السبت ٢٧ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم بسام أبو غزالة

المبادرات العربية لتحرير فلسطين

(محاضرة في جمعية يوم القدس في عمان)

أعتقد أن الغاية من هذه الكلمة، خاصة في حدود الوقت المتاح لها، أن تستقرئ أثر المبادرات العربية على القضية الفلسطينية، أكثرَ من أن تسرد هذه المبادرات سردا تاريخيا مفصَّلا، ليس صعبا على الباحث الوصولُ إليها في كتب تاريخ القضية. لذلك سوف أكتفي بذكر أخطر هذه المبادرات محاولا سبرَ غورها، وقراءةَ الدافع وراءها والأثرَ الذي خلّفته أو قد تخلِّفُه إن هي قُبِلت.

يصطدم الباحث في هذه المبادرات بكونها خادمةً للمصلحة الإمبريالية الصهيونية أكثرَ منها خادمةً للمصلحة العربية الفلسطينية. هذا أمر مؤسف حقا، وإن كان متوقعا، لكون هذه المبادرات صدرت وتصدر عن الحكام العرب المستخذين للإمبريالية في سبيل الحفاظ على كراسيهم.

مبادرات ما قبل عام 1948

أهم المبادرات العربية قبل النكبة تلك التي تبناها ملوك العرب وأمراؤهم لإيقاف الثورة الفلسطينية والإضراب الكبير عام 1936. فعلى أثر تفاقم الوضع في فلسطين في العام المذكور، قررت الحكومة البريطانية، في حزيران 1936، إيفاد لجنة ملكية برئاسة اللورد إيرل بيل، عُرفت اللجنة باسمه، للتحقيق في أسباب الإضراب والمظالم العربية. وبناء على توسط الحكومة البريطانية، اتصل باللجنة العربية العليا لفلسطين كل من الملك عبد العزيز بن سعود، ملك السعودية، والملك غازي بن فيصل، ملك العراق، والإمام يحيى حميد الدين، إمام اليمن، والأمير عبد الله بن الحسين، أمير شرقي الأردن. ثم أُوفد نوري السعيد، وزيرُ خارجية العراق، إلى فلسطين مندوبا عن هؤلاء الحكام. قبلت اللجنة العربية العليا وساطة نوري السعيد بالموافقة على التفاوض، ووضعت شروطا رفضتها الحكومة البريطانية، أهمها استمرار الإضراب في أثناء التفاوض. بعد ذلك وجه القادة العرب نداء يدعو شعب فلسطين "إلى الإخلاد إلى السكينة، حقنا للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل." فقبلت اللجنة العربية العليا نداء ملوك العرب ودعت إلى إنهاء الإضراب ابتداء من 12 تشرين الأول 1936، بشروط أهمها إيقاف الهجرة اليهودية في أثناء عمل اللجنة الملكية. غير أن الحكومة البريطانية لم تجد سببا وجيها لمطلب الفلسطينيين هذا. لذلك قررت اللجنة العربية العليا مقاطعة لجنة بيل، لكنها، على أثر تدخل الملوك والأمراء العرب مرة أخرى، غيرت رأيها. وقد أدى هذا التدخل العربي، للأسف، إلى شقِّ الصف الفلسطيني، فخرج من اللجنة العربية العليا راغب النشاشيبي ويعقوب فرّاج، من حزب الدفاع. على أن لجنة بيل، بعد دراسة الوضع، أوصت بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، مما أثار العرب ثانية وجعلهم يستأنفون الثورة. بيد أن الشقَّ في الصف الفلسطيني أنتج أثره السلبيَّ في قبول حزب الدفاع بالتقسيم، دون الجرأة على إعلان ذلك.1

ما يلفت النظر في هذه المبادرة العربية، أعني ما سُمّي "نداء الملوك"، وصفُ الحكومة البريطانية بأنها صديقة، ويُمكن الاعتماد على صداقتها. هنا نرى أن هناك أمرين وراء هذه الثقة. الأول أن هؤلاء الحكام العرب ليسوا إلا مأمورين لدى الدولة البريطانية العظمى يومئذ، ينفذون أوامرها حفاظا على كراسيهم. والأمر الثاني، بناء على الزمن الذي نحن بصدده، أن الحكام العرب كانوا (ولعلهم مازالوا حتى اليوم) غيرَ مُدركين أن الموقف السياسي يجب بناؤه على المصلحة، لا على وهم الصداقة. ذلك أنه لا وجود للصداقة في السياسة. فإن وُصفت علاقة ما بين دولتين بأنها علاقة صداقة، فهي صداقة آنية مبنية على المصلحة، تتغيّر إن تغيرت المصلحة. لذلك – إن نحن أحسنا النية، وهو أمر صعب للغاية – فإن هؤلاء الحكام الذين أطلقوا نداءهم كانوا ساذجين لا يفهمون في السياسة. والحقيقة أننا لا نفهم هذه السذاجة لدى الملك غازي بن فيصل والأمير عبد الله بن الحسين؛ ذلك أن بريطانيا كانت قد خدعت الحسين بن علي، قائد الثورة العربية الكبرى، وهو جد الأول، ووالد الثاني.

المبادرة العسكرية عام 1948

على أثر انسحاب الجيش البريطاني من فلسطين في 15 أيار 1948، دخلتها الجيوش العربية لـ"مساعدة سكانها على إعادة السلم والأمن وحكم العدل والقانون إلى ديارهم، وحقنا للدماء"، حسب بيان جامعة الدول العربية.2 في كتابه، جندي مع العرب، صرّح الفريق غلوب باشا، قائد الجيش العربي (الأردني) أن دخول قواته كان للسيطرة على المنطقة الوسطى التي خُصِّصت للعرب في مشروع التقسيم عام 1947، ولم تكن الحرب مع اليهود في الحسبان.3 ولعل هذا ينطبق أيضا على الجيوش العربية الأربعة الأخرى التي دخلت فلسطين. ومهما كان من أمر، فإن هذه الجيوش كانت تفتقد إلى حسن التدريب وكفاءة السلاح، ولا تملك خطة موحدة، ولا تنسق فيما بينها، ولم يزد مجموع مقاتليها على 21,500 مقاتل، بينما بلغ عدد المقاتلين الصهاينة 65,000.4 أما النتيجة فكانت أن استولى اليهود على 77% من فلسطين، بالرغم من أن قرار التقسيم الذي رفضه العرب عام 1947 خصص 56% من فلسطين لليهود. كذلك أُجبِرَ 900 ألف فلسطيني على الرحيل من ديارهم، وتشردوا لاجئين في بقاع الأرض.

مبادرات ما بعد عام 1948

هناك مبادرتان عربيتان خطيرتان قدمهما الحكام العرب بعد النكبة.

1) أولاهما مشروع إنشاء المملكة العربية المتحدة التي قدَّمها الأردن في آذار 1972. وقبل إعلانها رسميا حاولت القيادة الأردنية السعي "للحصول على بيعة فلسطينية".5 ولهذه الغاية دُعي عدد من الشخصيات الفلسطينية6 إلى القصر، حيث تُلي عليهم المشروع لأخذ موافقتهم عليه. وملخص المشروع إقامة دولة اتحادية، تٌسمَّى المملكة العربية المتحدة، بين قطرين: "قطر فلسطين، ويتكوّن من الضفة الغربية وأية أراضٍ أخرى يتمُّ تحريرُها ويرغبُ أهلها في الانضمام إليها." و"قطر الأردن ويتكوَّن من الضفة الشرقية." ويكون للاتحاد عاصمة مركزية هي عمّان، ولكل قطر عاصمة محلية: فتكون القدس عاصمة للقطر الفلسطيني، وتكون عمان عاصمة للقطر الأردني. وفي سياق النقاش ورد أن هذا الاتحاد مزمَع أن يُقام "بعد التحرير"، بـ"تسوية سياسية مع دولة إسرائيل في إطار قرار الأمم المتحدة رقم (242)."7 وقد رفض المشروعَ كلُّ من حضر الاجتماع، باستثناء اثنين. وبالرغم من هذا الرفض، فقد أعلنت القيادة الأردنية في اليوم التالي (15 آذار) في مؤتمر صحفي هذه المبادرة، وأرسلت مندوبين عنها إلى الدول العربية لعرض المشروع والترويج له.

بناء على هذا المشروع، دعت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى عقد دورة استثنائية للمجلس الوطني الفلسطيني، يرافقها مؤتمر شعبي فلسطيني. وقد رفض المجلس والمؤتمر مشروع المملكة المتحدة رفضا قاطعا.

هناك نقطتان جوهريتان تكتنفان هذا المشروع. أولا، يفترض المشروع سلفا أن دولة الاغتصاب الصهيونية سوف تتنازل عن الأراضي التي احتلتها في الضفة وقطاع غزة، مقابل الاعتراف بشرعيتها وإقامة علاقات طبيعية معها. هذا ضرب من التفكير الطوباوي. ذلك أن قبولَ الاحتلال للانسحاب المأمول ليس مضمونا، والتحريرَ بالقوة غيرُ مطروح طبعا. صحيح أن القيادة الأردنية، كما نفترض، كان في ذهنها أخذ موافقة الولايات المتحدة على المشروع، ولو نجحت في ذلك لكانت موافقةُ الدولة الصهيونية أقلَّ صعوبة. لكنْ، يبقى كلُّ ذلك مرهونا بيد الآخرين. قد يُقالُ إنّ الدولة الصهيونية في ذلك الوقت ربما كانت أقل تشددا نحو التنازل مما هي عليه اليوم، خاصّةً بعد أن قدّم لها العرب تنازلاتٍ لم تخطر لها على بال. بيد أن هذا الافتراض لا يغير من حقيقة أن موافقتها على المشروع إن هو إلا اتكال على المجهول.

غير أن النقطة الثانية هي الأساس. أعني أن قبول الاعتراف بشرعية وجود الدولة الصهيونية المغتصِبة هو جوهر الخلاف بين الرضوخ للأمر الواقع بعد كل كبوة، وبين مواصلة المقاومة والصمود حتى يتحقق تحرير كامل التراب الفلسطيني. وهو ما سنأتي عليه في المبادرة التالية.

2) مبادرة السلام العربية:8 أما المبادرة الثانية فهي ما سُميت بمبادرة السلام العربية التي تبنتها القمة العربية الرابعة عشرة التي انعقدت في بيروت، في آذار عام 2002. لعل هذه المبادرة أخطر ما قدّمه العرب لتقويض القضية الفلسطينية. والمضحك المبكي أن الصحفي الأمريكي اليهودي الصهيوني، طومس فرِدمَن، هو من اقترح مبادئها على وليّ العهدِ السعودي آنئذ، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، الذي حملها بدوره إلى القمة العربية المذكورة. وإذ لا يساعدنا المجال على تلاوة نص المبادرة، نوجزها فيما هو آت:

أولا: تستند المبادرة إلى قراري مجلس الأمن 242 (تشرين الثاني 1967) و338 (تشرين الأول 1973) "اللذين عزّزتهما قرارات مؤتمر مدريد عام 1991"، وكلها تنادي بمبدأ "الأرض مقابل السلام"، أي الأرض المحتلة في حزيران 1967، وليس كامل الأرض الفلسطينية.

ثانيا: تؤكد المبادرة "اقتناع الدول العربية بأن الحل العسكري للنزاع لم يحقق السلام أو الأمن لأي من الأطراف".

ثالثا: تطالب المبادرةُ الدولةَ الصهيونيةَ بـ"أن تجنح للسلم" وبقبول"حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يُتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194"، وبـ"قبول قيام دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران … وتكون عاصمتها القدس الشرقية".

رابعا: عندها تعتبر الدول العربية "النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا"، وتنشئ "علاقات طبيعية مع إسرائيل".

بعد التأمل في كل هذه المبادرات، نرى أن القاسم المشترك بينها جميعا منذ عام 1936 حتى يومنا هذا هو رفضُ الحكام العرب لمبدأ المقاومة، وجنوحُهم للسلم الاستسلاميّ، لسببين اثنين، أولهما استخذاؤهم للإمبريالية، ممثلةً ببريطانيا في الأمس، وبالولايات المتحدة اليوم؛ وثانيهما أنهم أكسل من أن يُحرِّكوا هممهم لاسترداد الحق العربي في هذا الجزء المقدس من الوطن العربي. فالحاكم العربي يريد أن ينعم بالحكم نعيما شخصيا، لا تنغِّصُ عليه المشاكل المتأتية من المقاومة والصمود. ذلك أن هذا الحاكم العربيَّ مستبد بالضرورة؛ لم يصل إلى كرسيِّه بالانتخاب الحرّ، وليس ثمة من يحاسبه على تقصيره إن هو قصّر. بل إن خريطة المنطقة وضعتها الإمبريالية الغربية بعد الحرب العالمية الأولى، ونصبت على دويلاتها حكاما يأتمرون بأمرها، وما الشعب إلا رعيّة مُغيَّبة عن الحكم.

قبل أن أنهي حديثي، أرى لزاما أن ألفتَ النظر إلى خطورة ما ورد في المبادرة العربية الأخيرة فيما يتعلق بعودة اللاجئين، إذ دعت إلى "حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، وهو تعبير كأنّ التعميمَ فيه مقصود للدلالة على الاستسلام، خاصة أن رئيس السلطة الفلسطينية، وهو من نصّبَ نفسه قيِّما على القضية، صرّح في أكثر من مناسبة أن عودة اللاجئين مسألة غير واقعية!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى