الأربعاء ١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٨
عمرو بن كلثوم: أَلاَ هُبِّي بِصَحْـنِكِ فَاصْبَحِيْـنَا
بقلم كريم مرزة الأسدي

القصة بمعلقتها وحياته، واستطرادات أخرى

الشعر لسان، واللسان عنوان لِما في النفوس من كتمان، سلاح ذو حدين، إمّا أنْ يرتفع به الشأن أو يزري بصاحبه للذل والهوان، وكم رأس حصيد هذا اللسان، إذا ما سلـّط الله عليه السلطان أو الأعوان عندما يخلع الإنسان من ضميره الوجدان، والشعر طبعٌ وصنعٌ، وإذا غلب الطبع قد تزل به قدم في وقت لا ينفع به الندم، وربّما يأتي ركيكاً فيُهمل، أو أحمقاً فيقتل، يرتفع على كتفه اسم، ويغيب من أفقه نجم، تعقد لأجله المناظرات والنقائض والمعارضات في مجالس الخلفاء والملوك، وتقام له الأسواق كعكاظ والمربد و ذي المجاز و مَجنَّة وهجر، يحضرها الفحول للاستماع إلى الناشئة الصاعدين، والتحكيم بين المتسابقين في دواوين شعبية، تحتضنها القبائل العربية،فكان للشعر دور لايشق له غبار، إلا من قبل الكبار، ومن هنا يجب علينا التأمل والتمعن وأنْ نرى لِما روى أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي البحتري (ت 284 هـ/ 897 م)عن وصية أستاذه أبي تمام حبيب بن أوس الطائي (ت 228 هـ / 843م) قائلاً:

"كُنتُ في حَداثَتي أرُومُ الشِّعْرَ، وكنتُ أَرْجِعُ فيهِ إلَى طَبْعٍ، ولَمْ أَكُنْ أَقِفُ علَى تَسْهيلِ مَأْخَذِهِ، ووجُوهِ اقْتِضابِه، حتى قصدتُّ أبا تَمَّامٍ، وانقطعتُ فيه إليه، واتَّكلْتُ في تَعريفِه عليه؛ فكانَ أوَّل ما قال لي:

يا أبا عُبادة؛ تخيَّر الأوقاتَ وأنت قليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ من الغُمومِ. واعْلَمْ أنَّ العادةَ جَرَتْ في الأوقاتِ أن يقصدَ الإنسانُ لتأليفِ شَيْءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَرِ؛ وذلكَ أنَّ النَّفْسَ قَدْ أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنَ الرَّاحةِ، وقِسْطَهَا مِنَ النَّوْمِ. وإنْ أردتَّ التَّشْبيبَ؛ فاجْعَلِ اللَّفْظَ رَشيقًا، والمعنَى رَقيقًا، وأَكْثِرْ فيه مِن بَيانِ الصَّبابةِ، وتوجُّعِ الكآبَةِ، وقَلَقِ الأَشْوَاقِ، ولَوْعَةِ الفِراقِ. فإذا أَخَذْتَ في مَديحِ سيِّدٍ ذي أيادٍ؛ فأشْهِرْ مَناقِبَهُ، وأظْهِرْ مناسِبَه، وأَبِنْ مَعالِمَهُ، وشرِّفْ مقامَهُ. ونَضِّدِ المعانيَ، واحْذَرِ المجهولَ مِنْها. وإيَّاكَ أن تَشينَ شِعْرَكَ بالألفاظِ الرَّدِيئةِ، ولْتَكُنْ كأنَّكَ خيَّاطٌ يقطعُ الثِّيابَ علَى مَقاديرِ الأجسادِ. وإذا عارَضَكَ الضَّجَرُ؛ فأَرِحْ نَفْسَكَ، ولا تعملْ شِعْرَكَ إلاَّ وأنتَ فارغُ القَلْبِ، واجْعَلْ شَهْوَتَكَ لقولِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلَى حُسْنِ نَظْمِهِ؛ فإنَّ الشَّهْوَةَ نِعْمَ المُعِينُ. وجُمْلَةُ الحالِ أَن تعتبرَ شِعْرَكَ بِما سَلَفَ مِن شِعْرِ الماضينَ، فما اسْتَحْسَنَ العُلَماءُ فاقْصِدْهُ، وما تَرَكُوهُ فاجْتَنِبْهُ؛ ترشد إن شاءَ اللهُ. قالَ: فأعملتُ نَفْسي فيما قالَ؛ فوقفتُ علَى السياسةِ.". (1)

مما نستشفّ ُ من الوصية الطائية اللؤلؤية أنّ البحتري من المطبوعين يعتمد على موهبته الخالصة في نظم الشعر ابتداءً، وأستاذه أبو تمّام يميل إلى الصنعة والتأمل والزخرفة وتحكيم العقل تجربة ً، فأوصاه بها لكي لا ينحدر الشاعر للهاوية دون قيدٍ يقيه، أو سدٍّ يحميه،وأقرّ الموصى له بعمله بها حتى وقف على السياسة،والسياسة تقتضي اختيار الوقت المناسب للإبداع بحيث يكون الشاعر متهيّئاً نفسياً وفكرياً وخلقياً لصبِّ خوالج وجدانه العاطفية، وخالياً من انفعالاته النفسية الشخصية، إذ هو"قليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ من الغُموم"، وبالتالي لا تطغي سوداويته على الوجه الأبيض المنير للشعر السليم، ثم يتطرق الأستاذ الشاعر الناقد إلى ضوابط غرضين من الأغراض الشعرية، وهما الغزل والمدح، وتغاضى أبو تمام عن الهجاء والرثاء، ففي الهجاء منافرة لا مقاربة، والرثاء فراق لا يأمل اللقاء، والشاعر يكون أقرب إلى الصدق فيهما من الكذب، والشعر يغني كذبُهُ عن صدقه، كما يقول البحتري نفسه!! ويقول: عبدان بن عصمان العاطفي السلـّمي في هذا المعنى:

وقالوا في الهجاء عليك إثم
وليس الإثم إلا في المديح
لأني إن مدحت مدحت زوراً
وأهجو حين أهجو بالصحيح (2)

أمّا الفخر فالبحتري قليل الفخر، وهذا أمر يخصّه شخصياً - ربّما لأنه جليس المتوكل، وما أراد أن يؤلب على نفسه، أحقاد الخلفاء ومن حولهم، وهذا عقل وحكمة - و إنْ كان الرجل يزهو بنفسه مترنحاً متمايلاً عند الإلقاء، وقد عكفنا عن التشبيب الذي يتضمن الثناء والرقة واللوعة والإغراء، فهو ليس من موضوعنا عن هؤلاء أمام هؤلاء، يبقى لدينا المدح للسادة النجباء، والزعماء والخلفاء، فالرجل يترك للرجل اختيار الألفاظ، فلكلّ مقام مقال، ولكلِّ جسدٍ مقدار، ولكن لابدّ من إشهار المناقب والفضائل والمعالم بإنتقاء الألفاظ الحسنة، وتنضيد المعاني الخيرة دون غلو ٍمحرج، ولا لبس ٍمزعج باجتناب تأويل المعنى المجهول الذي تمتطيه الظنون لتقلب المدح ذمّاً، والخير شرّاً، ومن أراد أنْ يستأنس برأيٍ آخر في توجهاته عن الوصية عليك بمقالة الدكتور عبد الكريم محمد حسين (3).

ومن هنا نفهم تمام الفهم أن جذور تبعية الثقافة للسياسة، والقلم للسيف في بلاد العرب منذ العصر الجاهلي حتى يومنا الحالي، فلا عجب أن نرى أبا تمام ينصب السيف على صدر مطلع قصيدته الرائعة إبان فتح عمورية المعتصم...!!، رغم تفهمي للبيت الذي ورد في المكان المناسب، والزمان الملائم، ولكن يبقى السيف سيفاً، وتبقى الكتب كتباً...!!:

الـسَيفُ أَصـدَقُ أَنـباءً مِنَ الكُتُبِ ***
فـي حَـدِّهِ الـحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

ومثله ذهب المتنبي في رفع شأن مجد السيف الخامد على حساب مجد القلم الخالد:

حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي
المجد للسيفِ ليس المجدُ للقلم ِ

ولا أخالك تحسب إن السيف في كلا البيتين موجهاً للداخل، كما هو الحال في أيامنا البائسة، وإنما للدفاع عن الأوطان.

المهم فكرة الخوف من سلطة السيف والتهيب منه مختمرة في عقول سلاطين القلم...!! وإنّ أبا تمّام بقى تابعا لسيف معتصمه، بل أوصى تلميذه الانتهازي المسكين البحتري - وما هو بمسكين...!!- أن يسلك الدرب نفسه، وليترك معاصره البائس ابن الرومي إلى جهنم وبئس المصير...!!

لذلك لا تتعجب من البحتري أن يجيب ابن الرومي بهذين البيتين القاسييَن مع تخت من المؤونة وكيس من الدراهم احتقاراً له حين هجاه الأخير:

شاعر لا أهابهُ
نبحتني كلابهُ
إنَّ مَنْ لا أحبّهُ
لعزيز ٌ جوابهُ...!!

والمتنبي ظلَّ تابعاً في مسيرته لسيوف سيف دولته وكافور أخشيده وعضد دولته...

هذا كلـّه، ويجب أنْ نستثني من تاريخ العرب - على الأغلب - عصر صدر الإسلام منذ بداية البعثة النبوية الشريفة حتى مقتل الإمام (40 هـ)، وعهد الخليفة عمر بن عبد العزيز (99 هـ - 101 هـ) لعدله، وعهد المأمون (198 هـ 218 هـ) لحنكته وحكمته، وما علينا إلا أن نفصل بعدة حلقاتٍ بحثنا الموسوم عن هؤلاء بين أيدي هؤلاء بالأعتماد على ما رواه ودوّنه القدماء.

1 - الشاعرعمرو بن كلثوم التغلبي يثأر بوجه ملك الحيرة عمرو بن هند حتى القتل عقبى إذلاله...!!:

نشرع بقصة مقتل ملك العرب في الحيرة عمرو بن هند (ت 576 م) علي يد عمرو بن كلثوم (ت حوالي 600م)، كما يرويها أبو عبيدة معمر بن المثني التيمي المتوفي سنة (209 هـ / 824 م) في (كتاب أيام العرب قبل الاسلام) قائلا - بتصرف -:

ذكروا أن عمرو بن هند، وأمه هند بنت الحارث بن حجر بن آكل المرار الكندي وأبوه المنذر بن ماء السماء اللخمي، قال: ذات يوم لجلسائه هل تعلمون أن أحدا من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي، فقالوا: لا ما خلا عمرو بن كلثوم فإن امه ليلى بنت المهلهل أخي كليب، وعمها كليب، وهو وائل بن ربيعه ملك العرب وزوجها كلثوم، فسكت عمرو على ما في نفسه، ثم بعث عمرو بن هند الى عمرو بن كلثوم يستزيره، وأن تزور ليلى هنداً، فقدم عمرو في فرسان تغلب، ومعه أمه ليلى، فنزل شاطيء الفرات، وبلغ عمرو بن هند قدومه،فأمر بخيمه فضربت بين الحيره والفرات،وأرسل إلى وجوه مملكته فصنع لهم طعاما. ثم دعا الناس إليه،فقرب إليهم الطعام على باب السرادق، وبقى هو وعمرو بن كلثوم وخواص من الناس في السرادق،ووضع لأمه هند على جانب السرادق قبة جلست فيها،ومعها أم عمرو بن كلثوم،وأسرّ الملك أمه قائلاً: إذا فرغ الناس من الطعام فلم يبق الا الطُرَف،فنحّي خدمك عنك،فإذا دعوت بالطرف،فاستخدمي ليلى آمرة ًلتناولك الشيء بعد الشيء،يريد طرف الفواكه وغير ذلك من الطعام،ففعلت هند ما أمرها ابنها حتى إذا دعا بالطرف قالت هند لليلى: ناوليني ذلك الطبق،قالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها،فقالت: ناوليني وألحت عليها،فقالت ليلى واذلاه.... يا لتغلب،فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم،فثار الدم في وجهه والقوم يشربون، ونظر إلى سيف عمرو بن هند،وهو معلق بالسُّرادق،ولم يكن بالسرادق سيف غيره،فثار الى السيف مصلتا فضرب به رأس عمرو بن هند فقتله،ثم خرج فنادى: يا لتغلب فانتهبوا ماله وخيله،وسبوا النساء ولحقوا بالجزيرة.

وقد كان المهلهل بن ربيعة وكلثوم بن عتاب ابو عمرو بن كلثوم أجتمعوا في بيت كلثوم على شراب، وعمرو يومئذ غلام،وليلى أم عمرو تسقيهم،فبدأت بأبيها مهلهل ثم سقت زوجها كلثوم بن عتاب،ثم ردت الكأس على أبيها وابنها عمرو عن يمينها،فغضب عمرو من صنيعها وقالها من بعد:

صَبَنْتِ الكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْـرٍو
وَكَانَ الكَأْسُ مَجْرَاهَا اليَمِيْنَا
وَمَـا شَـرُّ الثَّلاَثَـةِ أُمَّ عَمْـرٍو
بِصَاحِبِـكِ الـذِي لاَ تَصْبَحِيْنَـا

فلطمه أبوه،وقال: يا لكع (اي يا احمق)،بلى والله شر الثلاثة. أتجتري أن تتكلم بهذا الكلام بين يديّ،فلما قتل عمرو بن هند: قالت له أمه:"بأبي أنت وأمي،أنت والله خيرُالثلاثة اليوم"،وذكر الشاعر الحادثة في النصف الأخير من معلقته الذي نظمه من بعدها،أما النصف الأول منها،فنظمه يوم الاحتكام،ويتضمن الافتخار بقبيلته،والتماهي حماسة أمام الملك والبكريين،وشاعرهم الحارث بن حلزة اليشكري،ونحن علينا بالمطلع،وهجومه الضاري على عمرو بن هند والتشفي منه بعد مقتله... إليك:

أَلاَ هُـبِّـي بِصَحْـنِـكِ فَاصْبَحِيْـنَـا
وَلاَ تُـبْـقِي خُـمُـوْرَ الأَنْدَرِيْـنَا
فَـأَمَّـا يَــوْمَ خَشْيَـتِـنَـا عَلَـيْـهِـمْ
فَتُصْـبِحُ خَيْلُـنَا عُـصَـباً ثُبِـيْـنَا
وَأَمَّـا يَــوْمَ لاَ نَخْـشَـى عَلَيْـهِـمْ
فَـنُـمْـعِــنُ غَـــارَةً مُتَلَـبِّـبِـيْـنَـا
بِرَأْسٍ مِنْ بَنِي جُشْـمٍ بِـنْ بَكْـرٍ
نَــدُقُّ بِهِ السُّهُـوْلَـةَ وَالحُـزُوْنَـا
أَلاَ لاَ يَـعْــلَــمُ الأَقْـــــوَامُ أَنَّـــــا
وتَضَعْضَـعْـنَـا وَأَنَّا قَـدْ وَنِـيْـنَـا
أَلاَ لاَ يَـجْـهَـلَـنَّ أَحَــــدٌ عَـلَـيْـنَــا
فَنَجْهَـلَ فَـوْقَ جَهْـلِ الجَاهِلِيْنَا
بِـاَيِّ مَشِيْئَـةٍ عَمْـرُو بْــنَ هِـنْـدٍ
نَـكُـوْنُ لِقَيْلِـكُـمْ فِيْـهَـا قَطِـيْـنَـا
بِـأَيِّ مَشِيْئَـةٍ عَمْـرَو بْــنَ هِـنْـدٍ
تُطِـيْعُ بِـنَا الـوُشَاةَ وَتَـزْدَرِيْـنَـا
تَـهَــدَّدُنَــا وَتُـوْعِــدُنَــا رُوَيْــــــداً
مَـتَـى كُـنَّـا لأُمِّـــكَ مَقْتَـوِيْـنَـا
فَــإِنَّ قَنَاتَـنَـا يَــا عَـمْـرُو أَعْـيَـتْ
عَلى الأَعْـدَاءِ قَبَـلَكَ أَنْ تَلِيْـنَا
وَرِثْنَـا مَجْـدَ عَلْقَمَـةَ بِـنْ سَيْـفٍ
أَبَاحَ لَنَا حُـصُـوْنَ المَجْـدِ دِيْـنَا
وَرَثْــتُ مُهَلْـهِـلاً وَالـخَـيْـرَ مِـنْهُ
زُهَـيْـراً نِـعْمَ ذُخْـ رُ الذَّاخِـرِيْـنَا
وَعَـتَّـابــاً وَكُـلْـثُـوْمــاً جَـمِـيْـعــاً
بِـهِـمْ نِـلْـنَا تُـــرَاثَ الأَكْرَمِـيْـنَـا
وَنَـحْـنُ الحَـاكِـمُـوْنَ إِذَا أُطِـعْـنَـا
وَنَـحْـنُ الـعَازِمُوْنَ إِذَا عُصِـيْـنَا
وَنَحْـنُ التَّارِكُـوْنَ لِـمَـا سَخِطْـنَـا
وَنَـحْـنُ الآخِـذُوْنَ لِـمَا رَضِـيْـنَا
كَــأَنَّ غُضُوْنَـهُـنَّ مُـتُـوْنُ غُـــدْرٍ
تُصَفِّـقُـهَا الـرِّيَـاحُ إِذَا جَـرَيْـنَا
كَـأَنَّــا وَالـسُّـيُــوْفُ مُـسَـلَّــلاَتٌ
وَلَـدْنَـا الـنَّـاسَ طُـرّاً أَجْمَعِـيْـنَـا
وَقَـدْ عَلِـمَ القَبَـائِـلُ مِــنْ مَـعَـدٍّ
إِذَا قُــبَــبٌ بِـأَبـطَـحِـهَـا بُـنِـيْـنَــا
بِـأَنَّــا المُـطْـعِـمُـوْنَ إِذَا قَــدَرْنَــا
وَأَنَّـا المُـهْـلِـكُـوْنَ إِذَا ابْتُـلِـيْـنَا
وَأَنَّـــا المَـانِـعُـوْنَ لِـمَــا أَرَدْنَــــا
وَأَنَّا النَّـازِلُـوْنَ بِـحَـيْـثُ شِـيْـنَا
إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً
أَبَـيْـنَـا أَنْ نُــقِــرَّ الــــذُّلَّ فِـيْـنَــا
مَلأْنَـا الـبَـرَّ حَـتَّـى ضَــاقَ عَـنَّـا
وَظَـهـرَ البَـحْـرِ نَمْـلَـؤُهُ سَفِـيْـنَـا
إِذَا بَـلَـغَ الـفِـطَـامَ لَـنَــا صَـبِــيٌّ
تَـخِـرُّ لَـــهُ الجَـبَـابِـرُ سَاجِـديْـنَـا (4)

وعن هذه الحادثة قال الفرزدق لجرير:

ما ضر تغلب وائل ٍ أهجوتها
أم بلت حيث تناطح البحرانِ ِ
قوم هم قتلوا ابن هندٍ عنوةً
عمراً وهم قسطوا على النعمانِ ِ

وقال أفنون التغلبي مذكـّراً بدعوة عمرو بن هند غير الموفقة لدعوة أم ابن كلثوم لخدمة أمه:

لعمرك ما عمرو بن هند إذا دعا
ليخدم أمى أمه بموفق ِ

ويقال إن أخ الشاعر القاتل واسمه مرة بن كلثوم هو أيضاً قد قتل المنذر بن النعمان بن المنذر من قبل،وفي ذلك يقول الأخطل التغلبي مفتخراً!:

أبنى كليب إن عمى اللذا
قتلا الملوك وفككا الأغلالا

يعني بعميه عمراً ومرة ابني كلثوم،ولشغف تغلب بقصيدة ابن كلثومهم،وكثرة روايتهم لها قال بعض الشعراء متهكماً:

ألهى بنى تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم
يا للـــرجال لفخر غير مسؤوم (5)

2 - النعمان والطائي وقراد وألف ليلة وليلة!!

ينقل عبد القادر البغدادي في (خزانة أدبه) عن القالي قوله في (ذيل أماليه) بسند: كان المنذر بن ماء السماء جد النعمان بن المنذر،ينادمه رجلان من العرب: خالد بن المضلل،وعمرو بن مسعود الأسديان،فشرب ليلة معهما فراجعاه الكلام فأغضباه،فأمر بهما وجعلا في تابوتين ودفنا بظاهر الكوفة،فلما أصبح سأل عنهما فأخبر بذلك،فندم وركب حتى وقف عليهما،وأمر ببناء الغريين،وجعل لنفسه يومين: يوم بؤس،ويوم نعيم، في كل عام، فكان يضع سريره بينهما،فإذا كان يوم نعيمه،فأول من يطلع عليه وهو على سريره يعطيه مائة من إبل الملوك،وأول من يطلع عليه في بؤسه يعطيه رأس ظريان،ويأمر بدمه فيذبح،ويغرى بدمه الغريان.

وقد رجع المنذر عن هذه السنـًة السيئة،روى الموصلي في أوائله أن المنذر استمر على ذلك زماناً حتى مر به رجل من طيئ،يقال له: حنظلة بن عفراء،فقال له: أبيت اللعن،أتيتك زائراً،ولأهلي من خيرك مائراً،فلاتكن ميرتهم قتلي،فقال: لا بد من ذلك،وسلني حاجة قبله أقضها لك، قال: تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلى وأحكم أمرهم، ثم أرجع إليك في حكمك،قال: ومن يتكفل بك حتى تعود؟ فنظر في وجوه جلسائه،فعرف منهم شريك بن عمروٍ، أبا الحوفزان بن شريك،فأنشأ يقول (مجزوء الرمل):

يا شريكاً يا ابن عمرو
هل من الموت محاله
يا أخا كـــل مصـــابٍ
يا اخا مــن لا أخا له
يا أخا شيبان فك الــــ
يوم رهناً قـــد أتى له
إنً شـــــيبان قبيــــــلٌ
أكــرم الله رجـــــاله
وفتاك اليوم في المجـــ
دِ وفي حسن المقاله

فوثب شريك،وقال: ابيت اللعن،يده يدي،ودمه دمي إن لم يعد إلى أجله،فأطلقه المنذر،فلما كان القبل جلس في مجلسه،وإذا ركب قد طلع عليهم،فتأملوه فإذا هو حنظلة قد أقبل متكفناً متحنطاً، معه نادبته،وقد قدمت نادبة شريك تندبه، فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما،فأطلقهما وأبطل تلك السنةوقد ذكر في إبطال المنذر هذه السنة غير هذا؟ وأورده الموصلي والميداني في مثلٍ،وهو:

إن غداً لناظره قريبُ

وهو قطعة من بيت (الوافر):

وإن يك صدر هذا اليوم ولى
فإن غداً لناظره قريبُ (6)

ويذكرالميداني في (مجمع أمثاله) مقدمة تراجيدية للرواية أشبه بقصص ألف ليلة وليلة،تتلخص أنّ أول من قال البيت قراد بن أجدع،وذلك أن النعمان بن المنذر خرج يتصيد على فرسه اليحموم،فأجراه على أثر عير فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر عليه وانفرد عن أصحابه وأخذته السماء فطلب ملجأ يلجأ إليه،فدفع إلى بناء فإذا فيه رجل من طيء يقال له حنظلة ومعه امرأة له فقال لهما: هل من مأوى،فقال حنظلة: نعم،فخرج إليه فأنزله ولم يكن للطائي غير شاة،وهو لا يعرف النعمان،فقال لامرأته: أرى رجلاً ذا هيئة وما أخلقه أن يكون شريفاً خطيراً. فما الحيلة، قالت: عندي شيء من طحين كنت أدخرته،فاذبح الشاة لأتخذ من الطحين ملة. قال: فأخرجت المرأة الدقيق فخبزت منه ملة،وقام الطائي إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها فاتخذ من لحمها مرقة مضيرة،وأطعمه من لحمها،وسقاه من لبنها،واحتال له شراباً فسقاه وجعل يحدثه بقية ليلته،فلما أصبح النعمان لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طيئ أطلب ثوابك، أنا الملك النعمان،قال: أفعل أن شاء الله،ثم لحق الخيل فمضى نحو الحيرة،ومكث الطائي بعد ذلك زماناً حتى أصابته نكبة وجهد وساءت حاله،فقالت له امرأته: لو أتيت الملك لأحسن إليك،فأقبل حتى انتهى إلى الحيرة فوافق يوم بؤس النعمان،فإذا هو واقف في خليه بيده السلاح،فلما نظر إليه النعمان عرفه وساءه مكانه،فوقف الطائي المنزول به. فبادره النعمان قائلاً: أفلا جئت في غير هذا اليوم؟ قال: أبيت اللعن،وما كان علمي بهذا اليوم؟! قال: والله لو سخ لي في هذا اليوم قابوس أبني لم أجد بداً من قتله،فاطلب حاجتك من الدنيا وسل ما بدا لك فإنك مقتول،قال: أبيت اللعن،وما أصنع بالدنيا بعد نفسي! قال النعمان: إنه لا سبيل إليها،قال: فإن كان لا بد فأجعلني حتى ألم بأهلي فأوصي إليهم وأهيئ حالهم،ثم انصرف إليك،قال النعمان: فأقم لي كفيلاً بموافاتك،فالتفت الطائي إلى شريك بن عمرو الشيباني،وكان يكنى أبا الخوفزان،وكان صاحب الردافة،وهو واقف بجنب النعمان فقال الشعر المذكور آنفاً،فأبى شريك أن يتكفل به، فوثب إليه رجل من كلب يقال له قراد ابن أجدع فقال للنعمان: أبيت اللعن،هو عليّ،قال النعمان: أفعلت قال: نعم فضمنه إياه ثم أمر للطائي بخمسمائة ناقة،فمضى الطائي إلى أهله،وجعل الأجل حولاً،من يومه ذلك إلى مثل ذلك اليوم من قابل،فلما حال عليه الحول وبقي من الأجل يوم قال النعمان لقراد: ما أراك إلا هالكاً غداً،فقال قراد:

فإن يك صدر هذا اليوم ولى
فإن غداً لناظره قريب

فلما أصبح النعمان،ركب في خيله ورجله متسلحاً كما كان يفعل حتى أتى الغريين،فوقف بينهما وأخرج معه قراداً وأمر بقتله فقال له وزراؤه: ليس لك أن تقتله حتى يستوفي يومه،فتركه،وكان النعمان يشتهي أن يقتل قراداً ليفلت الطائي من القتل،فلما كادت الشمس تجب وقراد قائم مجرد في أزار على النطع،والسياف إلى جنبه،أقبلت أمرأته وهي تقول:

أيا عين أبكي لي قراد بن أجدعا
رهينــاً لقتل لا رهيناً مودعا
أتته المنايا بغتة ًدون قومه
فأمسى أسيراً حاضر البيت أضرعا (7)

فبينما هم كذلك إذ رفع لهم شخص من بعيد وقد أمر النعمان بقتل قراد،فقيل له ليس لك أن تقتله حتى يأتيك الشخص فتعلم من هو فكف حتى انتهى إليهم الرجل فإذا هو الطائي فلما نظر إليه النعمان شق عليه مجيئه فقال له: ما حملك على الرجوع بعد إفلاتك من القتل قال: الوفاء،فقال النعمان: والله ما أدري أيها أوفى وأكرم أهذا الذي نجا من القتل فعاد أم هذا الذي ضمنه!! والله لا أكون ألأم الثلاثة،فأنشد الطائي يقول:

ما كنت أخلف ظنه بعد الذي
أسدى إلي من الفعال الخالي
ولقد دعتني للخلاف ضلالتي
فأبيت غير تمجدي وفعالي (8)

فترك النعمان القتل منذ ذلك اليوم وأبطل تلك السنـّة،وعفا عن قراد والطائي،وقراد شاعر جاهلي من بني الحداقية،من بني جشم بن بكر بن عامر الأكبر،كان نصرانيا،ومن مجالسي ملوك الحيرة.

هكذا ترى كيف كان يروي الأخباريون الأحداث في العصر الجاهلي بعدًة روايات متباينة جداً في سعة تخيّلها،واختلاف شخوصها! فعليك أن تغربل حابلها عن نابلها،والله المستعان في تثبيت الحقيقة وإجلاء الخيال،وإنْ كان من المحال!!

(1) (العُمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده): ابن رشيقٍ القيرواني،ت. محمد محيي الدين عبدالحميد، ط 4، 1972م ج2، ص 114 - 115 - دار الجيل. وراجع: ج1 ص 152 زهر الأداب.

(2) (محاضرات الأدباء): الراغب الأصفهان - 1 / 175 - موقع الوراق - يذكر البيتين،وقبلهما (عبدان) فقط دون ذكر اسم أبيه ولقبه.

(3) راجع للتفصيل مقال"وصية أبي تمام للبحتري"الإسناد والتوثيق، الدكتور عبدالكريم محمد حسين، المجلد 19، العدد (3، 4)، 2003، ص: 21 - مجلة جامعة دمشق.

ط 2 - ت: سمير جابر- ج 11 ص 54 وما بعدها - - (4) (الأغاني):أبو الفرج الأصفهاني دار الفكر.

(5) راجع (الشعر والشعراء): ابن قتيبة الدينوري - 1 /42 - الوراق - الموسوعة الشاملة.

(6) (خزانة الأدب): عبد القادر البغدادي - ج11 ص 290 - 293 موقع مكتبة الشيعة.

(7) (مجمع الأمثال): الميداني - 29 / 1 - عن موقع الوراق - الموسوعة الشاملة.

(8) 1 / 30 م. ن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى