السبت ٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم صلاح السروي

الفكر النقدى عند عبدالمنعم تليمة

مصدر الأدب

يتميز الدكتور عبد المنعم تليمة عن كثير من المثقفين والأكاديميين المصريين والعرب بولعه الواضح بالنظرية النقدية ، و بمحاولاته المتواصلة فى الحفر عند جذور المفاهيم وأصول الأفكار، باعتبار ذلك شرطا أوليا لاخصاب المعرفة النقدية وتأصيل الوعى وارهافه بمنطلقاتها وآلياتها وغاياتها . ولذا فانه يأخذ فى طرح درسه التأصيلي لتاريخ الفن الأدبى ، ومصادره، وأنواعه ومدارسه ، من حيث الممارسة الجمالية التطبيقية. وكذلك لتاريخ النظرية الجمالية - الفنية ، من حيث الرؤى الكلية ذات الوجه الفلسفى التنظيرى ، من ناحية أخرى . محاولا استخلاص قوانين نوعية محددة لتطور الفن الأدبى . مستغلا فى ذلك وعيه الحاد بالفكر الفلسفى العام ، وبالفكر النظرى النقدى – الأدبى ، بصفة خاصة ، فى ذات الآن .

وهو فى ذلك كله ينحاز بوضوح الى الفكر العلمى – المادى (بالمعنى المنهجى الفلسفى) ، فيصدر فى رؤاه التاريخية والنظرية عن فكر الفلسفة "المادية الجدلية" ، وتطبيقها البحثى (فى المجال التاريخى والاجتماعى والثقافى) المتمثل فى "المادية التاريخية" .

ولقد تميز طرح تليمة النظرى ، اجمالا ، بسيطرة واضحة لنهج نقدى يقوم على الجدال والمناقشة والتحليل والاختلاف مع من يرى ضرورة الاختلاف معهم من أساطين النظرية النقدية ، أيا كان موقعهم الفكرى ، فاختلف مع ارنست فيشر فى مواضع واتفق معه فى أخرى ، والأمر نفسه مع روجيه جارودى وجورج لوكاتش وغيرهما. مدليا برؤاه، طارحا طريقته فى التعليل والتحليل والاستنتاج .

ان انحيازه الحقيقى ، اذن ، لم يكن الا للعلم ومنهجه الموضوعى، وشمولية نظرته، ومتانة رؤيته، وتماسك نظريته، ونشدانه الدائم للحقيقة والصواب ، يقول : "ان أى تفسير لنشاط ما من وجوه النشاط الانسانى أصبح محكوما فى صحة نتائجه أو خطئها بمدى قربه من العلم أو بعده عنه." [1] . وهذا المنحى العلمى تحديدا هو الذى يقبع خلف محاولته طرح مفهوم علم "الجمال الأدبى" ، فى مواجهة تلك النظرات التأملية الجزئية الصورية ، التى تجعل الفن مقطوع الصلة بمصدره الموضوعى فى حركة التاريخ والمجتمع ، وتفسر قوانين حركته بأفكار تقبع خلفها ، فتفسر "الفكر بالفكر" ، وتجعل من النظرية النقدية ، ومن مفهوم الفن ، سديما مغلقا مضبب الملامح ، مختلط السمات، معلقا فى فضاء من التأملات، المفضية الى تأملات .

لقد قاوم تليمة تلك الفوضى الفكرية ملتحقا بتلك الكتيبة السابق ذكرها من أصحاب مدرسة الفكر العلمى ، محاولا تبويب نتاجات هذه المدرسة وتنظيم رؤاها وتأطير اجتهاداتها ، مجتهدا ومناقشا ومحللا ومنظرا
فما طبيعة الجهد النظرى الذى قدمه الدكتور تليمة ؟
ان الاجابة عن هذا السؤال هو ما تحاوله تلك الورقة ، عبر تقديم قراءة موضوعاتية لكتابيه الشهيرين : "مقدمة فى نظرية الأدب" 1973 ، و "مداخل الى علم الجمال الأدبى" 1978 .
حيث يمكن تلمس المحاور التالية فى مشروع تليمة النظرى:
مصادر الأدب
قوانين تطور الأدب .
طبيعة المعرفة الجمالية وقضاياها.
وسوف تقتصر تلك الورقة على المحور الأول (مصادر الأدب) على أن تستكمل العنصريين الآخرين لاحقا.


منذ اللحظة الأولى يحدد الدكتور تليمة وجهته عندما يأخذ فى مقدمة كتابه "مقدمة فى نظرية الأدب" فى التفريق بين المنهجين الرئيسيين اللذين ينقسم اليهما البحث النظرى فى تاريخ الفكر الانسانى : وهما المنهج المثالى ، والمنهج المادى (العلمى).

حيث يأخذ على المنهج المثالى (وهو الأقدم) أنه يعتمد نهجا صوريا ، يقوم على طرح علاقات وهمية بين الظواهر وبعضها البعض ، كما أنه قد يفرض قوانين ظاهرة معينة على ظاهرة أخرى مغايرة لها فى الطبيعة والتكوين . أو أن يعزل الظاهرة المعينة عن غيرها من الظواهر المشتركة معها فى عناصر وبواعث الحدوث . بحيث يأتى تفسيره فى كل ذلك اما خارجيا متعسفا ، أو داخليا مغلقا . ولذلك فان هذا النمط من التفكير لا يمكنه أن يفضى الى معرفة حقيقية بطبيعة الظاهرة ، ولا أن يصل الى تفسير صائب لمكوناتها وأسباب حدوثها .

وأظن أن الدكتور تليمة يقصد ب-"التفسير الخارجى المتعسف" ما قدمته الجهود التى اتخذت من الفلسفة الوضعية منطلقا لها ، عندما حاولت تطبيق مناهج العلوم الطبيعية على الظاهرة الأدبية ، فاذا بسانت بيف وهيبوليت تين وبرونتيير يقسمون الأدباء الى فصائل تشبه فصائل الحيوان التى توصل اليها تشارلز داروين فى نظريته عن التغير البيئى المفضى الى تغاير الأجناس [2] أما "التفسير الداخلى المغلق" فهو ذلك التفسير الذى يقطع العمل الأدبى عن أية عوامل تقبع خارجه ، فيقصر تحليله على دراسة النص من زاوية واحدة تمثل أحد عناصر انتاجه ، كأن يتعامل مع النص من زاوية الكاتب : حياته، وبيئته، ومكوناته النفسية .. الخ ، أو من زاوية نصية صرف وكأنه كون مغلق على ذاته قد أوجد نفسه وخلق مكوناته دون الحاجة الى سواه ، أو من زاوية المتلقى ، حيث يتم التركيز على التعدد الدلالى - التأويلى، دون التطرق الى
علاقة ذلك بالرؤية التى أنتجته وبالواقع الذى أنتج هذه الرؤية بدوره.
ان خطر هذه النظرة عند د. تليمة يتمثل فى أنها تجعل الأدب يبدو وكأنه .. "مسير بقوانين ذاتية" [3] قد خلقها لنفسه، أو خلقتها أفكار الفلاسفة والكتاب ، وبذلك نقع فى الهوة التى كثيرا ما يحذر منها أصحاب المنهج العلمى ، ألا وهى تلك المقولة السابق ايرادها : "تفسير الفكر بالفكر".
فى مقابل هذه الرؤى النظرية المثالية (على اختلافها) يطرح الدكتور تليمة الرؤية العلمية التى يتبناها على نحو من التفصيل والاستقصاء .

مصادر الأدب:

يرى تليمة أن أى محاولة لتتبع البدايات الأولى التى ينطلق منها تاريخ الأدب لا يمكنها الا أن تبدأ من المراحل الباكرة للوجود الانسانى على الأرض ، عندما كان النشاط الانسانى موجها الى تلبية مباشرة للحاجات والشروط الضرورية التى تتطلبها حياة الانسان . فكان العمل بمثابة نوع من الابداع ، من حيث أنه يمثل نوعا من الاكتشاف والمعالجة الابتكارية غير المسبوقة وغير المعروفة سلفا ، فلقد كان الانسان ينظر الى ما يقوم به – وان كان على نحو غامض – على أنه نوع من السيطرة على المادة .. "ونوع من الشعور المبهم بتحقيق الذات عن طريق أولى للخلق والابداع والتشكيل" [4] . وهو الأمر الذى يعنى أن "الجميل" قد خرج من "النافع" وتطور عنه . ومن هنا بدأت مراحل التحويل والصنع، وبخاصة عندما صار هذا العمل "انسانيا" ، أى يتم عبر أهداف واعية بالعلاقات والأطر العامة التى تحكم الموجودات والوقائع . فتحول ، بذلك ، التاريخ البشرى من كونه "تاريخا بيولوجيا" الى أن أصبح "تاريخا اجتماعيا" ، يتمظهر فى أشكال ثقافية متعددة ، يمثل الفن أحد أشكالها ، بما يحققه من متعة روحية وحسية .

والعمل كذلك هو المسئول عن تهذيب الحواس الانسانية ، كالسمع والبصر والشم ، التى أتاحت القدرة على التذوق والاستمزاج .. "فلقد صقل العمل حواس الانسان ، وانتقل بها – عبر ملايين السنين – من ضيق الحاجة العملية الخشنة الى ثراء الحالات الشعورية والاحساسات الانسانية . فاذا كان النشاط العملى للبشر مصدرا لثقافتهم وخبرتهم ، فانه فى ذات الوقت أساس لتطور حواسهم من صورتها الغريزية البدائية الى صورتها الانسانية الراقية". [5] وهو ما يعنى أن الملكات والطاقات البشرية لم تعد على حالها الأولى البسيط الذى وجدت عليه أول مرة ، بل أدت الممارسة البشرية للعمل الى تطوير هذه الملكات والقدرات ، سواء على مستوى الخبرات المعرفية و العقلية (المفاهيمية) والحسية (الذوقية والجمالية) ، أو على مستوى الامكانات الفسيولوجية للأعضاء البشرية .فلقد ولد الفن أثناء العمل ونتيجة له ،وكان بمثابة نوع من الفن ، وكذلك كان الفن مندرجا ضمن الممارسة العملية . ولم يستقل الفن عن العمل الا عندما صار العمل خاضعا للخبرات المتراكمة ويتبع الطرائق المدروسة والمتخصصة .

ان هذا التحديد لعلاقة الفن بالعمل يتفق والرؤية التى طرحها ارنست فيشر الذى يرى أن الفن .. "انما هو صيغة من صيغ العمل فى الدرجة الأولى ، وبهذا الاعتبار فحسب قد يتضمن شكلا من أشكال المعرفة " [6]. وهو ما يضفى على الفن صفة الممارسة العملية التجريبية قبل أن يكون مجرد محاكاة للواقع .. "ومن هنا ترجح أولوية الممارسة على الانعكاس" [7].

وهو ما يتناقض قليلا مع التصور الذى تبناه جورج لوكاتش الذى رأى أن الفن ليس سوى صيغة من صيغ "المعرفة" فهو .. "معرفة بالصور ، بينما تعد الفلسفة معرفة بالتصورات" [8]. وذلك من زاوية أن الفن أحد أشكال الوعى المنعكس عن الواقع الموضوعى ، والذى هو فى "حالة تطور دائب ومستمر" ، بما يؤدى الى أن يصبح موقف الفنان تجاهه هو محاولة "معرفة" النموذج الانسانى من خلال وجوده الماثل والكائن ، أى فى الزمان والمكان اللذين يشكلان معا الشرط التاريخى المسئول عن طرح الوضعية المحددة للواقع المتعين . والفن باعتباره احدى صيغ "المعرفة" ، عند لوكاتش ، فان كثيرا من معاييره القيمية – الجمالية تقترب كثيرا من معايير المعرفة ذاتها ، وأولها معيار الشمول ، أو تصوير الواقع فى كليته . [9]
وعلى الرغم من هذا الاختلاف فان العلاقة القوية بين التصورين ماثلة بقوة ، من حيث أن التصور القائم على أن الفن مصدره العمل ، انما يصل الى أنه بذلك يمثل حصيلة تراكم معرفى ، والمعرفة عند لوكاتش ليس لها مصدر آخر سوى العمل ، على أى حال .

ان هذا التصور لمصدر الفن يجعل من علاقة الفن بالواقع الاجتماعى – التاريخى أمرا جوهريا وضروريا فى تحليل طبيعة الفن ومحاولة استكناه جوهره ومكوناته وعوامل تطوره وتعدد مدارسه على مر التاريخ .
فلقد أفضى "التجريب" الذى يمكن أن تقوم عليه الممارسة العملية ، على مختلف أصعدة وأشكال النشاط الانسانى ، حسب كل الدراسات الانثروبولوجية ،أفضى الى ما يمكن تسميته ب"التجريد" ، ذلك الذى يقوم على استخلاص الرؤى الكلية و المفاهيم العامة . ان ملكة التجريد لتعد، بذلك، أمرا حتميا لظهور الثقافة والفكر بصفة عامة ، والأدب ، بضفة خاصة . وذلك من حيث ارتباطه بمادة استثنائية لا تنطبق عليها المواصفات المعروفة لباقى المواد القابلة للتشكيل والبناء الفنيين . تلك المادة هى "اللغة" ، وهى بطبيعتها "مادة" مجردة ، أى تقوم على المفاهيم والمعانى
التى تتم ترجمتها الى رموز صوتية منطوقة ومسموعة . من هنا يعد انتاج الأدب
ممثلا لمرحلة أكثر رقيا عن مراحل انتاج باقى الفنون الأخرى التى تقوم على مادة متعينة كالحجر أوالخشب أو غير ذلك .

ان الأهمية الخاصة التى يختص بها انتاج الأدب انما تتمثل فى كون مادة تشكيله تتمثل فى اللغة ، تلك المادة التى اخترعها الانسان فى بادىء الأمر لغايات نفعية
4

صرف ، تتمثل فى التواصل والتفاهم ، لكنها بفعل التجريب والتجريد تحولت الى أداة انتاج جمالى بامتياز ، وذلك عن طريق تطورها من مجرد القيام بمهمة تسمية الاشياء وتعريفها الى القدرة على انتاج المفاهيم والأفكار المجردة والرؤى الكلية القائمة على التعميم والتجريد .
وبالطبع ، فان ذلك لم يحدث بين عشية وضحاها بل استغرق من عمر الانسانية ملايين الأعوام حتى أمكن تحقيقه بصورة تدريجية .

ان ذلك الدور الاستثنائى انما نتج عن كون اللغة تختزن سياقا تاريخيا واجتماعيا يفوق أية أداة فنية أخرى ، ولذلك فهى الأقرب الى مواكبة تكون وتطور ونضج المجتمعات البشرية ، بل ان تاريخ اللغة نفسه هو تاريخ هذه المجتمعات على وجه التعيين . وبخاصة ، تاريخ التطور الذهنى والثقافى والفكرى لدى الانسان ، ذلك التاريخ المعتمد على تاريخ آخر ، ألا وهو تاريخ الخبرة المادية والتطور الاجتماعى للبشر. وهو ما يعنى أن العالم ليس لغة كما يذهب البنويون ، كما أنه ليس عقلا محضا كما يذهب غلا ة المثاليين ، انما هو .. "وجود موضوعى قائم خارج وعى البشر به وسابق على هذا الوعى . واللغة – أية لغة – انما تنقل وعى الجماعة – صاحبة هذه اللغة – بهذا العالم ومعرفتها به وخبرتها فيه " [10]. ومن هنا فلا يمكن تفسير أية ظاهرة لغوية أو منتجة بواسطة اللغة بمعزل عن هذا الوجود الموضوعى ومعرفة خصائصه التطورية المحددة . فالبعد الفنى للغة انما هو ثمرة الخبرة المعاشية والجمالية الخاصة بأصحاب هذه اللغة ، وهو "يعكس" على نحو خاص تطور علاقة هذه الجماعة بعالمها الطبيعى والاجتماعى .. "بما تتضمنه هذه العلاقة من عمل اجتماعى وتجربة روحية ومثل أخلاقى أعلى" [11] .

اذن ، فلقد تطور وعى الانسان بالعالم عبر عدد من المراحل ، لعل أبرزها المرحلة السحرية – الاسطورية ، التى قامت على أساس محاولة تعويض العجز الانسانى عن السيطرة على الطبيعة ، فهى تقوم على محاولة صوغ عالم أكثر اكتمالا وتطورا من عالمه الفعلى ، انها العالم فى طوره المثالى المبتغى . ولذلك فان الدكتور تليمة يرى هذه المرحلة السحرية الأسطورية بمثابة "خطة" عمل أمام الانسان و"هدفا" معلقا يبحث عن التحقق والمثول . فكانت أصلا لكل المعارف الانسانية اللاحقة ، مثل الدين والفلسفة والفن .. الخ [12]. وكان الفن أداة الانسان فى هذه المرحلة للوصول الى هذه "الأهداف" وتحقيق هذه "الخطة" ، من هنا ارتبط الفن فى مراحله الأولى بالسحر ، فكان "الفنان الساحر" ، كما يقول هاوزر ، أول مثال للتخصص وتقسيم العمل . [13] حيث أصبح الفن بمثابة موازاة رمزية لعمله وأمنياته .

ولقد اكتشف الانسان أن هذه الموازاة الرمزية توحد الجماعة وتدفعها للعمل وتخفف من ما قد يصيبها من تعب أو كلال . فضلا عن اعتقاده بأن الفن يمثل أداة سحرية للتأثير فى المادة ويعمل على تحقيق الأهداف المنشودة مثل اخضاع الحيوان أو قهر المرض أو انزال المطر أو اخصاب الأرض .. الخ ، سواء أكان ذلك فى مرحلة الجمع والالتقاط ، أم فى مرحلة الانتاج والاستئناس . فلا يزال "الجميل" مرتبطا ب "النافع" وان كان قد تميز عنه على نحو ما.

أما فى المجتمعات الطبقية القائمة على أساس الملكية الخاصة لأدوات الانتاج - التى تلت هذه المرحلة البدائية الأولى – فى هذه المجتمعات الطبقية التى شهدت انتاج الحضارة ، سواء فى طورها العبودى أو الاقطاعى أو الرأسمالى ، فقد تحول العمل من كونه "وظيفة انسانية" الى "سلعة" ، مما أدى الى "اغتراب" الانسان عن ناتج عمله ، فلم يعد يخصه ولا يرتبط بحصيلته غلى نحو مباشر كما كان فى المرحلة السابقة ، وبالتالى، اغترب الانسان عن نفسه وعالمه ، نظرا لتشويه معنى العمل وقيامه على أساس غايات غير انسانية من خلال خضوعها لقوانين الاستغلال والقهر.

بل ان النظام الرأسمالى ، باعتباره ممثلا للمرحلة العليا المتقدمة التى بلغتها المجتمعات الطبقية، قد حول العمل الانسانى – حسب الدكتور تليمة - من كونه ابداعا واعيا يهدف الى تحرير صاحبه من الحاجة والفاقة الى كونه سلعة تسيطر على خالقها ، وبعد أن كان الانسان سيدا بعمله أصبح عبدا لثمرة هذا العمل ، فقد أصبح يعمل من أجل تحقيق غايات غير غاياته ومصالح مناقضة لمصالحه ، وأصبح العمل لا يقوم على الاختيار بل يقوم على الاضطرار . [14]
واذا كان الفن فى المجتمع البدائى قد قام من أجل توكيد الطبيعة الانسانية للانسان ، فان هذا الانسان ، فى المجتمع الطبقى ، قد توسل بالفن ليكشف جذور اغترابه فى واقعه الاجتماعى القاهر ، وليطرح – كذلك – محاولته الوجودية لنفى هذا الاغتراب . ويتم هذا بالتوازى مع - وعلى الرغم من أن - الطبقات السائدة والمسيطرة تحاول على الدوام تحويل الفن الى أدوات لتكريس وتبرير أوضاعها بكل الوسائل ، ومنها الفن والثقافة .

ان الفن – اذن – يتميز فى هذه المرحلة الأحدث بطبيعته الطبقية على كلا المستويين السابق ذكرهما، من حيث أنه يعكس واقعا طبقيا، سواء بمحاولة نفى الاغتراب المتولد عنه ، أو بمحاولة تكريس وتبرير الطبيعة الظالمة وغير الانسانية لهذا الواقع ، و سواء أكان ذلك باستخدام طرائق ملموسة أو خفية .
لكن الفن يمتلك ، فى ذات الوقت، خصائصه الذاتية التى تجعله مستقلا على نحو نسبى (وبخاصة فى نماذجه الأصيلة) فى طرح سماته الجمالية وآلية تطوره الخاصة ، مما يؤدى الى أن يصبح ما يقوم به من عملية "انعكاس" لا يتم على نحو "مرآوى" فوتوجرافى ، بل على نحو يتجادل فيه "العام" – التاريخى الاجتماعى ، مع "الخاص" – الفردى الشخصى ، بما يطرح احتمالات لانهائية للتصوير الحدثى والشعرى والتشكيلى ، على حد سواء .

وهنا نصل الى أن المجتمع الحديث لا يمتلك ثقافة واحدة ، بل ثقافتين : الأولى هى تلك الرسمية التكريسية التبريرية ، والأخرى هى تلك الأصيلة الواقعية التى تعكس الأعماق الدفينة والحقيقية فى هذا المجتمع ، برؤاها المتعددة .

ويلمح الدكتور تليمة الى أن كل طبقة صاعدة تقوم فى بداية صعودها بدور تقدمى تعبر فيه عن غالبية المجتمع ، التى تشمل فيما تشمل الطبقات المقهورة . ولعل هذا ما
يفسر الشعارات الانسانية والديمقراطية التى رفعتها الثورة الفرنسية : "الحرية – الاخاء- المساواة" ، وتزيت بها البرجوزاية فى بداية هيمنتها على مقدرات البلدان
الأوربية . وظهور ما عرف ب "الرومانسية البيرونية" ، وهى الرومانسية البازغة فى مرحلتها الأولى المحتفية بالانسان والممجدة لقدراته ولجدارته بالحرية والحياة . ففى فترة الصعود هذه يتبدى المجتمع وكأنه متوجه نحو اعادة وحدته المفقودة وجسر المسافات الفاصلة بين مكوناته، وتتبدى الطبقة الصاعدة وكأنها معبرة عن جماعة متحدة .

وهنا تتقدم الثقافة بمختلف صورها وأشكالها لتعكس نوعا من المثل العليا والأخلاقيات التى تؤمن بها مجموعات شعبية وجماهير تتكون من طبقات تبدو منسجمة ومجتمعة على أهداف واحدة واضحة . ويبرز الفن هنا وفى هذه الظروف التاريخية باعتباره فنا واحدا موحدا ومعبرا عن هذا المجموع .

ولقد أكد التاريخ الأدبى هذا الأمر بجلاء لايقبل التأويل ، حسب تليمة ، فلقد أبدع الطور الأول المتقدم للنظام العبودى نموذج (البطل العملاق) (التايتان) مثل هرقل وأخيل وأوديسيوس ، وهو مايسميه هيجل بعصر عبادة البطولة و(عصر الطفولة البشرية)، وهو ذلك النموذج البطولى الذى أكد حضور الانسان وقوته فى مواجهة القوى الطبيعية وغيرها من القوى غير الانسانية ، كما جسد صلابة الانسان وانتصاره فى هذا الصراع ، وقد جعل من الالتزام بالمثل والقيم الأخلاقية سمة مائزة له ، حتى اذا اخترقها وتخلى عنها حلت عليه اللعنات ، كما جعل هذا النموذج الانسانى متميزا بالجمال والبهاء و"النضارة"الجسدية ، فهو النموذج المثالى الذى يبحث الانسان العادى عن تحقيقه وتجسيده .

كذلك فلقد أبدع أدب الطور الأول المتقدم للنظام الاقطاعى نموذج (البطل الأخلاقى) الذى جسد فى مظهره وسلوكه المثل الأخلاقى الأعلى للحضارة الدينية فى بواكيرها الأولى . فكانت الملحمة الدينية المتمثلة فى "الكوميديا الالهية" لدانته الليجيرى ، حيث يتم تصور مشهد البعث وموقف الأنماط الانسانية المشكلة لمجتمع ذلك الزمان منه.

كما أبدع الطور الأول المتقدم للنظام الرأسمالى نموذج (البطل الحر) الذى أكد قيمة الفرد وأعلى من شأن كرامته وحريته ، فكانت درامات شكسبير وراسين وكورناى وجوتة.

ويرى الدكتور تليمة أن هؤلاء الأبطال انما كانوا يمثلون (المثال العام ) ذا الطابع الانسانى فى مراحل (الصعود) الأولى فى تلك الأنظمة الاجتماعية – التاريخية . غير أنه سرعان ما تنهار هذه الوحدة السطحية ، من حيث أنها لاتبرز الا اجماعا مؤقتا حول مشروع التغيير ، بينما يبقى الانقسام الطبقى ماثلا فى عمق المشهد وممثلا لجوهره الصلب ، حيث سرعان ما تظهر التناقضات فى قلب النظام ، ويتراجع الدور التقدمى الذى تم التلويح به فى بدايات التحول وأطوار النشأة الأولى ، ومن ثم تبدأ مرحلة جديدة من التناحر التى لاتنقضى الا بثورة جديدة ... وهكذا .
وفى فترة التناحر، تلك ، تعكس الصور الثقافية علاقة الانسان بعالمه الطبيعى والاجتماعى من زاوية كل من الطبقتين المتناحرتين ، ويصبح الطابع الطبقى المنقسم للثقافة أكثر وضوحا ، بحيث يمكن أن نلحظ وجود ثقافتين على قدر من التمايز :
ثقافة الطبقة المسيطرة وثقافة الطبقة المقهورة . وكذلك وجود نوعين من الفن :
فن الطبقة المسيطرة ، وهو الفن السائد ، وفن الطبقة المقهورة [15].

ويعتبر الدكتور تليمة أن هذا هو الأساس الشامل والأكثر عمومية ، والذى لايتناقض معه كون الأشكال الثقافية ، ومن بينها الفن ، تتمتع بقدر من الاستقلال النسبى ، أى أنها تمتلك قوانين تطور ذاتية منطلقة من طبيعتها النوعية الخاصة . كما لايتناقض معه أن يتضمن كل شكل ثقافى – فنى لعناصر ذاتية ومبادرات جمالية وانسانية خلاقة . غير أن هذه النسبية والخصوصية والذاتية لاتتم الا فى اطار قوانين التطور الاجتماعي والتاريخي العامة .

ويدلل الدكتور تليمة على ذلك بالتأكيد على أنه اذا كان المجتمع الطبقى قد بلغ غاية تطوره ، وأن آخر مراحله يمثلها النظام الرأسمالى فى العصر الحديث ، فان الآداب والفنون الحديثة فى المجتمع الغربى الرأسمالى انما تطرح بجلاء هذه الخاصية الطبقية لتطور هذه الآداب ، حيث يمكن التمييز – على نحو تقريبى – بين مرحلتين تم فيهما انتقال فنى – أدبى واضح داخل فترة (الصعود) فى النظام الرأسمالى، وهى مرحلة باكرة سبقت فترة الاستواء والنضوج المعاصرة ،والتى سيلى الحديث عنها فيما بعد ذلك . وهاتان المرحلتان المميزتان لفترة الصعود يتم طرحهما فيما يلى :
 المرحلة الأولى تمثلها تلك الهزة الفاصلة بين انهيار النظام الاقطاعى ونشأة النظام الرأسمالى وازدهار الطبقة البرجوازية . وهى المرحلة التى تستغرق القرنين السادس عشر والسابع عشر وهما القرنان اللذان ظهر فيهما ما يسميه الدكتور تليمة ب(التصور اليوتوبى)، وأظنه يقصد المرحلة التى ظهرت فيها الكتب المبشرة بعالم خال من الظلم والقهر والاستغلال ، مثل "الفردوس المفقود" لميلتون و"يوتوبيا" لتوماس مور.
- أما المرحلة الثانية فهى المرحلة التى تم فيها نضج النظام الرأسمالى وتم استكمال هيمنة الطبقة البرجوازية على المجتمع وقيامها بالثورات الحاسمة فى أنحاء متعددة من أوربا ، وهى المرحلة الفاصلة بين تقدمية الطبقة البرجوازية وتحولها الى طبقة محافظة فيما بعد ، وتستغرق هذه الفترة القرن الثامن عشر والثلث الأول من القرن التاسع عشر . وهى الفترة التى يطلق عليها اسم : (زمن الفكر اليوتوبى: الاشتراكية اليوتوبية – الخيالية).

بما يعنى أننا بازاء مرحلتين : الأولى تصدرها (التصور اليوتوبى) ، والثانية كان عنوانها (الفكر اليوتوبى) . ومابين (التصور) و(الفكر) يقبع الطموح الانسانى فى الحرية والعدل الذى فجرته الحركة البرجوازية الصاعدة فى بواكيرها الأولى .

ويذهب الدكتور تليمة الى أن هاتين الحركتين (التصور والفكر) لم يتمكنا من كشف التناقضات الداخلية لدى المجتمع الرأسمالي والطبقة البرجوازية ، فقد كانا يمثلان اندفاعة متعجلة ناتجة عن قراءة سريعة لفحوى التحولات . غير أن من استطاع الوصول الى هذه الأعماق حقا - فى رأيه - هو الأدب ، فكان شكسبير رجل مرحلة التصور اليوتوبى بلا منازع .
 شكسبير
لقد كانت مرحلة معاناة .. "الولادة لعالم شجاع جديد ، وكانت آلام المخاض مبدعة ثرية ،اذ كانت تبشر بالوعود النضرة والآمال الواسعة والشوق الرفيع الى انسان حر" [16]. وكانت ملامح العالم الوليد ثلاثة :
 أولا : انسان يكسر حدة الولاء للفكر القديم غير العقلانى ويهدم جدار الرتابة والجمود .
 ثانيا : فهو قوة اجتماعية وليدة ذات نزوع ثورى تغييرى تتمتع بالقوة والنضارة والطموح . حيث كانت فى صراعها مع النظام الاقطاعى القديم تحقق مصالحها ومصالح الجماعة الشعبية المتحالفة معها فى آن .
 ثالثا : فهو تلك النظرة الرحبة الى العالم المتجهة الى القضاء على عزلة الامارات الاقطاعية المظلمة لتقيم الأوطان القومية الحديثة ، وترتاد المجهول لتكتشف حدود العالم وتضع خريطة الكوكب . انها ملامح العالم فى عصر النهضة الأوربية ، ملامح الحداثة وبدايات النظام الرأسمالى وصعود الطبقة البرجوازية فى بواكيره الأولى . لقد صيغت هذه الملامح صياغة فنية رفيعة فى أدب شكسبير ، فكان الملمح الأول المتمثل فى النظرة الى الانسان حاضرا على نحو بالغ النصوع فى تراجيدياته وكوميدياته على حد سواء. فالانسان عند شكسبير يتم طرحه على نحو يجعله ممثلا باقتدار للمثل الأعلى للانسان ، وهو متحرر من "الرؤية الكنسية للعالم" ، وهو منصرف عن الحياة الأخرى المنتمية الى أنماط التفكير الاقطاعية ، الى الحياة الواقعية الدنيوية . انه ذلك الانسان حر التفكير والارادة والوجدان ، كما أن سلوكه - فعله بشري ، وان جاء على نحو حار ، غير أنه ليس خارقا ولا متجاوزا لامكانات الفعل الانسانى المجرد . كما أنه تجتمع فيه عناصر الحيرة والدهشة والاكتشاف .

ويعلل الدكتور تليمة ذلك على كون هذا الانسان قد اكتشف فرديته فى مراحل تكونها الأولى .. يقول :
" والانسان الشكسبيرى (فى عالمه) يحتل موضع الجلال فى المجتمع ، ومركز الجمال فى الطبيعة . ان ذاته الفردة قد تأكدت فى هذا العصر ، بعد عصور طويلة طمست فيها ملامح الفرد . فالبطل الشكسبيرى مزهو بفرديته التى اكتشفها عصر النهضة ، وهى فردية غضة طامحة ثرية ، لم تتحول بعد الى (شىء) من الأشياء." [17] وهو يقصد بهذا "التشيؤ" ماحدث فى العصر الرأسمالى المتأخر الذى سيلى الحديث عنه .
وهذالبطل الشكسبيرى يطرح رؤية مفكرى وفنانى ذلك الزمان عن الانسان على نحو متعال مجرد ، حتى وان جاء أبطال شكسبير من النبلاء والأمراء والملوك . فقد قضى جوهريا على مايميز نبالتهم واختلافهم عن باقى البشر ، اللهم الا على المستوى الشكلى ، وجعلهم يمثلون الانسان فى فرديته التى لا تتناقض مع الجموع ، بل يدخلون الى أعماق وعيه ويسعون الى ترجمة – والتعبيرعن - نزعاته وأسئلته
الكبرى. انهم يدافعون عن الشرف الفردى كما يدافعون عن شرف الجماعة وشرف
الواجب بذات القدر. فلم تتحدد هموم هؤلاء الأبطال بالغايات الطبقية الخاصة ب-
والأعراف والتقاليد المائزة ل - الطبقة العليا ، بل طرحوا هموما بشرية عامة متجاوزة للوضعية الاجتماعية الخاصة. تلك الهموم الانسانية العامة التى يراها الدكتور تليمة ، تمثل واحدة من أسباب خلود وبقاء القوة الآسرة لهذه الأعمال على مر العصور ، انهاتلك الهموم البشرية التى يمكن أن يشترك فيها النبلاء وغيرهم من الناس باعتبارهم – ولأول مرة - بشر ضمن البشر الآخرين . كما تبرز النظرة الرحبة الى العالم فى ذلك الانفتاح الفكرى والمعرفى للعالم . ففى الوقت الذى يستلهم فيه شكسبير الحكايات الشعبية ويصدر عن الذوق الشعبى لبنى جلدته، فانه ينفتح، فى نفس الوقت، على تواريخ شعوب أخرى، مثل الدانمارك وايطاليا وأسبانيا وأفريقيا وغيرها .

هكذا تتمثل مرحلة التصور اليوتوبى فى أعمال شكسبير الخالدة ، ممجدة للمعنى الانسانى الشامل ومحتفية بالنزوع الانسانى تحو التطهر ومعانقة آلام البشر فى كل مكان.

 جوتة
أما مرحلة (الفكر اليوتوبى) فانها تتمثل فى أعمال جوتة (يوهان فولفجانج) الذى يأتى بعد شكسبير بحوالى قرنين من الزمان (النصف الثانى من القرن الثامن عشر والثلث الأول من القرن التاسع عشر)، ممثلا للانتقالة الثانية من فترات صعود البرجوازية ونضجها ، وهى تلك الانتقالة التى يعتبرها الدكتور تليمة "فاصلة بين تقدمية البرجوازية ومحافظتها" ، حيث تجلت فى هذه المرحلة التناقضات الكامنة داخل المجتمع البرجوازى .
هذه التناقضات التى تمثلت – من ناحية - فى توفير امكانات التحرر والتطور للفرد وتنمية مواهبه واحترام استقلاله الذاتى وتقدير مشاعره وأفكاره .. الخ . ومن ناحية أخرى ، خلق كوابح أمام هذه الامكانات بالتحديد تؤدى فى النهاية الى اغتراب الانسان وتشيؤه وتنمية احساسه بالضياع . وتتمثل تلك الكوابح فى عدد من العناصر ، منها ما يسميه جورج لوكاتش ب "التماثلية" أو التنميط (uniformalization) ، حيث يتم التعامل مع الأفراد بمنطق الكم وليس بمنطق الخصوصية الفردية ، بدءا من فرض الزى الموحد uniform ، من الناحية الشكلية، على العاملين بالعديد من المهن ، والتعامل مع الأفراد باعتبارهم أرقاما ، ومرورا بالأنظمة والقوانين التى توضع لتحقيق النظام العام ، بصرف النظر عن الاحتياجات النفسية والمعنوية للأفراد ، وانتهاء بالطابع التنافسى الشرس القائم على الاستغلال المادى والقمع واستنزاف الموارد ، الذى يميز الاجتماعية لهذه المرحلة. فضلا عن تحويل الفرد الى ترس فى آلة ضخمة تسمى "المصنع العملاق" الذى يهدف الى تحقيق "الانتاج الآلى الضخم" massproduction أو "المؤسسة الكبرى" التى لايحتل الفرد فيها الا حيزا
10
ضئيلا للغاية بما يؤدى به الى الشعور بضآلته وتفاهة دوره ، أو مجرد رقم فى كيان هائل الاتساع يسمى "المجتمع الكبير" [18]
ويرى د. تليمة أن الجانب الأدبى فى تراث جوتة (وقد كان متنوع الاهتمامات) يمثل شاهدا فريدا على هذه التناقضات الموارة داخل المجتمع الحديث ، وهو ما يجعله
يمثل انعكاسا قويا .. "للزلزلة التى أصابت العلاقات الاجتماعية والأبنية الثقافية فى فترة التحول من المثالية الى الواقعية ومن الطوباوية الى العلمية" [19] ، فهذا الجانب الأدبى فى تراث جوته – يساوى فى الفلسفة مثالية هيجل (1770 – 1821) ، وفى الفكر الاجتماعية طوباوية فورييه ، (وهما معاصران لجوته) ، من حيث كون
الاثنين يقفان على تخوم العلم بينما لايزالان مثاليين ، كما أنهما يقفان على تخوم الواقع المادى المعاش والملموس ، بينما لايزالان طوباويين . هكذا كان هيجل الذى وضع أسس المذهب الفلسفى المعروف بالديالكتيك ، ورغم مثاليته الشديدة المتمثلة فى أولية الروح (اللوغوص) على المادة ، الا أن عمله هذا أضحى الأساس الذى قامت عليه الفلسفة المادية الجدلية فيما بعد على أيدى كارل ماركس . كما كان شارل فورييه ، رغم طوباوية دعوته الاشتراكية وابتعادها عن امكانات التحقق فى الواقع ، وافتقادها لأية آليات واقعية – علمية ، يمكن أن تؤدى الى تحويلها الى وجود فعلى ملموس ، فقد كان عمله ملهما لكل أصحاب الرؤية الاشتراكية العلمية ، وزادا روحيا وعقليا بالغ القوة بالنسبة لهم .

لذلك فالانسان عند جوته ، حسب تليمة ، يهزم اغترابه عن طريق (التمرد) لا عن طريق (الثورة) والتمرد عنده رفض للانتحار وتشبث بتأكيد الوجود الانسانى .. "وان كان يفضى الى الطوباوية . فالانسان عند جوته يناضل وينتهى بالهزيمة ، ولكنه يهزم وهو يتشبث بطموح عظيم الى الانتصار " [20]. ولعل هذا مايبرز الدلالة الانسانية فى (فاوست) :ان فاوست ، حسب تليمة ، يواصل شوق بروميثيوس الى الانعتاق والخلاص ، ولكنه يضيف الى الشوق البروميثيوسى سعيا الى امتلاك (المعرفة الالهية) ليصير بها الها ، انه يتمرد على أسباب اغترابه المتمثل فى عجزه وقلة حيلته ومحدودية معرفته ، ويفتش عن كمال انسانيته المرتبط بكمال قدرته العلمية . لقد وضع جوته الانسان بين الله والشيطان ، يتنازعه الخير والشر فى معركة وجوده وكماله . وعلى الرغم من أن الانسان ليس نزاعا نحو الخير أو الشر بالفطرة ، بل يأتى هذا النزوع نتيجة لأسباب موضوعية وظروف اجتماعية ونفسية يمكن معرفتها ، فان جوته لا يتوقف أمام هذه القضية على نحومباشر ، بل يتجه الى التأكيد أكثر على الرغبة العارمة فى امتلاك المعرفة ، بما يمكن أن يؤكد "ألوهية الانسان"، حتى فى لحظات الضعف والانكسار. بما يفيد الرغبة فى "التمرد" على عقبات تقف عائقا أمام الطموح اليوتوبى فى تحقيق الكمال الانسانى .
وهنا نلاحظ ازدواج عنصرين رئيسيين يمكننا استخلاصهما من أفكار تليمة السابقة :
الأول هو الطموح اليوتوبى فى الكمال الانسانى ، وهو المعنى الأولى الذى أرسته
وبشرت به التحولات الهائلة التى حققتها البرجوازية فى مشوارها الصاعد المنتصر .

 أما الثانى: فهو العوائق التى وضعها النظام البرجوازى نفسه ، والتى تكبح جماح الرغبة الفردية فى الاكتمال وتحقيق ممكنات القدرة والتحقق . من حيث بزوغ قوى
الشر (الشيطان – مفيستوفليس) من أجل استغلال ذلك الطموح لصالحها ، مقابل منح تلك القدرة .
وهكذا يصل تليمة الى أن تراث كل من شكسبير وجوتة يطرح الشواهد الدالة على أن قوة التعبير الطبقى للأدب ، تتبدى فى عمق ودقة اكتشافه لطبيعة المرحلة ومكامن المعنى الوجودى للانسانية فى تحولاتها ومنعطفاتها التاريخية . فالنموذج الانسانى عندهما لم يتجاوز حدود وممكنات وضعه الطبقى ، ولكنه استطاع ، من خلال صدق التناول ونفاذه أن يكتشف الجوهر الانسانى والاجتماعى الغائر خلف ركام التفاصيل والعناصر .. أن يكشف عن "الدائم فى العارض" ، ليصل الى دلالة انسانية باقية ، مجسدا بذلك معنى "الأدب العظيم" .

المجتمعات الغربية الحديثة

يعتبر الدكتور تليمة أن المجتمعات الغربية الحديثة تعيش مرحلة (التناحر) منذ منتصف القرن التاسع عشر ، حيث تبدت التناقضات الحقيقية للنظام الرأسمالى ، بعد أن كانت بثت فى المرحلتين السابقتين الأحلام الكبار بالتحرر والانعتاق والاستقلال الفردى ، لقد كانت بمثابة الوعد والبشارة بتحقق الألق الانسانى الذى طال انتظاره عبر مسيرة البشرية الملأى بالمظالم والآلام ، ولقد حققت من ذلك الكثير دون شك ، ولكن هذا الدور كان محدودا بتحقق السيطرة الكاملة لهذه الطبقة واستقرار نظامها الرأسمالى وتطورها نحوالامبريالية ، ذلك التطورالذى يمثل مرحلتها العليا . أما الآن فقد انتهى ذلك الدور التقدمى للبرجوازية وبدأ الدور المحافظ الجامد الذى حول الحرية الى حرية لمن يملكون فقط ، بينما عادت العبودية فى أطرها القانونية والواقعية فى أشكال جديدة الى باقى أفراد المجتمع .
لقد حقق التقدم التكنولوجى الهائل الذى قادت اليه الرأسمالية نتائج ايجابية كان يمكن أن تسهم فى جعل الانسانية أكثر رفاها وسعادة ، الا انها حولت هذا التقدم الهائل الى وسيلة لتدمير الشخصية الانسانية وقهر الانسان واستغلاله فانتشرت فى هذه المجتمعات (الغنية) كل الأمراض الاجتماعية من جريمة وبطالة وانتحار وتفسخ أسرى بما ينسف من الأساس كل وعود الانبعاث الأول .

وبالمقابل فلقد حققت الفنون والآداب فى المجتمعات الغربية التى سيطرت عليها الرأسمالية منجزات كبيرة وطفرة واضحة فى مجال التجريب الفنى والأدبى تشابه الى حد كبير ماحققته فى مجال العلم والتكنولوجيا ، لكن النتائج التى ترتبت على الثورتين الصناعيتين (الأولى والثانية) من تطور تقنى، أدى - بدوره - الى اغتراب الانسان وتشيئه، هى نفسها التى قام لمواجهتها التطور الحادث فى مجالات الوعى والممارسة الجمالية . ومن ثم كان التجريب التقنى فى مجال الفنون والآداب مترجما
لمحاولات انسان هذه المجتمعات تحقيق نوع من الخصوصية الفردية والتحقق الذاتى اللذين يجرى طمسهما بواسطة هيمنة المؤسسات الاجتماعية والمجمعات الصناعية الكبرى .. الخ ، على الوجود الذاتى – الفردى للانسان ، مما أدى الى ماأسمى بالتماثلية المفضية الى الاغتراب والتشيؤ، على النحو الذى سبق ذكره .
ويبقى الفارق ، عند تليمة ، بين تجريب شكلى عقيم وتجريب آخر نافذ الى عمق الوجود وجوهر المعاناة الانسانية ، مرتبطا بمدى ارتباط الفنان بالوعى بحقيقة المأزق الأخلاقى والاجتماعى الذى أدخلنا التطور الرأسمالى فى نفقه المظلم .. "فالفنان المغترب قد يستسلم لظروف القهر التى تحول طاقته الابداعية الى سلعة وتحول حريته الى وهم ، فلا يقف ضدها ، ويجد ملجأه فى التجريب الشكلى العقيم" [21]. وقد يناضل هذا الفنان ضد هذه الظروف ويحاول حماية فنه بتحويله الى فن خالص ليس مرتهنا بحاجة (السوق) ، بل مرتهنا بالغاية الجمالية التشكيلية للفنان ، وذلك تحت شعار الفن الخالص أو "الفن للفن" . غير ان كلا الموقفين لم يصدر عن عن وعى فكرى يجرد الواقع ويعمم ظواهره ليصل الى القوانين الفاعلة فى حركته ، بل صدرا عن فكر انعزل عن هذا الواقع وفارقه ولم يأبه بمحاولة فهم قوانينه الموضوعية . فلقد استسلم هؤلاء الفنانون الى الموقف الفكرى - الجمالى للفلسفة البرجوازية ، الذى هو موقف مثالى بامتياز ، حيث "تنقطع فيه الموجودات فى الأذهان عن الموجودات فى الأعيان" ، واذا انقطع الفكر عن الواقع وعجز، بالتالى ، عن "تجريده وتعميمه"، فانه يصبح تأملا مثاليا ذاتيا ويقع فى التناقض والمفارقة لما هو ممثل للحقيقة وللوجود الموضوعى . ومن هنا فانه اذا كان "الفن للاستعمال" يمثل خضوعا لآليات السوق المعتمد على الانتاج السلعى- الاستهلاكى ، وكان "الفن للجمال" وقوفا فى وجه هذه الآليات ومعتصما بمفهوم "ألوهية الفنان" وحقه المطلق فى ممارسة حريته الفنية دون خضوع أو ابتزاز.

فيقوم، فى بعض الأحوال بانشاء عوالم مصطنعة يضفى عليها معانى الانسجام والعدالة والحرية، وفى بعضها الآخر ينشىء عوالم بائسة يائسة يرثى فيها ضياع الانسان وافتقاده لامكانية التناغم والسعادة، فان كلا الموقفين ينطلق من .. "مفهوم غير علمى للفن" ، حسب تليمة. حيث لم يستطع أى منهما الوصول الى ادراك (مضمون) الواقع المعيش فى المجتمع الرأسمالى القائم على الملكية الخاصة المتطورة لوسائل الانتاج ، ألا وهو الاستغلال والقهر الاجتماعى – الطبقى والعرقى (مأساة الفقراء والمشردين والسود والملونين فى الغرب عامة والولايات المتحدة الأمريكية خاصة)، المفضيان الى الاغتراب والاستلاب الانسانيين. ويقعان معا فى الوهم الفكرى المتمثل فى التعامل مع المأزق الانسانى باعتباره مسألة قدرية سرمدية لافكاك منها ، ومن ثم ، فلا مناص من الاستسلام لها . فاذا بهؤلاء الفنانين يدعمون واقع القهر والاستغلال ويعملون على تأبيده ، من حيث أرادوا ابراز نقمتهم واحتجاجهم وثورتهم عليه .

ان غياب هذا "المضمون" اذن هو ما يفضى بهؤلاء الفنانين الى تحويل طاقاتهم الى التجريب الشكلى الذى يرى تليمة أنه .. "فى معظم حالاته عقيم" [22] لآنه يعجز عن رؤية الكنه الانسانى فى اطار واقعه الاجتماعى – التاريخى، المحكوم بآليات وقوانين محددة، بل فى اطار مجرد من التصورات والرؤى المطلقة ، غير المحكومة بتعين موضوعى محدد . ومن هنا يعجز هذا الأدب عن صنع "نموذج انسانى" حقيقى قادر على الدلالة – فى فرديته وخصوصيته - على الكل والعام الانسانى . ويرى تليمة أنه لايستطيع أن يخلق هذا "النموذج" الا فنان يعى العوامل المشوهة للانسان و المفضية الى سجنه فى ذاته والمفتتة لكماله ونبالته ، انه فقط ذلك الفنان الذى .. "يعى قوانين القهر ويكشف طريق تجاوزها". [23] . ولاسبيل الى جعل التجارب الشكلية فى الفنون والآداب المعاصرة ناجعة وخصبة وذات جدوى الا من خلال نجاحها فى الربط بين حركة الفن وثورة الانسان فى مواجهة العوامل الحقيقية المفضية الى اغترابه .

هكذا يصل تليمة الى ربط الأدب (والفن بصفة عامة) بالواقع الاجتماعى ، محاولا تأكيد ذلك من خلال استعراض بانورامى يقوم على التحليل العلمى المحايث للظواهر الجمالية البارزة فى مختلف العصور ، والمناقشة العميقة للأفكار الجمالية المحورية ، التى حكمت الوعى الفنى للنسان عبر تاريخه الممتد منذ وجوده البدائى الأول ، حتى اللحظة الراهنة . فالتاريخ الفنى، عنده، لايمكن فهمه الا فى اطارعلاقته بتطور الخبرة الانسانية المحكومة بالتحولات الاجتماعية، فى مختلف العصور والأزمان. ومن ثم يصبح المصدر الحقيقى للأدب، كامنا فى تلك العلاقة الجدلية بين الوجود الاجتماعى والوعى الاجتماعى. وعلى ضوء هذه العلاقة تتحدد طبيعة الخبرة الجمالية، باعتبارها جزءا من الخبرة الفكرية والثقافية العامة للجماعة البشرية.


[1عبدالمنعم تليمة : مقدمة فى نظرية الأدب ، دار الثقافة للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1973 ، ص أ .

[2أنظر : شوقى ضيف ، البحث الأدبى ، القاهرة دار المعارف ، ط4 ،1979.

[3مقدمة فى نظرية الأدب ، مصدر سابق ، ص ب .

[4نفسه، ص8 .

[5نفسه ، ص9 .

[6ارنست فيشر ، ضرورة الفن ، ترجمة أسعد حليم ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1971، ص106 .

[7جورج لوكاتش ، اضافات الى تاريخ علم الجمال (بالمجرية) .

[8لمزيد من التفصيل ، انظر :
صلاح السروى ، مفهوم الواقعية عند لوكاتش ، مجلة أدب ونقد ، يونيو 1993 .

[9انظر : جورج لوكاتش ، دراسات فى الواقعية الأوربية ، ترجمة أمير اسكندر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1972 ، ص35 .

[10مقدمة فى نظرية الأدب ، السابق ، ص23 .

[11نفسه ، ص23 .

[12نفسه ، ص29 .

[13أرنولد هاوزر : الفن والمجتمع عبر التاريخ ، ج1 ، ترجمة فؤاد زكريا ، دار الكاتب العربى ، القاهرة 1969، ص23.

[14تليمة ، السابق ،ص56.

[15نفسه ، ص62- 63 .

[16نفسه ،ص 64 .

[17نفسه ص66 .

[18عن ظاهرة التشيؤ أنظر: جورج لوكاتش ، التاريخ والوعى الطبقى ، ترجمة حنا الشاعر ، دار الأندلس ، بيروت ، 1979 ، ص 79 – 132 .

[19تليمة ، السابق ،ص68 .

[20نفسه ، ص68 .

[21نفسه ،ص71 .

[22أنظر السابق ص. ص74-77 .

[23نفسه ،ص80 .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى