِ
ابْتعَدْ !.. )

ولعل أكثر حالات "اللاأحد" الموغلة في تمزيق الروح أن تستعصي على الشاعر، وهو منبوذ في منافيه، أن ينتخي بالأنموذج الذي من المفترض أن يكون حاضرا دائما، أنموذج المرأة المنقذة الحانية.. الحبيبة.. فلا يأتيه سوى صدى مدوٍ لنداء الخراب يلاحقه من مستقره الرحمي الذي لفظه إلى جحيم المنفى: لا أحد.. لا أحد.. لا أحد. وهي حالة خرابية مدمرة يصوّرها الشاعر بعين سينمائية مفعمة بالحركة المعبرة حيث الظلمة الحالكة في الداخل والخارج.. ظلمة اليأس والاختناق في الروح.. تستجيب لها ظلمة في السماء.. مطر ثقيل ورعد اشد.. وجسد متهالك مثقل بالخيبات والمشاعر المريرة بالانهجار والوحدة:

( لا أحَدْ
وحْدَكَ الان َ..
المشاويرُ ضَياعٌ
أسْدَلتْ أجفانها الأنجمُ
والقنديلُ يشكو منْ رَمَدْ
زخّة ٌ أخرى..
ثقيل ٌ مطرُ الليلة ِ
والرّعْدُ أشدْ..
تتركُ السّاحِلَ
ترمي الجسَدَ المَبلول َ
فوق المقعد ِ الخلفيّ
تسْتحضرُ أنثاكَ الخرافيّة َ
تستنجدُ بالقانتة الزهراءِ: بئري مُظلمٌ
مُدّي لمقتولِك ِ عِشقا ً من مَسَدْ !
فيجيء الصوتُ:
عُذرا ً لا أحدْ..)

وإذا كان لكل تحوّل "تجربة" عاصفة تخض وجود الفرد وتشعره في الختام المحتدم بأولويات خلاصه، تجربة تعيد إلى ساحة الشعور، عبر مداورة الألم والمعاناة الباهضة التي توفر الغطاء "المنطقي" لقناعة الخلاص الجديدة القديمة. وقد جاءت تجربة التحول هذه ممثلة في رحلة البحث عن رحم أمومي بديل.. عن وطن آخر.. أن يكون سواه.. غير هويته السومرية أو البابلية الأصيلة.. وهي في جوهرها العميق ودلالاتها اللاشعورية هجران الانثى الأصل بحثا عن رحم بديل:

(جَرّبْتُ يوماً أنْ أكون سِوايَ
غيرَ البابليِّ..
كأنْ أكون الطائرَ الجَوّالَ
والغجريَّ لا وطن ٌ لهُ غيرُ الفضاءِ
وخيمةٍ تُطوى بلا تعَبٍ
إذا أزِفَ الرّحِيلْ
أبدلتُ باليشماغِ قُبَّعة ً..
وبالمَشحوفِ نعْلَ تزلّج ..ٍ
وبطاسَة ِ اللبَنِ الخضيض ِ الكأسَ ..
والسُّمَ المُعتّقَ
بالنّمير ِ السّلسبيلْ
طوَّفتُ في مُدُنِ النُّحاس..
قطفْتُ من روض ِ الثغور ِ الوردَ ..
لكنْ:
في الحقيقةِ لم يكنْ إلآ رمادا ً..)

وكنتيجة تترتب على هذا الهيمان اللاشعوري يحاول الشاعر الاستقرار عند أول ضفة أنثوية يقابلها، وهذا ما يقع فيه أغلب المهاجرين والمنفيين، البحث عن رحم حام منعم.. عن جسد أنثوي يحنو ويمنح الدفء في صقيع المهجر الموحش:

(جرّبْتُ يوماً أنْ أعيشَ تمَرُّدي
في جَنّة َ المُتشرّدينَ:
غفوتُ في المُتنزّهاتِ
وفي مَحطاتِ القطاراتِ القديمة ِ..
قاسَمَتْني غادةٌ "روسِيّةٌ" مأوايَ
فوق المَصْطبات ِ..
وفي المزارع ِ..
في بيوت ٍ بَخسَةِ الإيجار ِ
يَنْدرُ أنْ يعودَ إلى أسِرّتِها -إذا خـرجَ-النّزيلْ
وصَحَبْتها في رحْلتيْن ِ..
وحيْنما أفلسْتُ:
بعتُ الخاتمَ الذهبيَّ والسّلسالَ..
عِشنا ليْلة ً حمراءَ -أو سـوداءَ-
في نُزْل ٍ يُطِلُّ على مَضيقِ "الدّرْدَنيلْ "..
ثمّ افترقْنا بعد يوم ٍ واحِد ٍ
ذهبَتْ إلى "هِنغارِيا"..
وأنا اتّجهْتُ إلى " بلغرادَ "..
الحقيقة ُ لمْ أفكّرْ بالرّحيلْ
لكنّما " اسْتنبولُ ":
موحِشة ٌ بلا مالٍ تنشُّ به ِ
ذئابَ الوحشةِ الخرساءِ
في الليل الطويلْ..)

.. ومن مدينة إلى أخرى.. والمدن مكافئات لأرحام حامية أو التهامية، والسبب، سبب رحلة العذاب الحارق هذه، كما يقول الشاعر، هو أن دليله للخلاص والاستقرار والتصالح مع الذات والمجتمع، وهي المنقذة البتول، لم تكن قد "هبطت" عليه بعد، ولم يكن رسولها صوفائيل قد "بلغه" برسالتها أو أظهر له آيات حضورها الناجز الخارق:

( لاح "صوفائيلُ" في الأفق..
فتمْتمْتُ خفيضاً:
بصَري كان سليماً
غيرُ أنّ القلبَ أعْمى.. )

وبعد تجربة "التحوّل" المربكة والماحقة هذه، تأكد لديه أن لا خلاص إلا بالعودة إلى ذاك الرحم الأصيل. عودة هو في الواقع مستعد لها مسبقا، وقد تأججت حاجته إليها بعد أن تأكد لديه، عبر رحلة الاغتراب والانهجار الممزقة، أن لا بديل "خارجي" يحل محل البتول المنقذة. وها هو يستجيب بلا تردد لرسولها صوفائيل وهو يأمره أن "يقوم" ويزيح عنه دثار الخيبة والتراخي، ويبلغه رسالة التي "لا تُسمّى" بأن يقوم، والشاعر يستعين من جديد بالموروث القرآني، و"يأخذ كتابه بقوّة" – وقد خاطبته أنا قبل اشهر بالأمر نفسه في الحلقة الأولى من سماويات -بعد أن "أكملت له سفر عشقه".. أكملت له رسالته وحددت وصاياها وتعاليمها.. وهي الآن تخاطبه باسمه المباشر "يحيى السماوي" تعبيرا عن نرجسية الشاعر الضارية والمتصاعدة، ليأخذ الكتاب ويحمل رسالة الحب العظيمة ويعيد أمجاد "قيس بن الملوح"، كرمز للثبات العارم على قيم العشق والنقاء والوفاء.. يحملها كآخر العشاق المقاومين:

( وتقولُ:
يا يحيى السّماويُّ
الشهيدُ الحيُّ
والحيُّ الشهيدُ
وخاتمُ العشّاق ِ في عصر ٍ
يضجُّ خنا ً وغيّا
اليومَ قد أكملتُ سِفْرَكَ..
فانطلِقْ برسالة ِ العشقِ المُقدَّس ِ
كنْ رسولي في الهوى
حتى يُعادَ الإعتِبارُ
لعَقلِ "قيسِ بنِ الملوّحِ"
و"الشريدِ السّومريِّ"
ويسْتعيدَ عَفافهُ:
الوَجْدُ..
التهَيُّمُ..
يَسْتحيلُ العِشقُ خبزا ً للقلوبِ
فلا يعودُ الحزنُ سيماءَ المُحَيّا
وتقولُ
يا يحيى السّماويُّ
المُضرَّجُ بالصَّبابة ِ
كنْ بعِزّة ِ سَيِّدِ الشّجَر ِ النخيل ِ:
يموتُ مُنتصِبا ً..
ومثلَ الوردِ:
لو ذبحوهُ يبقى عطرُهُ
يذكو شذِيّا
العِشْقُ بابٌ للخلودِ
فإنَّ " قيسَ بنَ الملوّحِ"
لمْ يزلْ لليوم ِ حَيّا !.. )

.. وقد تسلم يحيى الرسالة.. رسالة الحب التي ستزرق في عروق وجودنا المتيبسة مصل الحياة والخلود.. وسيدافع عنها ك "ساموراي أخير".. فتحية له..

هوامش:

(1) يد الشعر – خمسة شعراء متصوفة من فارس – محاضرات ألقاها عنايت خان – ترجمها إلى الإنكليزية كلمان باركس – ترجمه عن الإنكليزية د.عيسى علي العاكوب – دار الفكر – دمشق – 1998.

(2) إشكاليات الحداثة في شعر الرفض والرثاء: يحيى السماوي أنموذجا – حسين سرمك حسن- دار الينابيع – دمشق – 2010.

(1)

واهِماً كنتُ بظنّي
أنَّ لـيْ
أمْـراً عـلـى الـحـرف ِ
فإنْ نـاديـتـهُ أصْـغـى ولـبّـى..
فـإذا بـيْ لـم أجـدْ فـي لـغـتـي
إسْـمـاً جـديـراً
بـالـتـي قـد مـلـكـتْـنـي
فـتـمـاهـيـتُ بـهـا روحـاً..
وقـلـبـا ً..
ومِـدادا ً..
ومَـدَدْ !
بـتُّ أدعـوهـا «الـتي لـيسـتْ تُـسَـمّى»..
فهيَ الـشـيءُ الخـرافيُّ
الـذي أعْـجَـزَ قـامـوسي
فأطـلـقـتُ عـلـيـهِ «اللا أحَـدْ»
وهِيَ الـرُّوحُ
الـتي أوجَـدَهـا الـلـهُ
عـلى شـكل ِ جَـسَـدْ
وهِـيَ الـلـحـظة ُ..
والـبُـرْهَـة ُ..
والـدَّهـرُ الأبـدْ
زفّـهـا اللهُ لـقـلـبي
فـاتّـحَـدْنـا..
مَـنـحَـتْـنـي شـرَفَ الـمـوت ِ..
ومـيلاداً..
ونـهـرا ً..
وولـدْ
مـن دم ِ الـشِّـعْـر ِ..
وبـيـتـاً مـن حـبـور ٍ
سَــقـفُـهُ دون عَـمَـدْ

* *

(2)

سـأسَـمِّـيهـا: الـتي تخـتصرُ الأسـمـاءَ..
والمـئـذنـة َ الضوئـيـة َ..
النخلة َ..
والوردةَ..
والنجمة َ..
والماءَ الذي
يُحْـيي هـشـيـما ً ويَـبـابْ
والـتي مِـحـرابُـهـا
يـفـتـحُ لـلجـنّـة ِ
بـابْ
وأسَـمِّـيـني: مُغـنّـيـهـا..
وحـاديـهـا إلى مـمـلـكـة ٍ
صـوفـيّـة ِ الأنهار والأشـجار ِ
إنْ كـبّـرَ طـيـرٌ
سَـجـدَ الـضـوءُ
وصـلى الـعُـشـبُ
واخْضـلَّ الـتـرابْ
وأسَـمّـيـني الـذي شـاخَ شـريـدا ً
ثمّ لـمّـا
دخـل المـحـرابَ صَـبّـا ً
حـاسـرا ً عـن قـلـبـه ِ
عـادَ فـِتـيّـا ً
يـركـبُ الـبـحـرَ
وقـد يـمـشـي عـلـى الـمـاء ِ
ويـرتـادُ الـسّـحـابْ

* *
(3)

مـرّة ً:
كـرَّ عـليَّ الـحـزنُ والـشـوقُ
فـمُـتُّ..
شـيّـعَ الأطفالُ والعـشـاقُ جُـثـمـاني..
ولكـنْ
قـبـلَ دَفـني
هـبَـطـتْ مُـلـهـمـتي من عـرشـهـا الصـوفـيِّ
صاحَـتْ:
أيّـهـا الجاثِـمُ في الـتـابـوت ِ: إنـهَـضْ..
فـبُـعِـثـتُ
نـابـضـاً..
حَـيّـا ً..
كأني
لـمْ أكـنْ قـبـلُ وُلِـدْتُ !

* *
(4)

حاملا ًـ جـئـتـكِ ـ مِـيـراثي:
رمـادٌ..
وبـقـايا شـجَـرٍ في واحةِ العـمـر..
وقـنـديـلٌ شـهـيـدْ
فـانـفـخي
من روحِـكِ الصّوفية ِ العـشـق ِ بجـثماني
لأحـيا مـن جـديـدْ
وابْعَـثـيـني لـلـمُـرائـيـن نـذيـراً..
وبـشـيـراً لـلـمُـحِـبّـيـنَ..
بـعـشـق ٍ
يجعـل الأرضَ فراديـسَ
وكـلَّ الـدّهْـرِ عِـيـدْ !

* *

(5)

أميـرتي صـاحِـبـة َ الـجـلالـةِ..
الـقـانـتـة َ..
الـزّاهـدة َ..
الزهـراءْ:
الـنـهـرُ..
والـنـدى..
الـفِـراشـاتُ..
الـشّـذا..
الـيـنـبـوعُ..
والـزنابـقُ الـعـذراءْ
واقِـفـة ٌ
وراء سـور عـرشِـك ِ الصّـوفـيّ
تـسْـتـأذِنُـكِ الـدخـولَ
كيْ تُـعْـلِـن َ عن ولائـهـا
لِـتـاجـكِ الضّـوئيّ في
مـمـلكةِ الـعـشـقِ الـتي
قـد جـعـلتْ مـن الـثـرى
سـمـاءْ!

* *

(6)

يا مُـغـيـثـي
أيّهـا الآمِـرُ..
والـواهِـبُ..
والمانِحُ..
والمُـمْـسِـكُ..
والمُـمْـطِـرُ دفـئـاً وعـبـيـرْ
جـئـتُ مـذبـوحـاً من الـشـوق ِ..
ظمـيـئـا ً..
فاسْـقـني من ثـغـركَ العـذب ِ
ولـو
كأسَ زفـيـرْ
ظـامِـئـاً جـئـتُـكَ
يا ناعـورَ طـيـبٍ وسَــنـا
نـضُـبَ الـكـأسُ
سـوى بـعـضِ حـباب ٍ
واسْـتـبـاحَ الـشـوقُ مـنـي
شـرفـة َ الـحُـلـم ِ
وأردى فـنَـنـا
فـمـتى يـجـمـعُـنـا حـقـلٌ
عـلى نـهـر ِ الـمُـنـى ؟

* *

(7)

يحـدثُ أنْ تـكـتـبَ ليْ قـانـتـتـي
رسـالـة ً طـويـلـة ً
مـن دونِ حـرف ٍ واحـد ٍ
عـن شهـريارهـا الـفـراتيِّ
وسـنـدبادِها الـمُبْـحـر ِ
بـيـن الجـيـدِ والأحـداقْ..
وعـن تـراتـيـلِ الهـوى الصـوفـيِّ
في مـمـلـكـةِ الـعـشـاقْ
والـوجـد ِ..
والـهـيـام ِ..
والـغـربـة ِ..
والأشـواقْ..
أقـرأهـا بِـشَـمِّ يـاســمـيـنِـهـا الـنـافـذِ
مـن سـطـورهـا..
وأعـرفُ الـمـرسـلـةَ الـبـتـولَ
مـن تـوقـيـعـهـا:
بـطـبـعِ ثـغـرهـا
عـلـى نـهـايـةِ الأوراقْ

* *

(8)

جِـئْـتُ يـاقـانِـتـتـي الـزهــراءَ
أشـكـوني إلـيْـك ِ
فأنـا أصْـبَـحْـتُ غـيـري:
سُـفـنـي ترفـضُ أنْ تُـبْـحِـرَ
إلآ
لـمـراسـيْ شـاطِـئـيــكِ..
وطـيـوري
لا تـرى مـنْ شـجَــر ِ الـبـسـتـان ِ
إلآ
نـاهِـدَيـك ِ..
وفـمـي
أعْـلـنَ إضـرابـا ً عن الـتـقـبـيـل ِ
إلآ
شــفـتـيْـك ِ..
ودروبـي
كـلـهـا تـنـبـذ خـطـوي
حـيـن لا يـأخـذنـي الـخـطـوُ
إلـيْـكِ
ويـديْ
تَـصْــفـعُـنـي لـو مَـسّــدتْ
غـيـرَ يـديـك ِ..
وفـؤادي
لا يـرى شِـعـري جَـديـرا ً
بـمـدادِ الـنـبـض ِ
إلآ
عـنـدمـا يـهـطـلُ أمـطـاراً من الـدّفءِ
عـلـيـكِ..
مـا الـذي أبْـقـيـتِ مِـنـي
لـلـيـنـابـيـع ِ..
وللأرطـاب ِ..
والأطـيـاب ِ..
والأحـبـاب ِ..
والأصـحـاب ِ..
إنْ كـنـتِ مـلـكْـت ِ الأمـرَ مـني
وأنـا ـ كُـلّـي ـ لـدَيْـك ِ ؟

* *

(9)

أعـرفُ فـصْـلَ الـصّـيـفِ في مـديـنـتـي
مـن الـنـدى الـنـاضـحِ من ريحانِ جـيـدِهـا
ومن قـمـيـصِـهـا الـرّقـيـقْ
وأعـرفُ الـشـتـاءَ مـنْ وشـاحِـهـا الـمـخـمَـل ِ..
والـرّبـيـعَ من سِـربِ الـفـراشـاتِ التي
تـحـومُ حـولَ ثـغـرِهـا الـمُخـضَـلِّ بـالـرّحـيـقْ
وأعـرفُ الـخـريـفْ
من انحِـسـار ِ الـورد ِ
في فـسـتـانِـهـا الـشـفـيـفْ

* *

(10)

لا تـفـتحـي بـوّابـة َ الأمـس ِ
اغـلـقـيـهـا..
واخـتـمـي بـالـشّـمْـع ِ نـافـذةَ الـعِــتـابْ
كُـنّ الـسّـرابَ..
وأنـتِ وحـدك ِ جـئـت ِ بـالأنـهـار ِ..
والـواحـات ِ..
في زمـن ِ الـتـصَـحُّـر ِ والـخـرابْ
وأعَـدت ِ لـيْ
ما ضـاع َ مـني
فـي مـفـازات ِ الـتـشـرّد ِ
مـن ظِـبـاءِ الأمـنـيـات ِ
ومـن بَـسـاتـيـن ِ الـشـبـابْ
وأعَـدت ِ لـلـشـجـر ِ الـهَـديـلَ..
أقـمْـتِ آصـرة َ الـهـوى
بـيـن الـحـمـائـم ِ والـصـقـور ِ
وبـيـن صـحـراء الـمـراثـي
والـسّـحـابْ
مـا عـدتُ أذكـرُ مِـن رمـادِ الأمـسِ شـيـئـاً..
مَـنْ تـكـونُ مَـهـا ؟
ومـنْ لـيـلـى ؟
أضـعْـتُ كـتـابَ ذاكـرتـي
وصِـرتِ الأبـجـديـة َ..
والـيَـراعَـة َ..
والـمِـدادَ..
غـدوتِ وحْـدَكِ ـ لا شـريـكَ لـديـنِ عـشـقِـكِ ـ
فـي تـفـاصـيـلِ الـكـتـابْ
فـدعي ســؤالـك ِ عـن رمـاد ِ الأمـس ِ..
إنّ تـهـجّـدي الـصّـوفـيَّ
فـي مـحـراب ِ عِـشـقـك ِ -إنْ سـألـتِ-
هـو الـجَـوابْ

* *

(11)

داهـمَـتْـنـي
في مـتـاهـاتِ ضَـيـاعـي «اللا أحَـدْ»:
نـائـمـاً..
مُـفـتـرِشـاً ســجّـادَة َ الـرّمْـل ِ
لـحـافـي مـن شِـبـاك ِ الـصّـيـد ِ
والـشّـرْشَـفُ شـوكٌ وزَبَـدْ
وجِـواري نـورسٌ
دون جَـنـاحـيـنِ رقـدْ
مُـطـبِـقـا ً ثـغـري عـلى زهـرة ِ رُمّـان ٍ..
يَـدٌ وسّـدَت ِ الـرّأسَ
وفـوقَ الـوجْـهِ يـدْ
صَـرَخـتْ بـيْ ..
فـزَّ قـلـبـي..
فـتـنـاثـرْتُ قـدَدْ
لـمْـلـمَـتْـنـي..
ثـمّ غـطّتْـنـي بـشـيء ٍ
يُـشـبِـهُ الـغَـيْـمَـة َ..
مـدّتْ يَـدَهـا تـحـتَ ضـلـوعـي
فـاسْـتـحـال الـشّـوكُ عُـشْـبـاً
وإذا الـنـورسُ طِـفـلٌ يـلـعَـبُ
سَـألـتْـنـي: مـا الـذي أشـقـاكَ ؟
قـلـتُ: الـنَـدَمُ الـصّـوفِـيُّ يـا مـعـصـومـةَ الـنـهـديـن ِ..
بـيْ مـنـي حَـيـاءٌ..
أنـتِ قـلـبٌ طـاهِـرٌ بِـكْـرٌ
وقـلـبـي ثَـيِّـبُ..
وأنـا أمْـسـيَ طـيْـشٌ..
والـطِلا..
والـلـعِـبُ
والـنـدى أمـسُـك ِ يـامُـلـهِـمَـتـي
والـذّهَـبُ
كـيـف لا يـنـشـبُ مـا بـيْـنَ ضـلـوعـي
الـلـهـبُ ؟
كـفـكـفـتْ دمـعـي وقـالـتْ
لـكَ مـاضـيــكَ..
ولـيْ يـومُـكُ والآتـي الـذي أرتـقِـبُ

* *

(12)

جـاءنـي
فـي يـوم ِ عـيـدِ الـوردِ «صـوفـائِـيـلُ»..
مـبـعـوثـاً
مـن الـقـانـتـةِ الـزهـراء ِ..
حَـيّـانـي..
وألـقـى لـلـعـصـافـيـرِ عـلى الـنّـخـلـة ِ
قَـمْـحـاً..
جـاءَ طـيـرٌ يُـشـبِـهُ الـهُـدهُـدَ..
حَـيّـاهُ..
فـقـالا كـلـمـات ٍ ..
ومضى الـطـائـرُ حتى غابَ
في حـضـنِ الـفـضـاءْ ..
قـال «صـوفـائـيـلُ» لـيْ:
يا سـادنَ الـقـانِـتـةِ الـعـذراءِ
حَـدّقْ بالسـماءْ !
واقِـفـاً.
يـنـظـرُ مـذهـولا ً مِــن الـدّهْـشـة ِ..
واسْـتـطْـرّدَ «صـوفـائـيـلُ»:
لـمْ يـسْـبـقْ طـوالَ الـعـمـر ِ أنْ شـاهـدتُ يـومـاً
مـطـرا ً يـهـطـلُ تِـسْـكـابـاً من الأرض ِ
عـلى الـغـيْـم ِ..
عـنـيـفـا ًكـسـيـول ٍ
فــيـفـيـض الـغـيـمُ مـاءْ !!
ذُعِـرَتْ روحـي..
تـسـاءلـتُ: هـل الـسّـاعـةُ حـانـتْ ؟
فـتـشـاهَـدْتُ..
وكـبّـرْتُ ..
وحَـوْقـلْـتُ..
وبَـسْـمَـلْـتُ..
فـصـوفـائـيـلُ لا يـكـذبُ..
صـوفـائـيـلُ مـبـعـوثُ الـتي أكـرَمَـهـا الـلـهُ
فـكانـتْ كـعـبَـة َ الـعـشــق ِ
ونـامـوسَ الـنـقـاءْ
رَجَـفَ الـقـلـبُ..
تـمـاسَـكْـتُ..
ولـكـنْ خـانـنـي صـوتـي
فـأجْـهَـشـتُ بـنـوبـات ِ بُـكـاءْ !
صـاحَ «صـوفـائـيْـلُ» بـيْ:
يـاسـادن َ الـصـوفـيّـة ِ الـعـذراء ِ
لا تـفـزَعْ..
فـإنّ الـخـيـرَ جـاءْ
هـذه ِ الأمـطـارُ بـعـضٌ
مِـنْ كـرامـات ِ الـتي أكْـرَمَـهـا الـلـهُ
فـكـانـتْ كـعـبـةَ الـعِـشـق ِ..
ومِـحـرابَ الـعـصـافـيـر ِ..
إذا تـسْـجـرُ تـنّـورَ الـدعـاءْ:
يَـحْـبَـلُ الـغـيـمُ..
وتـخْـضَــرُّ الـبـسـاتـيـن ُ..
وتــنـهـالُ عـلى الظـلـمـة ِ
مِـشـكـاةُ الـضّـيـاءْ !

* *

(13)

يـا الـتـي تـخـتـزلُ الأشـيـاءَ..
والأسـمـاءَ..
حـتـى أصـبـحـتْ إسْـمـاً لِـمـا
لـيْـس يُــسَـمّـى..
يـا تُـرابـاً..
وسَـمـاءً..
و نـخـيـلا ً..
وفـراتـيـن ِ..
ولـيـلايَ..
ونـجـوايَ..
ونـسـريـنُ ..
وسـلـمـى :
نِـعَـمُ الـلّـه ِ كـثـيـراتٌ..
وبـعـضُ الـوَجَـعِ الـقـاتِـلِ نُـعْـمى
حَـبّـةُ الـقـمحِ إذا لم تـنـفـلـقْ
داخـلَ طيـنِ الـحَـقـل ِ
لن تصبحَ لـلـبـيـدر رحْـمـا
ورغـيـفُ الخـبـز لـولا الـنـارُ
مـا اسْـتُـعْـذِب طـعْـمــا
فـأذيـبـيـنـي كـمـا شِـئــتِ
فـإنّ الـذّهَـبَ الإبـريـز لـولا الـجَّـمْـرُ *
مـا كـان الأتـمّـا
وأنـا لـولا ذنـوبُ الأمْـسِ
مـا جـئـتُ إلى واحـاتِـك ِ الـزهـراء ِ
تـوّابـا ً مـن الـشّـوك ِ
وأسْــتـسْـقـي هَـديـلا ً
يوقِـظُ الــنّـايَ الأصَـمّـا
ولـمـا أصْـبَـحْـتُ فـي مِـحْـرابِـك ِ:
الـنّـاطـورَ..
والـسّـادِن َ..
والـنـاهِـلَ مـن يـنـبـوعِـك ِ الـضّـوئـيّ حِـلـمـا
فـأمِـيـتـيـنـي شـهـيـداً..
واخْـلـقـيـنـي مـن جـديـد ٍ:
نـاسِـكَ الـقـلـب ِ..
شــفـيــفـاً..
طـاهِــرَ الأردانِ أحـلامـاً
وهَـمّـا..
وانـفـضـي عـن شـجَـري:
الـذابـلَ والـيـابـسَ..
والـغـصـنَ الـذي يـجـلـدُ عـصـفـورا ً..
خـذيـنـي لِـلـمُحِـبـيـن ظِـلالاً
وعـلى مُـسْـتـذئِـبٍ سـوطـا ً وسَـهْـمـا
فـأمـيْـتـيـنـي شـهـيداً
وابـعـثـيـنـي مـرّة ً أخـرى لأغـدو
لعـيـونِ الـحُـلـمِ حُـلـمـا
وطّـنـيـنـي الـنـهـرَ..
والـبـستـان َ..
بـيـتَ الـطـيـن ِ
لا بـدراً ونـجـمـا
فـأ نـا قـبـلـكِ يـا مُلـهِـمـتـي كـنـتُ بـلـيـداً..
بَـصَـري كـان ســلـيـمـاً
غـيـرُ أنّ الـقـلـبَ أعـمـى
أنـبـذ الـشـهـدَ وأحـسـو
بـكـؤوس ِ الـطـيـش ِ
ســمّـا

* *
(14)

مُرّي بـصـحـرائي
لِـيُـعْــشِـبَ
بـلـقـعُ..
حتى الـرّصـيـفُ إذا مـررتِ
سـيـخـشـعُ
إنْ كان حُـسْـنُ الأخـرياتِ قـصـيـدة ً
فـجـمـالُ وجـهِـك ِيا أمـيـرةُ
مَـطـلـعُ

* *

(15)

قـدْ أخـطـأَ الــتـاريخُ
حـيـن قالْ:
إنّ الـمُـعـلّـقـاتِ عـشْـرٌ..
كُـن َّ
مـن أجـمـلِ مـا قِـيْـلَ من الـشّـعـر ِ
ومـا يُـقـالْ..
عُـلِّـقْـن َ في الـكـعـبـةِ يـا أمـيـرتي
أجـيـالْ
قـدْ أخـطـا الـتـاريـخُ يا حـبـيـبـتـي..
وهـا أنـا اكـتشـفـتُ
حيـن أبْـحَـرتْ سـفـيـنـتي
تـبـحـثُ عـن مـمـالـكِ الـيـاقـوت ِ..
والمـرجـانِ..
و الـتّـيْـنِ الذي تُـصْـنـعُ منـه ُ
الـخـمـرة ُ الحَـلالْ:
عـيـنـاكِ أوّلُ الـمُـعـلّـقات ِ
لـكـنّ الـذيـن أبْـحَـروا فـي الـبَـحْـث ِ
قـدْ خـانـهـمُ الـخـيـالْ..
لـمْ يـعـرفـوا
أن ّ الإلـه َ يـعـشـق ُ الـجـمـالْ
وأنـهُ
حـيـن انـتـهـى
مـن خـلـقِ كلّ الـكون ِ
في لـيـالْ
سَــوّاك ِ يا حـبـيـبـتي قـصـيـدةً
تـمـشي عـلى الأرض ِ
فـتـمـشـي خـلـفـهـا
حـديـقـةٌ زهـورُهـا الـشـعـرُ..
وبـسـتـانـانِ مـن دفءٍ
ومـن زهـورِ بُـرتـقـالْ !!

* *

(16)

أمـسِ ضُـحـىً
رأيْـتُ في بـحـيرةِ الـبـط ِّ صَـبـيّـا ً
يـرتدي سـحـابـةً..
تـرقـصُ فـي مُـقـلـتِـهِ الـحـقـولْ
رأيْـتُ فـي ضـحـكـتِـه ِ
بـراءة َ الـقـانـتـةِ الـبـتـولْ
وفي بـيـاضِ الـبـطّ لـونَ قـلـبِـهـا..
وكنتُ ما بينهما
سـفـيـنـة ً تُـبـحـرُ في الـمـجـهـولْ
تـبـحـثُ عـنْ طـفـولـةٍ ضـائـعـةٍ
وعـن بـسـاتـيـني الـتي مـا مـرَّ فـيـهـا
مـوكـبُ الـفـصـولْ

* *

(17)

شـجّ جـدارُ الـقـلـقِ الـوحْـشِـيِّ رأسـي..
سـالَ خـيْـطٌ مـن دمٍ
عـلى رصـيْـفِ الـوقـتِ
بـيـن آخـرِ الـلـيـل ِ
وبـيـن الـصُّـبْـحْ
فأدْخَـلـونـي غـرفـة ً
بـيـضـاءَ مـثـلَ الـمِـلـح ِ..
أو
مـثـلَ ضَـمـادِ الـجُّـرحِ..
أو
مـثـلَ نـديـفِ الـثـلجِ فـي الـغـربَـةِ..
أو
مـثـلَ أداةِ الـذّبْـحْ..
وكـنـتُ أرجـو أن أرى شـرشـفَـهـا
يُـشـبـهُ فـي بـيـاضِـهِ
فـسـتـان َ عُـرس ِ غـادتـي الـزهـراء ِ
أو
يُـشـبـهُ زهـرَ الآس ِ
في لـيـلـة ِ
عِـيْـد ِ الـفـصْـحْ !
.............
.................
.....................
أجْـلـسَـتـنـي امـرأة ٌ تـعْـتـمِـرُ الـقُـبّـعَـة َ الـبـيـضاءَ
فـوق مـقـعـدٍ شِــبـهِ وثـيـرٍ
سـألـتـنـي بـعـدمـا قاســتْ لـيَ الـضّـغـط َ..
ونـبْـضـي..
ورأتْ إشـارة َ الـمِـحْـرار ِ:
كـمْ عُـمْـرُكَ «يـايـا»* ؟
فـأجَـبْـتُ:
أنا يـاسـيّـدتي مـا زلـتُ
فـي رَحْـم ِ «الـتي لـيْـسَـتْ تُـسَـمّـى»:
نُـطْـفـةً تـأمَـلُ أنْ يُحـضـنـهـا
صـدرٌ وبَـْيـتُ..
أتُـرانـي
دون َ أنْ أدري:
اكتسـى عـظـمـيَ لـحْـمـا ً
فـوُلِـدتُ ؟
أتـرى أنَ الـدمَ الـنـازفَ مـن رأسـي
بـقـايـا مـن دم الـطّـلـق ِ
ولـكـنـي جَـهـلـتُ ؟
إنـنـي أعـرفُ نـفـسـي ..
لـمْ أعِـشْ بـعـدُ..
فـهـل يُـمْـكِـنُ أنْ يـحْـدثَ قـبـلَ الـعـيْـش ِ
مـوْتُ ؟
.....
.......
فـغَـرَتْ فـاهـاً وعـيـنـيـن ِ..
وزمّـتْ شـفـتـيْـهـا..
نـظـرَتْ لـيْ بـذهـول ٍ
حـدّثـتْ صـاحِـبَـهـا بـالإنـكـلـيـزيّـة ِ
لـكـنـي فـهِـمْـتُ..
أتُـراهـا حَـسِـبَـتْـنـي
لا أعـيْ قـولـي ؟
وأنّ الـبُـعـدَ عـن كـعْـبـة ِ «صـوفـائـيـل َ»
أضـنـى مـا تـبـقّـى مـنْ لُـبـابـي
فـجُـنِـنـتُ ؟
فـأنـا إنْ لـمْ أكـنْ عـاشِـقـهـا الـمــجـنـونَ..
والـمُـبْـحِـرَ حـتـى غَـرَقـي عِـشـقـا ً
لـمـاذا قـدْ خُـلِـقـتُ ؟
ســألــتـنـي مـرةً أخـرى بـريـب ٍ:
كـمْ مـضـى «يـايـا» عـلى حـالـكَ ؟
قـلـتُ:
لـسْـتُ أدري..
ربّـمـا مـرَّ عـلـى الـحـالـةِ كـأسـانِ مـن الـدّمـعِ
وحَـبْـلٌ - طـولُـهُ الـلـيـلُ-مـن الآهـاتِ
أو مـرَّ عـلـيـهِ الـغـدُ..
لا أعرف بـالـضّـبـط ِ..
الـذي يـعـرفُه قـانِـتـتـي الـزهـراءُ..
لـو أعـرفُ قـلـتُ...
حَـسَـنـاً ـ قـالـتْ ـ بـرفـقٍ :
مُـدّ لـيْ سـاعـدَكَ الأيـمـنَ «يـايـا»...
فـمَـدَدْتُ..
زرَقـتْـنـي إبـرةً...
جَـسّـتْ جـبـيـنـي..
لـحـظـة ٌ مـرّتْ..
وأخـرى...
غـامَـتِ الـغـرفـة ُ..
غـامَ الأبـيـضُ الـنـاصِـعُ..
غـامـتْ حـدقـاتـي...
وغـفـوتُ !
زارَنـي في الـطّـيـفِ «صـوفـائـيـلُ»
غـطّـانـي بـورد ٍ..
رشّ جُـرحي بـزفـيـر ٍ
فـيـهِ نـفـحُ الـفـلِّ..
والـرّيـحـان ِ..
والـنـعـنـاع ِ..
دفءُ الـخـبـز ِ..
طـعْـمُ الـقـبـلـةِ الأولـى الـتـي كـانـتْ
وكـنـتُ
نـتـسـاقـاهـا إذا ثـرثـرَ عِـطـرُ الـلـيـلِ
واسْـتـفـحَـلَ صَـمْـتُ !

* *

(18)

أنـزلـتُ خارطة َ الـتـهَـيُّـم ِ من جـدارِ الـقـلـبِ..
عـلّـقْـتُ ابْـتِـهـالاتـي بـمـحـرابِ الـتـي لـيـسـتْ
تُـسـمّـى..
زخّـتِ الـزهـراءُ مـنْ عـلـيـائِـهـا
مَـطـرا ً مـن الـضّـوء ِ الـمُـبـارَكِ..
فـاسْـتـحَـمَّ الـقـلـبُ بـالـنـورِ الـمُـقـدّسِ..
فـرَّتِ الـظـلُـمـاتُ مـن لـيـلـي
فـحـيـثُ مـشـيـتُ يـأتـلِـقُ الـطـريـقْ
بـشـمـوسِ قـانـتـتـي الأميــرة ِ
هـا أنـا كالـسـيـفِ لـحـظـةَ سَــلِّـهِ مـن غِـمـدهِ
لا يـرتـدي غـيـرَ الـبـيـاض.ِ
وكـالـولـيـدِ الـبـكـرِ عـادَ
فِـراشـةً عـذراءَ
تـنـهــلُ مـن أزاهــيـر الـتي لـيْـسـتْ تُـسـمّـى
فـالـرّحيــقْ
صـحـنـي ومـائـدتـي
إذنْ:
طـهِّـرْ بـنـاركَ طـيـشَ أمـسـي الـمُـسْـتـبـى..
أحْـرِقْ جـمـيـعَ الــشّــوكِ
فـي صـحــراءِ يـومـي يـاحَـريـقْ

آلـيْـتُ إلآ أنْ أكـون
بـنـهـر كـوثـرِهـا
الـغـريـقْ
نـقْـشــاً ـ عـلـى قـلـبـي ـ بـإزْمـيـلِ الـتـبَـتُّـلِ:
خَـطَّ «صـوفـائـيـلُ»
أسْـمـاءَ الـتـي لـيـسـتْ تُـسـمّـى
كـالأنـيـسـةِ..
والـنّـديـمـةِ..
والـصـديـقـةِ..
والـعـشـيـقـةِ..
والـرّفـيـقـةِ..
والـحـبـيـبـةِ..
والـتـي نـفـخَـتْ بـروح ِ الـعـشـق ِ
فـي صـحـراءِ عـمـري
فـاسْـتـحـالَ الـرّمـلُ يـاقـوتـاً
وصـار حـصـى مـفـازاتـي
الـزّبُـرْجـدَ والـعـقـيـقْ

* *
( الـيـومَ طـهـرٌ وغـدا ً طـهــرُ )*
لا وحْـلَ بـعـدَ الـيـوم ِ يـاعِـطـرُ

أيــشـربُ الـوَحْـلَ فـمٌ ظـامـئٌ
وقـربَـهُ الــيـنـبـوع ُ والــنـهــرُ ؟

مـا حـاجَـتـي لـلـشّـوك ِ أرتـادُهُ
وحـولـيَ الأعــنـابُ والــزُّهــرُ ؟

فـلـتُطـفئ الريـحُ سـنا شـمـعَـة ٍ
مـادمتِ أنتِ الشـمـسُ والـبـدرُ

* *

(19)

مـا دمـتُ مـسـجـونـاً
بـمـحـرابـكِ يـا قـانـتـتـي
فـكـلَّ لـيـل ٍ سَــمَــرٌ
وكـلَّ صُـبْـح ٍ عـيـدْ
فـمـا الـذي أريـدْ
أكـثـرَ مـنْ سـجـن ٍ تـكـونـيـن بـهِ
مُصـطـبـحـي إذا ابـتـدأتُ الـصّـحـوَ..
والـمُـغْـتــبـقَ الـعـذبَ
إذا نـصـبْـتُ كـلَّ لـيـلـة ٍ
مـائـدة َ الـقـصـيـدْ ؟
أرتـشِـفُ الـرّاحَ
بـكأسِ الـلـثـم ِ..
أسْـتـنـشِـقُ
ورْدَ الـفـلِّ
فـي حـديـقـة ِ الـخـدِّ
وروضِ الـجـيـدْ
حـتـى إذا أتـعـبَـنـي الـعـنـاقُ
أو تـعْـتـعَـنـي الـسُّـكْــرُ
وغـامـتْ مُـقـلـي
أرحـتُ وجـهـي
فـي سـريـر صـدرِك ِ الـنـهـيـدْ
وسـادتـي مـن زنـبـق ٍ..
تُـلـحِـفُـنـي حـريـرَهـا ضـفـيـرةٌ حُـلّـتْ
فـأغـفـو حـالـمـاً
بـعـودة ِ الـنـورسِ والـنـورسـةِ الـبـتـولِ
نـحـو الـوطـنِ الـبـعـيـدْ
فمـا الـذي يـطـلـبُـهُ الـعـصـفـورُ
مـن مـمـلـكـةِ الــبـســتـانِ
غـيـرَ الــنـبـع ِ..
والـعـنـقـود ِ..
والـبـيـدرْ ؟
أيـقـنـعُ الـعـصـفـورُ أنْ يــسـتـبـدِلَ
الإبـريـزَ..
والـفـضّـة َ..
والـيـاقـوتَ..
والـجـوهـرْ
بـغـصْـنِـه ِ الأخـضـرْ ؟

* *

(20)

جاءني
في خلوةِ الفجرِ على الـسـاحـلِ
«صوفـائـيـلُ »
يـمـشـي خـلـفـهُ الأطـفـالُ..
والأزهـارُ..
والـنهـرُ..
وأسـرابُ الـحَـمـامْ
قـالَ لـيْ:
تُـبْـلِـغُـكَ الضّـوئـيّـة ُ الـعِـشـق ِ
الـسّـلامْ
وتـقـولُ احْـذرْ مـنَ:
الـغـمْـز ِ..
أو
الـلـمْـز ِ..
أو الـهَـمْـز ِ
إذا تـكـتـبُ شـعـرا ً..
فالـذي يـغـمـزُ
أو يـلـمِـزُ
أو يـهـمِـزُ من طاهرةِ الـثـوب ِ لـئـيـمٌ..
وأنا فـردوسـيَ الـنـاسِـكُ لا يـدخـلـهُ
الـمارقُ..
والآثِـمُ..
والآكِـلُ مـن صَـحْـن ِ الـطـواويـسِ
ومـاعـون ِ الـلـئـامْ
لِـيـكـنْ شِـعـرُكَ عَـفّـاً كـالـتـراتـيـل ِ..
طـهـورا ً كـالــتّـسـابـيـح ِ..
نـقِـيّـا ً كـدمـوعِ الـعِـشـقِ والـوجـدِ..
مُـضـيـئـاً كـالـمـرايـا..
ونـديّـاً كـالـغـمـامْ
لـيـسَ شِـعـراً
حـيـن لا يُسْـهِـمُ فـي الـذّودِ عـن الـوردِ..
وعن عـشّ ِ الـعـصـافـيـرِ..
الـفـراشـاتِ..
ولا يُـسْـهِـمُ فـي حـرب ِ الـقـنـاديـلِ
عـلى وحـشِ الـظـلامْ
قـلـتُ:
يـا الـقِـدّيـسُ «صـوفـائـيـلُ»
مـاذا لـو أخٌ لـيْ
أو رفـيـقٌ
أو صـديـقٌ
يـفـتـري بـالـغـمـز ِ
أو بالـلـمـز ِ
أو بـالـهَـمْـز ِ
أو يـزعَـمُ فـي الـقـولِ
إذا عَـرْبَـدَ فـيْ يـافـوخِـهِ
ذئـبُ الـمُـدامْ ؟
قـال:
فـاخـلـعْـهُ مـن الـقـلـبِ
كـما تـخـلـعُ ثـوبـاً
كـان كالآس ِ بـيـاضـاً
ثـمّ أضـحـى خَـلِـقَ الـرّدْنِ
مـوشّــىً بـالـسّـخـامْ
مـا الـذي يُـغـويـكَ بالـغـامِـزِ
والـلامـزِ
والـهـامِـزِ
خِـلّاً ونـديـمـاً ؟
قـطـرةٌ واحِـدةٌ مـن دَرَنٍ
تُـفْـسِـدُ مـاءَ الـكـأسِ..
أو تـجْـعَـلُ مـا كـانَ حَـلالا ً
نـجِـسَ الـلـمْـسِ
حـرامْ !

* *
(21)

مـطـرا ً تـزخُّ عـلـيَّ
مـن جَـمْـرِ الـظـنـون ِ
الأسـئـلـةْ..
الـدَّربُ مـوحِـشـة ٌ..
وأحْـداقـي مُـفـقّـأة ٌ..
فـمـا نـفـعُ الـضّـريـرِ بـمُـقـلـةِ الـقِـنـديـلِ
أو بـالـبـوصَـلـةْ ؟
يـومـانِ مَـرّا ..
لـم يـزُرْ عـيـنـيَّ «صـوفـائـيـلُ»
حـتـى أسـألـهْ
الـصّـبْـحُ أعـمـى..
لا أمَـيِّـزُ بـيـن غـصـنِ الـيـاسـمـيـنِ الـغـضِّ
والـثـعـبـانِ..
بـيـن الـبـرتـقـالـةِ فـي الـضـحـى
والـقـنـبـلـةْ
والـلـيـلُ بـئـرٌ
غـائِـرٌ فـي جـوفِ كـهـفٍ
لا دِلاءَ لـهُ
ولا مـن سُـلَّـم ٍ كـي أنـزلـهْ
قـدَمـي طـلـيـقٌ..
والـطـريـقُ مُـكـبَّـلـةْ
وحـبـيـبـتـي خـلـفَ الـمـدى
شُـدّتْ إلـى صـخـر الـهـمـوم ِ
بـسِـلـسِـلــةْ
يـادارَ دجـلـة َ أشْـمِـسـي
لأعـودَ بـالـمـعـصـومـةِ الـنـهـديـنِ
نـطـوي خـيـمـةَ الـمـنـفـى
نـعـيـدُ الإعــتِـبـارَ لـ «عـروةَ بـنِ الـوردِ»..
نـحـرثُ حـقــلـنـا
ونـقـيـمَ مـمـلـكـةَ الـرّبـابـة ِ
والـحـمـامـةِ
والقُـرُنـفُـل ِ
والـشـذا
والـسّـنـبـلـةْ
صـرتُ الـذَلـيـلـة َ - نـخـلـتـي قـالـتْ-
وكـنـتُ مُـدَلـلـةْ.. !
بـسـتـانـنـا مـرعى الـذئـابِ
وحـارسُ الـبـسـتـانِ لـصٌّ
حِـصّـتـي دغـلٌ..
وحِـصّـتُـهُ الـبـيـادرُ والـغـصـونُ الـمُـثْـقـلـةْ
الـثـوبُ ثـوبُ الـهـاشِـمـيِّ الـطـفـلِ
لـكـنْ
فـي جـيـوبِ الـثـوبِ
نـبْـلـة ُ «حَـرْمَـلـةْ»

* *
(22)

قـلـتُ لـ «صـوفـائـيـلَ» في لـقـائِـنـا الأخـيـرِ:
إنّ الـصَّـحْـبَ..
والـرّفـاقَ..
والأحِـبَّـةَ الـثُـقـاة َ
يـسـألـونـنـي: مـا اسْـمُ أمـيـرةِ الأمـيـراتِ
«الـتـي لـيـسـتْ تُـسـمّـى» ؟
وأنـا أسـألُ نـفـسـي: مـا اسـمُـهـا ؟
والـوردُ في حـديقـتـي يـسـألـنـي:
مـا اسْــمُ الـتـي تـقـولُ عـن زفـيـرهـا بـأنـهُ
أعْـطـرُ مـن جـمـيـعِ مـا فـي الـرّوض ِ
مـن أشـذاءْ ؟
والــكَـرَزُ الـنّـاضِـجُ..
والـزهـورُ مـن قـرَنـفـلٍ
وزهْـر ِ رُمّـانٍ
ومـن سـفـرْجَـلٍ
تـسـألـنـي: ما اسْـمُ الـتـي تُغـيـظـنـا
بـثـغـرهـا الـضّـوئـيِّ كـالـيـاقـوتـة ِ الـحـمـراءْ ؟
وشـرشـفُ الـوسـادةِ الـزرقـاءِ..
والـمـلاءةُ الـنـاعِـمـةُ الـبـيـضـاءْ
سـاءلـتـانـي: مـا اسْـمُ مَـنْ كـتـبـتَ
أنَّ جـيـدَهـا
أنْـعَـمُ مـن حـريـرِنـا الـنـاعـمِ مـثـلَ الـمـاءْ ؟
والـحـاسِـدون َ الـمـاضـغـون َ لـحْـمَـهُـمْ
والـحـاقِـدونَ الـشّـاربـون قـيْـحَـهـمْ
تـسـاءلـوا: مـا اسـمُ الـتي أعـادت ِ الـصُّـداحَ
لـلـحـنـجـرة ِ الـخـرسـاءْ ؟
وحُـجـرتـي تـسـاءلـتْ: مَـنِ الـتـي
حـوَّلـتِ الـمُـقـرَّحَ الـجـفـن ِ
إلـى قـيـثـارة ٍ أتـعَـبَـتِ الـغِـنـاءْ ؟
مـولايَ «صـوفـائـيـلُ» هـلْ أنـجَـدْتـنـي ؟
أريـدُ أنْ أخـبـرَهـمْ عـن اسـمِـهـا
لـكـنـهُ أكـبـرُ مـن حـنـجـرتـي
فكـلّـمـا أردتُ أنْ أنـطـقـهُ
يُـصـيـبـنـي الإعـيـاءْ
حـاولـتُ أنْ أكـتـبَـهُ
لـكـنـنـي أفـشـلُ كـلَّ مـرة ٍ
كـأنـنـي أريـدُ أنْ أجْـمَـعَ:
مـاءَ الـنـهـرِ..
والـيـنـبـوع ِ..
والأمـطـار ِ
فـي إنـاءْ !!
أجـابَ «صـوفـائـيْـلُ»:
يـا سـادنـهـا
مـولاتـكَ الـقـانـتـة ُ الـعـذراءْ
غـدتْ بعـيـنـيـكَ الـمَـدى
وكلَّ مـا قـد خـلـقَ الـلـهُ مـن الـنـسـاءْ
فـإنْ أرَدْتَ ذكـرَهـا
عـلـيـكَ أنْ تـذكـرَ
مـا قـرأتَ..
أو سـمـعْـتَ..
أو كـتـبْـتَ مـن أسـمـاءْ !

* *

(23)

أرِقْـتُ لِـسِــرِّ قـانِـتـتي:
لـديهـا الـتِّـبْـرُ والياقـوتُ..
في فـردوسِهـا نهـرانِ من ضـوءٍ
ومن عـسَـل ٍ..
تـحـجُّ إلى زنابـقِـهـا الـفـراشـاتُ..
الـرَّصيـفُ يكادُ يرقـصُ
تحـتَ خـطوتِهـا..
يـفـيقُ الجُـلّـنـارُ
على شـذا فـمِـهــا
ويـثـمـلُ مـن طِلاهُ قـرنـفـلٌ
وخُـزامْ
عـلامَ إذنْ
تـفـيـضُ أسـىً..
وتـشـكـو ربَّـهـا
مِـنْ دَهـرِهـا ..
والـدّار ِ..
والأيّـامْ ؟
أيـشـكـو الـقـحْـط َ ذو يُـسْـر ٍ
لـهُ نـبـعٌ عـلـى سَـعَـةِ الـخـيـالِ
يـحـجُّ ظـمـآنـاً إلـيـهِ الـنهـرُ
يـسـتـجـديـهِ ريّـا ً..
لا تُـغـادرُ بـيـتـهُ الـنُّـعـمـى
ولا شُـرُفـاتِـهِ الأنـسـامْ ؟
عـلامُ إذا تـؤمُّ الـوردَ في مـحـرابـهـا
تـبْـكـي..
فـيـبـكـي الـعِـشـقُ..
يـنـدبُ حـظـهُ الـرّيـحـانُ..
يـلـطـمُ نـايَـهُ الـرّاعـي
وتـشـهــقُ بـالـنّـحـيـبِ ربـابـة ٌ
صـوفِـيَّـةُ الأنـغـامْ ؟
سـألـتُ أمـيـنـهـا الـقـدّيـسَ «صـوفـائـيـلَ» :
يـاقِـدّيـسُ
مـا سِـرُّ الـتـي لـيـسَـتْ تُـسـمـى ؟
حُـزنـهـا حــزنٌ ..
وضـحـكـتـهـا لـهـا شـجَـنُ الـرّبـابـة ِ..
مـا الـذي جـعـلَ الأمـيـرةَ تـشـتـكـي
وهِلالُ نِـعـمَـتِـهـا تـكـامَـلَ فـهـو بـدرٌ تـامْ ؟
فـقـال أمـيـنُ سِــرِّ بـكـائِـهـا الـقِـدّيـسُ صـوفـائـيـلُ:
إنَّ بَـتـولـكَ الـصُّـوفـيـة َ الـعـيـنـيـنِ
قـد رأتِ الـحـدائِـقَ تـشتـكـي وَجَـعـا ً..
وأنّ الـعِـشـقَ
أضـحـى كـالـنـخـيـل ِ الـسّـومـريِّ الـيـومَ:
شـاصَ الـتّـمْـرُ فـيـهِ..
وبـدّلـتْ أخـلاقَـهـا الأعـذاقُ..
بـاتَ الـعـشـقُ مُـتَّـهَــمـا ً
لأنَّ الـطّـارئـيـن عـلـيـهِ أرجـاسٌ أبـالِــسَــة ٌ..
وأبـكـاهـا الـذي أبـكـى الـحـمـامـةَ
حـيـنَ حـاولَ أنْ يَـطـالَ بَـيـاضَـهــا عـاثٍ
بـبـعـضِ سَـخـامْ !!
وهـلْ نـجَـحَ الـصّـفـيـقُ ـ سـألـتُ صـوفـائـيـلَ ـ ؟
قـالَ: مـعـاذ ربـي..
هـلْ يـطـالُ بـجُـحْـرهِ فـأرٌ سـمُـوَّ غـمـامْ ؟

* *

(24)

أمـسِ فـجـراً
أطـبَـقَ الـسُّـهـدُ جـفـوني..
فـرأيْـتُ الـوردَ -أو شُـبِّـه َ لـيْ -
يـنـسـجُ ثـوبـيـنِ من الـعـطـر ِ..
وعـصـفـوراً عـجـيـبـاً
ريـشُــهُ يـقـطـرُ نـورا ً
كـالـذي يـقـطـرُه ُ في الــلـيـلِ
جـفـنُ الأنـجُـم ِ
ورأيـتُ الـشـمـسَ في هـيـئـة ِ غـصْـن ٍ
يــتـدلّـى مـنـه ُ عـنـقـودٌ مـن الـيـاقـوت ِ..
والـيـاقـوتُ يـا مـعـصـومـةَ الـنـهـديـن ِ قـان ٍ
لـونُـه ُ لـون ُ دمـي
ورأيـتُ الـنـهـرَ ـ أو شُـبِّـه َ لـيْ ـ يَـغـسِـلُ
سـاقـيـك ِ..
ونـهـديـك ِ..
ويَـلـتـفُّ عـلى الـخـصـرِ
الـتِـفـافَ الـبُـرْعُـمِ
فـتـعَـجّـبْـتُ..
وصـلّـيْـتُ صلاة َ الـفـجـرِ قـصـراً..
ثـمّ صـلّـيْـتُ...
وصـلّـيـتُ...
ولـكـنْ:
فـرَّ مـن وجـهـي إلى ثـغـركِ والـجـيـدِ فـمي
ويـدي مَـرّتْ عـلى الـخـصـرِ بـرفـقٍ
كـالـذي يـفـعـلُ ذو نُـسْــكٍ
بـبـابِ الـحَـرَم ِ
ثـمّ لـمّـا قـمْـتُ
كـيْ أكـمِـلَ تـطـوافـيَ سَـبْـعـاً:
فـزَّ قـلـبـي .. !
أ تُـرى ـ يا ربَّةَ الهدهدِ ـ مـا تـفـسـيـرُ
هـذا الـحُـلُـم ِ ؟

* *

(25)

أبو نؤاسٍ قـرّرَ الـتّـوْبـة َ
هَـشّـمَ الـكـؤوسَ كـلّهـا
وحَـطّـمَ الـدِّنـان َ..
والـزِّقـاقَ..
والـقِـرابْ
صـارَ إذا مَـرَّ أمـامَ حـانـةٍ
يَـفـرُّ مـذعـورا ً
إلى واحـتِـه ِ الـزّهـراءِ
أو يـلـوذُ بـالـمِـحْـرابْ
فـلـم يَـعُـدْ يُـراقِـصُ الـقِـيـان َ
أو يُـسـامِـرُ الـقـيـثـارَ
أو يـضـربُ بالـدُفِّ
إذا تَـمـايـلتْ بـخـصـرهـا غـانـيـة ٌ
واهْـتـزَّتِ الـرّقـابْ
ولـيـس تُـشـجـيـه «دنـانـيـرُ»*
ولا «ربـابْ»
وبـائـعـاتُ الـعَـسَـلِ الـمُـرِّ..
اصْـطـفـى لِـقـلـبِـهِ
عـاشِـقـة ًطـاهِـرةَ الـفـؤادِ
والـفـم ِ..
الـيـد ِ..
الـخـطـى..
الـتـراتـيـل ِ..
الـصَّـدى..
الـرّضـابْ..
أبـو نـؤاسٍ تـابَ..
لا يُغـويـه ِ صـدرٌ نـافِـرُ الـنـهـديـن ِ..
لا مَـلاسَـة ُ الـسـاقـيـن ِ..
لا تـغـنّـجُ الـعـيـنـيـنِ ..
لا الـكـحْـلُ الـذي يَـثـمَـلُ مـنـهُ الـجـفـن ُ
والأهـدابْ..
دمـوعُـهُ مُـغْـتـبَـق ٌ
مَـزّاؤهُ الـتّـرتـيـلُ..
والـمُـصـطـبَــحُ الـكِـتـابْ
أبـو نـؤاس ٍ لـمْ يـعُـدْ أبـا نؤاس ٍ
صـار يُـدعـى:
ســادِنَ الـقـانِـتـة ِ الـصّـوفـيّـة ِ..
الـبـتــولِ..
والأمـيـرةِ الـنـاسِـكـةِ..
الــطّـاهِـرةِ الـتي هـواهـا رحـمـةٌ
وعِـشـقُـهـا ثـوابْ

* *

(26)

كـنـتُ لا أقـدرُ أنْ أنـهـضَ
مـن ثِـقــلِ خـطـيـئـاتِ ضَـيـاعِ الأمـسِ
مـا بـيـنَ نـديـمـاتٍ
وكـأس ٍ راعِـفِ الـرّاح ِ..
ودِنِّ
فـأنـا كـنـتُ ضـحـايايَ..
وجـلّادي..
وسَـجّـانـي..
وسـجـنـي.. !
خَـدَعَـتْــنـي نــزَواتٌ
أوْهَـمَـتْ عـيـنـيَّ..
فــاسْــتـعْـذبـتُ فـي طـيـشـيَ
شـهـداً..
ورحـيـقـاً
بـكـؤوسٍ مـن مـتـاهـاتٍ ..
وظـنّ ِ
أوشــكـتْ ريـحُ ضَـيـاعِ الأمـس ِ
أنْ تُـطفـئَ قــنـديـلَ يـقـيـنـي
قـبـلَ أنْ تـهـبـطَ مـن فـردوسِـهـا قـانِـتـتـي
فـاسْـتـنـقـذتـنـي..
أعْـشَـبَـتْ كـلَّ صـحـارايَ..
ظـلامُ الأمـس ِ ولّـى..
فـغـدي أبـصـرُهُ الان أمـامي
واضِـحـاً
كـالـبـدرِ فـي الـلـيـلِ الأغـنَّ
فـأرى شـبّـاكـيَ المــفـتـوحَ لـلـشـمـسِ:
مـلاذا ً لـلـفِـراشـات ِ..
الـعـصـافـيـر ِ..
أرانـي فـيـه ِ طـفـلا ً
يـسـبـقُ الـبـط َّ إلـى الـنـهـر ِ
يُـغـنّـي:
لا تـــســلْ عــنـي فــإنـيْ
لــم أعُــدْ أمــلــكُ مــنــي
غـيـرَ مـا يــمــلــكُ ظِــلٌّ
من جـنى عِـذقٍ وغـصْن ِ
فـــإذا شِـــئــتَ ســــؤالا ً
فـلــتَـسَــلْ قـلـبَــكَ عــني

* *

(27)

لا أحَـدْ..
خلدَ الطيرُ إلى العُـشّ ِ..
الـنـدامى غادروا مـائـدة َ الـلـيـل ِ
ونامَـتْ خـضـرةُ الأشـجـار ِ
والـشـارعُ قـفـرٌ ..
لا أحَـدْ..
وحـدَكَ الانَ تجـوبُ الـلـيـلَ
تسْـتجـدي من الشـمـس ِ شـروقـا ً..
نـيـزَكٌ يسْـقـط ُ..
بـرْق ٌ..
وبَـرَدْ..
نادِلاتُ المـطـعـم ِ الـليلـيّ أطـفـأنَ المصابيحَ..
السُّـكارى غـسـلوا بالصّخبِ الشـارعَ
من ثرثرة ِ الصمت ِ..
وأنتَ الـنورسُ الشـرقيُّ
تستجْدي الفراتين ِ نميراً
وحبيبا ً كلما تقربُ من شـرفة ِ عـينيه ِ
ابْـتـعَـدْ !
لا أحَـدْ
وحْـدَكَ الان َ..
الـمـشـاويـرُ ضَـيـاعٌ
أسْـدَلـتْ أجـفـانهـا الأنجـمُ
والـقـنـديـلُ يـشـكـو منْ رَمَـدْ
زخّـة ٌ أخـرى..
ثـقـيـل ٌ مطـرُ الليلة ِ
والـرّعْـدُ أشـدْ..
تـتـركُ الـسّـاحِـلَ
تـرمي الجـسَــدَ الـمَـبـلـول َ
فـوق الـمـقـعـدِ الخلـفيّ
تـسْـتـحـضـرُ أنـثـاكَ الخرافيّة َ..
تـسـتـنجـدُ بالبتولِِ :
بـئـري مُظـلـمٌ..
مُـدّي لمـقـتـولِـكِ عِـشـقـاً
من مَـسَــدْ !
فـيجيء الـصـوتُ:
عُـذرا ً..
لا أحـدْ !
أيـهـا الـمُـبـحِـرُ في
ليلِ الأبـدْ
يا طريدَ الجـنـةِ العذراءِ
ياناطورَها الصّـوفـيَّ:
مابينكَ والمحـبـوبِ سَــدْ
والدراويـشُ..
المـتـاهـاتُ..
لصوصُ الفـرح ِ الأخضر ِ..
حِـيـتـانُ الـبَـلـدْ..
كلُّ بـحْـر ٍ ولـهُ جَـزرٌ
ومَـدْ
وفـنـاراتٌ على الـسـاحِـل ِ
إلآ
لـيـلـكَ المـمـتـدُّ من مـسْـغـبَـة ِ الأمـس ِ
إلى مـرثـاة ِ غـدْ
أنتَ مـحـكومٌ بـهـذا الـعِـشْـق ِ
لكـنْ
لـنْ ترى من نـهـرهـا الصـوفـيِّ
إلآ
حَـجَـرَ الصّـدِّ
وكأسـا ً من زبَـدْ
فاطبقِ الـجـفـنَ على جُـثـمـانِ أحـلامِـكَ
جَـهِّـزْ لِـلـرّبـابـاتِ مـراثـيـكَ
فـقـدْ شـارَفـتَ أنْ تـنـزلَ
عن سَـرْج ِ حِـصـان ِ الأرض ِ
يا هـذا الـجَـسَـدْ

* *
(28)

جـرّبْـتُ يومـاً أن أكون سِـوايَ..
غـيـرَ الـسّـومـريّ الـزّاهـدِ
المـسـكـونِ بامـرأةٍ
ومـشـحـوفٍ «يـطـرُّ الـهـورَ»..
يـخـرجُ فـي الـصّـبـاحِ
بـعُـدّةِ الـصّـيْـدِ الـقـديـمـةِ:
«فـالـة ٌ» و «الـزّهـرُ»..
«قوري الـشّـاي»..
و «الـخـبـزُ الـرقـيـقُ»
فلا يعـودُ قُـبَـيْـلَ قـهـقـهـةِ الأصـيــلْ
جَـرّبْـتُ يـومـاً أنْ أكـون سِـوايَ
غـيـرَ الـبـابـلـيِّ..
كأنْ أكون الطائـرَ الـجَـوّالَ
والغـجـريَّ لا وطـن ٌ لـهُ غـيـرُ الفضاءِ
وخيمةٍ تُـطـوى بلا تـعَـبٍ
إذا أزِفَ الـرّحِـيــلْ
أبدلـتُ بـالـيـشـمـاغِ قُــبَّـعـة ً..
وبـالـمَـشـحوفِ نـعْـلَ تـزلّـج .
وبـطـاسَـةِ الـلـبَـنِ الـخـضيـضِ الكأسَ ..
والـسُّـمَ الـمُـعـتّـقَ
بالـنّـمـيـر ِ الـسّـلـسـبـيـلْ
طـوَّفـتُ في مُـدُنِ الـنُّـحـاس..
قـطـفْـتُ مـن روضِ الـثـغـورِ الـوردَ ..
لـكـنْ:
فـي الـحقـيـقـةِ لم يـكنْ إلآ رمـاداً
غـيـرُ أنَّ الـسّـومـريَّ
تـوهَّـمَ الـجـنـفـاصَ قَـزّا ً...
كان يـجْـهَـلُ مـا يُـريـدُ
ولـم تـكـنْ فـي حـيـنـهِ الـزّهـراءُ قـد هَـبَـطـتْ..
و«صـوفـائـيـلُ» ذاك الـوقـتُ
لـمْ تـبْـعَـثْـه ُ بـالـبُـشـرى
لـذا فـالـسّـومـريُّ أضـاعَ قِـنـديـلَ الـسّـبـيـلْ
جـرّبْـتُ يـومـا ً أنْ أعـيـشَ تـمَـرُّدي
فـي جَـنّـة َ الـمُـتـشـرّديـنَ:
غـفـوتُ في الـمُـتـنـزّهـاتِ
وفي مَـحـطـاتِ الـقـطـاراتِ الـقـديـمـة ِ..
قـاسَـمَـتْـنـي غـادةٌ «روسِـيّـة ٌ» مـأوايَ
فـوق الـمَـصْـطـبـات ِ..
وفي الـمـزارع ِ..
فـي بـيـوتٍ بَـخـسَـةِ الإيـجـارِ
يَـنْـدرُ أنْ يـعـودَ إلـى أسِـرّتِـهـا
إذا خـرجَ الـنّـزيـلْ
وصَحَـبْـتـهـا فـي رحْـلـتـيْـن ِ..
وحـيْـنـمـا أفـلـسْـتُ:
بـعـتُ الـخـاتـمَ الـذهـبـيَّ والـسّـلـسـالَ..
عِـشـنـا لـيْـلــةً حـمـراءَ
فـي نُـزْلٍ
يُـطِـلُّ عـلـى مَـضـيــقِ «الـدّرْدَنـيـلْ»..
ثـمّ افـتـرقْـنـا بـعـد يـومٍ واحِـدٍ
ذهـبَـتْ إلى «هِـنـغـارِيـا»..
وأنـا اتّـجـهْـتُ
إلـى «بـلـغـرادَ»..
الـحـقـيـقـة ُ
لـمْ أفـكّـرْ بـالـرّحـيــلْ
لـكـنّـمـا «اسْــتـنـبـولُ»:
مـوحِـشـةٌ بلا مـالٍ
تـنـشُّ بـه ِ
ذئـابَ الـوحـشـة ِ الـخـرسـاء ِ
فـي الـلـيـل الـطـويـلْ
حـاولـتُ أرجـعُ لـلـسـمـاوة ِ
غـيـرُ أنّ الـمـارقَ الـشّـيـطـانَ أغـوانـي..
فـيَـمَّـمْـتُ الـحـقـيـبـة َ نـحـوَ «صـوفِـيّـا»..
رقـصْـتُ...
ثـمـلـتُ...
نـمـتُ بـفـنـدق ٍ..
أفـلـسْـتُ :
بعـتُ الـسّـاعـةَ الـرّولـكس..
بعـتُ الـسـتـرةَ الـجـلـديـّـة َ..
القمصان َ..
بعـتُ حـقـيـبـتي..
سـأعـودُ ـ قـالَ الـسّــومَـريُّ ـ إلى الـحـقـيـقـة ِ:
لـنْ أكـون سـوايَ..
يـأبـى أنْ يـفـرَّ مـن الحـمـامـة ِ
ســيّـدُ الـشـجـر ِ الـنـخـيـلْ
فـرجـعـتُ صَـبّـاً سـومَـريّـا ً:
يـرتـدي وردا ً
ويـصـنـعُ لـلـتـي لـيـسَـتْ تُــسـمّـى:
مِـعْـضَـداً مـن فِـضّـة ِ الـكـلـمـات ِ..
ثـوبـاً مـن زهـور الـيـاسـمـيـن ِ..
حُـلـىً... ومِـسْــبـحـة ً.. وشـالا ً
مـن يـواقـيـتِ الـهَـديـلْ !
ورسـالـةً بـيـضـاءَ مـن عَـتَـبٍ
مُـبَـلـلـة ً
بـدَمعِ نـدامَـةِ الـقـلـبِ الـمـوَزّعِ
بـيـن مـفـتـاحِ الـغـدِ الـمـاضـي
وبـاب ِ الـمـسْـتـحـيـلْ:
أأنـا قـتـلـتُ بـسـيْـفِ وهْـمـي
الـسّـومـريَّ الــعـاشـقَ
الـمـسـكون َ بـامـرأةٍ
ومـشـحـوفٍ «يـطـرُّ الـهـورَ»
أمْ كـنـتُ الـقـتـيـلْ ؟
أيّـا ً أكـونُ :
فـإن ملهمتي الـتي لـيـســتْ تُـسـمّـى
لم تـكـنْ قـد أرسـلـتْ بالأمـس «صـوفـائـيـلَ»
فـانـزَلـقَ الـفـؤادُ عـن الـسّـبـيـلْ

* *
(29)

كـبّـرَتْ مـئـذنـةُ الـروح ِ..
فـأغـلـقْـتُ كـتـابـي
وتـوضّـأتُ بـعـطـر ٍ..
ثـمّ وجّـهْـتُ إلى الـلـه ِ فـؤادي..
وعـيـونـي لـلـتـي لـيْـسَـتْ تُـسـمّـى
خـاشِـعـاً..
سـجّـادتـي مَـحْـضُ تـرابٍ
ربّـمـا
كان أخي فـي الـجـوعِ والـعـشـقِ
ومِـثـلـي عـاش تـشـريـداً..
ومِـثـلـي ذاق ظـلـمـا..
أو أمـيـراً
عـاشَ كـلّ الـعـمـرِ تِـيْـهـاً..
ثـوبُـهُ يـكـنِـزُ يـاقـوتـاً وشـحْـمـا
عَـطـشـي يَـسـمـو عـلـى كأسـي..
وجـوعـي مـنْ رغـيـفِ الـلـذةِ الـسّـوداءِ
أسـمـى..
شـاكـراً حِـيـنـاً..
وحِـيـنـاً أسـألُ الـصّـفْـحَ
عـن الأمـسِ الـذي
عـاقـرتُ إثـمـا
بـهـوىً كـنـتُ بـه ِ:
الـقـاتـِـل َ..
والـمـقـتـولَ..
والـسّـجّـان َ..
والـمـسـجـون َ..
والخِـنـجَـرَ..
والـجُّـرْحَ الـمُـدَمّـى!
سَـجْـدَةٌ مـرّتْ..
وأخـرى..
وإذا بـيْ:
طـائِـرٌ أعـبـرُ صـحـراءً..
ويَـمّـا..
لـيْ جَـنـاحـانِ :
جـنـاحٌ يـلـمَـسُ الأرضَ
وثـان ٍ ريـشُـه ُ يَـعْـبـرُ غـيْـما..!!
لاح «صوفائيلُ» في الأفـق..
فــتـمْـتـمْــتُ خـفـيـضـا ً:
بـصَـري كـان سـلـيـما ً
غـيـرُ أنّ الـقـلـبَ أعْـمـى !

* *

(30)

خـلـعْـتُ أمـسـي
فـانـسـجـي لـيْ بُـردةً تـسْـتُـرُ يـومـي..
طـهّـريـنـي مـن ذنـوبِ الـمـطـر الأسـود ِ..
مـن خـطـيـئـةِ الـلـذاذةِ الـحـمـقـاءْ
أنـا هـو الــنـهــرُ الـذي جَـفَّ
وحـيـن جـئـتِـهِ فـاض نـدىً
فـقـامـتِ الـواحـاتُ فـي الـصـحـراءْ
وكـنـتُ يـاقـانـتـتـي قـبـلَ هـواكِ تـائـهـاً
أبـحـثُ فـي الأرضِ عـن الـنـجـم ِ
وفـي الـسـمـاءِ عـن ظِـبـاءْ
كـان سـريـري وطـنـاً
حـدودُهُ الـنـسـاءْ
مـئـذنـتـي غـادَرَهـا الأذان ُ..
فـالـوضـوءُ راحٌ..
والـتـراتـيـلُ الـتـي أحـفـظـهـا عـن ظـهـرِ لـهـو ٍ
كـانـتِ الـغـنـاءْ
وكـان من قـبـلِـكِ:
نـهـري
ويـنـابـيـعـي
قـبـورا ً
لـجـثـامـيـن الـنـدى والـمـاءْ
أبـرهـةُ الـضـلّـيـلُ كـان فـي دمـي
وحـيـنـمـا بـعـثـتِ «صـوفـائـيـلَ» لـيْ
صـار فـمـي مـئـذنـة ً
وفـي عـروقي دمُ أولـيـاءْ

كـفـرتُ بالـيـاقـوتِ والـفـضَّـةِ ..
كوخي جَـنـة ٌ أرضـيـة ٌ
يـجـري بـهـا نـهـران ِ يَـمـتـدّانِ
بـيـن الأرضِ والـسـمـاءْ
أبدأ كـلَّ لـيـلـةٍ عـلـى بُـراقِ نـخـلـةٍ
بـرحـلـةِ الإسْـراءْ
مـا لـيْ ولـلـحـسـانِ يـاقـانـتـتـي
وأنـتِ عـنـدي غـابـةٌ شــاسِـعـةٌ
مـن شـجَـرِ الـنـسـاءْ ؟

* *

(31)
عـاتـبـتـنـي مـرةً روحي:
لـمـاذا لم تـكـن تسـمـعُ
في كهـفِ لـيـالـيـكَ صـراخي
وأنـا يـلـسَـعُـني جـمـرُ عـذابـاتي
ولا مـن مُـنجـدِ
بـيـنمـا تـسـمـعُ -رُغـمَ الـرَّعدِ -
هـمْـسَ الـجَـسَــدِ؟
قـلـتُ: يـاروحي اعـذريـنـي
وأقِـيـلـي عـثـراتـي..
خـيْـمـة ً كـنـتُ
ولـكـنْ
مـن ضَـلالٍ وتَـدي
فـأنا
مـن قـبـل أن تـدخـلَ بـسـتـاني
الـتي لـيـسـتْ تُـسـمّـى
كـنـتُ أجـفـو
كـوثـرَ الأمـطـارِ
والـيـنـبـوعِ
والـنـهـرِ
وأسْــتـسْـقـي لأشـجـاري
جُـفـاءَ الـزَّبَـدِ
نـزَواتـي قـايَـضَــتْ بالـصّـخـرِ يـاقـوتـاً..
ودغـلا ً نـاتـئ الأشـواكِ
بـالـعُـشْـبِ الـنـدي
فـأنـا كـنـتُ عـدوِّي..
قـدمي تـمـشـي
ورأسي خـلـفـهـا يـمـشي ضريـراً..
والـقـناديـلُ كـفـيـفـاتٌ..
ولـمّـا أسَـرَتْ صـوفـيّـةُ الـنـهـديـنِ
يـومـي وغـدي
صـرتُ حُـرّاً..
قـتـلـتْ كـلَّ شـيـاطـيـنـي
فـأضـحـى
نـاسِـكـاً نُـسْـكَ نـبـيٍّ جـسـدي !

* *

(32)

كنت عـلى تـلّـة شـوقـي لـلـتي لـيـسـتْ تـسـمّـى
أرقـبُ الـمـشـهـدَ:
أطـفـالٌ يـطـيـرونَ..
ذئـابٌ تحـرسُ الظـبـاءَ..
نـسـرٌ يُـطـعـم الحـمـامـةَ الـمـهـيـضـةَ الـجـنـاح ِ..
عـشـاقٌ يُـلـوّحـون بالـزهـورِ..
والـشـرطةُ والجنودُ يـنـثـرون في الـشـارعِ مـاءَ الـوردِ..
والـنـسـوةُ والـرجـالُ يجمعـون في سِـلالِـهـم
فـاكهـة ً طـيّـبـة ً
مـن شـجَـرِ الأصـيـلْ
سـألـتُ نهـراً
مَـرّ قـربي عـابـرَ الـسّــبـيـلْ:
مـاذا أرى ؟
فـقـال لي: صـبـراً
سـيـأتـي راكـبـاً حـصـانـهُ الـضـوئـيَّ صـوفـائـيـلْ
....
......
سـألـتـه ُ ..
أجـاب: هـذي جـنـةُ الـذيـن يـأمـرون بـالـعـفـافِ والـصدقِ
ويـنهـون عـن الـرّيـاءِ والـطـيـشِ
الـتـي يـدخـلـهـا لـن يـعـرفَ الأحـزانَ
فـاخـلـعْ أمْـسـكَ الأثـيـمَ وادخـلْ آمِـنـاً..
دخـلـتُ..
فـالـقـطـافُ كـانَ الـتـيـنَ والـزيـتـون َ
والـمـيـاهُ ســلـســبـيـلْ
وقـال ليْ
حـذارِ أنْ تـقـربَ مـن تـفّـاحـةِ الـلـذاذةِ الـسـوداءِ
أو تـجـرحَ جـفـنَ وردةٍ
فـ «آدمٌ» مـا زالَ حـتى الـيـوم ِ
يـبـكـي نـدَمـا ًولـيـس مـن مُـقـيـلْ
قـلـتُ لـهُ:
مـولايَ قـد بُـلِّغْـتُ..
فـاشْــهَــدْ أنـنـي آمـنـتُ..
لا مـائِـدةٌ تُـنصَـبُ بـعـد الـيـومِ
إلآ حـيـن يـغـدو خـمرُهـا مـروءةً
وكـأسُـهـا الـتـرتـيـلْ
قـلْ لـلـتي لـيـسـتْ تـسـمّـى:
بـتُّ يـاصـوفـيّـةَ الـنـهـديـنِ غـيـري
فـأنـا مـنـذ تـهـيّـمْـتُـكِ
صـرتُ طـفـلـكِ الـجـمـيـلْ
كُـحْـلُ الـضِّـفـافِ الـعُـشْـبُ
والـنـخـيـلْ
والـرَّوضُ كُـحْـلُ وردِهِ الـعـبـيـرُ..
والـمِـئـذنـةِ الأذانُ..
والـحَـمـامـةِ الـهـديـلْ
واسْــمُـكِ يـاقـانِـتـتـي كُـحْـلُ فـمـي..
أنـطـقُـهُ فـتـنْـتـشـي حـنـجـرتـي
وتـسْـكـرُ الـحـقـولْ..
وكُـحْـلُ عـيـنـي؟
وجـهُــكِ الـمُـضـيءُ روحـي..
يُـشْـمِـسُ الـنـهـارَ إنْ أرْمَـدَتِ الـغـيـومُ شـمـسـي !
وإذا دجَـتْ لـيـالـي غـربـتـي
وحـاصَـرَ الـظـلامُ جـفـنـي
فـهـو الـمِـشـكـاة ُ..
والـقـنـديـلْ !
تـقـادَمَ الـعَـهْــدُ عـن الـفـراتِ
جَـرّبْـتُ الـيـنـابـيـعَ..
الـنـدى ..
الأنـهـارَ..
والأمـطـارَ..
والـرّاحَ..
فـمـا أطْـفـأ جَـمـرَ الـظـمـإِ الـوحْـشـيِّ
حـتـى أمـطَـرَتْـنـي عِـشـقَـهـا
قِـدّيـسـتـي الـقـانِـتـة ُ الـبـتـولْ

* *

(33)
فـي عـيـدِ مـيـلادِ الـحـدائـقِ
راودَتْـنـي وردةٌ عـن عِـطـرهـا..
بـيـضـاءَ كـانـتْ
مـثـلَ أحـلام ِ الـتـي لـيـســتْ تُـسـمّـى..
قـلـتُ فـي نـفـسـي: سـأقـطـفُـهـا..
مـددتُ يـدي
فـكَـرَّ عـلـيَّ سِـربٌ مـن فـراشـاتٍ
سـقـطـتُ مُـضَـرَّجـاً بـالـخـوفِ
مَـغـشِـيّـاً عـلـيّـا
هل كان يومَ الـحَـشْــرِ ؟
أمْ أنّ الـذي أبـصـرتُهُ
هـذيٌ ثـقـيـلُ الـهـذر ِ
مـن أثـر ِ الـحُـمَـيّـا ؟
أبصـرتُ أزهـارَ الـحـديـقـة ِ تـشـتـكي حَـمَـقـي
وحـيـن نـكـرْتُ
جـاء الـصـوتُ ـ يـشـهـدُ للـحـديـقـةِ ـ
مـن يـديّـا
فـخـجـلـتُ مـنـي
واسْـتـحْـتْ عـيـنـايَ مـن وجـهـي
وروحـي غـادرَتْ جـسـدي
فـصـحـتُ بـهـا: أغـيـثـينـي ..
فـقـالـتْ: لاتَ وقـتَ نـدامـةٍ
فـاخـلـدْ بـنـار الإثـم ِ
مـلـعـونـا ً شـقِـيّـا
فـسـقـطـتُ ثـانـيـة ً بـبـئـر الـخـوفِ
مـغـشـيّـاً عـلـيّـا
قُـمْ ـ صـاحَ صـوتٌ...
فـاسْـتـفـقـتُ..
وجـدتُ «صـوفـائـيـلَ» قـربـي..
قـال:
تُـهـديـكَ «الـتـي لــيــسَــتْ تُـسـمّـى»:
عِــشـقــهـا ..
وكـتـابَ عِـفّــتِـهـا..
فـخـذهُ بـقـوّة ٍ
واصْـدعْ بـنـورِ صَـبـاحِـهِ
الـلـيـلَ الـدّجـيّـا
وتـقـولُ : يـا يـحـيـى الـسـمـاويُّ الذي خَـبَـرَ:
الخـنـادقَ..
والحـدائـقَ..
والـعـذابـاتِ..
الـمـســرّات ِ..
الـذي مـضـغَ الـلـظـى والـصّـابَ..
والـعـذبَ الـشّـهـيّـا
إنـي قَـبَــلـتُـكَ تـائِـبـاً
فـاحـذرْ جـنـوحَـاً عـن صِـراطِ الـيـاسـمـيـن ِ..
كُـنِ الـحـديـقـةَ لـلـفـراشـةِ..
والـظـلـيـلـةَ لـلـحَـمـامَـة ِ..
لـلـضّـريـرِ الـدربَ والـعـكـازَ..
لـلـرّاعـي الـرّبـابـة َ..
لـلـغـزالِ الـخـائِـفِ الـظـمـآنِ رِيّـا..
وتـقـولُ:
يـا يـحـيـى الـسّـمـاويُّ
الـشـهـيـدُ الـحـيُّ
والـحـيُّ الـشـهـيـدُ
وخـاتـمُ الـعـشّـاقِ فـي عـصـرٍ
يـضـجُّ خـنـاً وغـيّـا
الـيـومَ قد أكـمـلـتُ سِــفْـرَكَ..
فـانـطـلِـقْ بـرسـالـةِ الـعـشـقِ الـمُـقـدَّسِ
كـنْ رسـولـي فـي الـهـوى
حـتـى يُـعـادَ الإعـتِـبـارُ
لـعَـقـلِ «قـيـسِ بـنِ الـمـلـوّحِ»
و«الـشـريـدِ الـسّـومـريِّ»
ويـسْـتـعـيـدَ عَـفـافـهُ:
الـوَجْــدُ..
الـتـهَــيُّمُ ..
يَـسْــتـحـيـلُ الـعِــشــقُ خـبـزاً لـلـقـلـوبِ
فـلا يـعـودُ الـحـزنُ سـيـمـاءَ الـمُـحَـيّـا
وتـقـولُ
يـا يـحـيـى الـسّـمـاويُّ
الـمُـضـرَّجُ بـالصَّـبـابـة ِ
كـنْ بـعِـزّة ِ سَــيِّـدِ الـشّـجَـر ِ الـنـخـيـل ِ:
يـمـوتُ مُـنـتــصِـبـاً..
ومـثـلَ الـوردِ:
لـو ذبـحـوهُ يـبـقـى عـطـرُهُ
يـذكـو شـذِيّـا
الـعِــشْـقُ بـابٌ لـلـخـلـودِ
فـإنَّ «قـيـسَ بـنَ الـمـلـوّحِ»
لـمْ يـزلْ لـلـيـوم ِ حَـيّـا !

* *
صدر للشاعر

عيناك دنيا
قصائد في زمن السبي والبكاء
قلبي على وطني
من أغاني المشّرد
جرح باتساع الوطن
الاختيار
رباعيات
عيناك لي وطن ومنفى
الأفق نافذتي
هذه خيمتي... فأين الوطن؟
أطبقت أجفاني عليك
زنابق برية
نقوش على جذع نخلة
قليلك لا كثيرهن
البكاء على كتف الوطن
مسبحة من خرز الكلمات
شاهدة قبر من رخام الكلمات
لماذا تأخرتِ دهراً؟
أدب الرسائل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى