الثلاثاء ١٠ آذار (مارس) ٢٠١٥
بقلم غزالة الزهراء

المرحلة الحرجة

في صبيحة ذلك الغد شددت الرحال لأقف على لب الحقيقة، تخميني كان في محله، لم تكن نشيدة تتمتع بنشاطها المعهود، بل فاترة الهمة، تلفها زوبعة ساحقة من القلق والكآبة.
ـــ أحصل نزاع حاد بينكما أسفرت نتائجه عن انهيار معنوياتك بهذه الصورة؟
ـــ لم يصدر من زوجي رفيق إلا منابع الخير، إنه رجل شهم بكل ما تحمل الكلمة من معان سامية و........
توغلت نشيدة سهوا في أدغال صمتها الحالك، ثم انفجرت بالبكاء كأنما تحس إحساسا فظيعا بدنو نهايتها، حالتها البائسة كانت بالغة التعقيد حيث يعجز اللسان البشري عن وصف أدق تفاصيلها.
ـــ أنا مريضة.
ـــ أي مرض استوطنك؟
ـــ سرطان الدم.
ارتجفت كورقة تتلاعب بها أيادي العاصفة على وقع كلمة سرطان، لم أصدق أن هذا الداء الخبيث طالها وهي ترتع في ريعان شبابها الأقحواني الزاهي، حاولت بكل ما في وسعي أن أبدو أمامها أكثر رزانة وهدوءا وقوة.
ـــ لست الوحيدة التي أصيبت بهذا الداء اللعين، تجلدي بالصبر والقوة في مجابهة هذه المحنة العصيبة التي ابتليت بها.
وتابعت قائلة: لم آثرت السكوت على محنتك؟ على الأقل أهب لمساندتك في مثل هذا الظرف العصيب.
ـــ لقد تكاتفت معي من ذي قبل، لا أطمع في المزيد منك.
ـــ إياك والتفوه بهذا ثانية، ألسنا صديقتين حميمتين؟
ودقت اللحظة الحاسمة حيث دلفت نشيدة إلى المشفى لتتلقى العلاج اللازم في حينه، مريضات لا يحصى عددهن ركضن متسابقات إلى هذا المكان بغية التداوي، كل واحدة تتوق للخلاص الأكيد من قبضة هذا الداء الأشد فتكا، منهن الحسناوات ومتوسطات الجمال، وكذا الدميمات، كلهن يناضلن نضالا عسيرا للتشبث بحبل الحياة المتين، يتأوهن مغبونات مفزوعات، ثم يتهامسن برفق وحب، ويتضاحكن رغم الإصابة ساردات قصصهن مع رحلة هذا المرض الذي تفاقم بصورة خيالية لا تصدق.

ساقت نشيدة قدميها المرهقتين إلى حديقة المشفى، يدها تحتضن كراسا وقلما، وبمجرد أن احتواها الكرسي الرخامي الطويل فتحت كراسها وشرعت تكتب بأريحية: زوجي رفيق رجل شهم، لا يمكن الاستهانة به، لم يبد تذمره الإنفعالي مما آلت إليه صحتي، بل ظل محافظا على هدوئه التام، ومتماسكا بشدة كبنيان مرصوص شامخ، يداويني بالكلمة الطيبة، ويلطف من ضبابية اضطرابي، وتوهاني، واكتئابي، سقطت في بؤرة المرض الموحل، لم أكن أدرك بالضبط ماهيته، عرضني على أشهر الأطباء ليشخصوا حالتي، التحاليل الطبية أثبتت أنني مصابة بداء السرطان، الخبر المؤسف زلزلني من موقعي، غامت الدنيا في عيني، ثم تهاويت على الأرض مغشية علي، اليد الرحيمة تهزني هزا رفيقا، والصوت المألوف يتقاطر في أذني: نشيدة أفيقي، أفيقي.
فتحت عيني المشدوهتين، زوجي يناجيني، غمغمت كأنني أنزلق من برج عال: سرطان !؟
ساعدني على النهوض، وأسند رأسي المتعب على كتفه الأيمن وهو يقول مؤكدا: سنتآزر في المواقف الصعبة، هذا وعد قاطع مني لن أنكثه.
ثم أضاف وهو يتنفس الصعداء: الشكر لله، وللأطباء الذين اكتشفوا مرضك مبكرا، لا خطورة على صحتك، ستتابعين حصص العلاج، وتعودين إلى ممارسة حياتك بشكل لائق.

في لمح البصر أقفلت كراسها، ووضعته بجانبها، نحيب طفلة صغيرة استحوذ على كامل انتباهها، إنها تتلوى بين ذراعي أمها، لم تعد قادرة على محاربة عضة الألم الشرسة حتى الصغار الذين يينعون كالزهورالبرية لم يسلموا من لدغاته اللاسعة.

مرت ساعة برمتها، تفطنت نشيدة إلى ضياع كراسها، عادت أدراجها إلى المكان الذي كانت تركن إليه بكل أحاسيسها، صفعها فراغ رهيب، تأسفت بشدة، المهم لم يكن بين صفحاته سوى بعض السطور الصادقة التي نسجتها أناملها.
ـــ لمن هذا الكراس؟
كانت الموظفة تبحث عن صاحبته من غرفة إلى أخرى، تقدمت منها، ومنحتها إياه قائلة بخجل كبير: لقد تطفلت بعض الشيء حيث التهمت عيناي سطوره، زوجك نزيه ونبيل، أمثاله نادرون في هذا الزمن الصعب.
اغرورقت العبرات في مقلتيها الضبابيتين، ثم انحدرت بتؤدة على وجنتيها راسمة بشكل جلي أوجاع سنين فتاكة جارحة.
ـــ لم البكاء يا سيدتي؟
ـــ عندما طالتني نيران الداء الخبيث ألقى علي زوجي يمين الطلاق، تخلى عني في أحلك أيامي وأقساها، وها أنذا كما ترين أمارس عملي في هذا المستشفى بصفة طبيعية منتظمة.

داومت نشيدة على العلاج الكيميائي الفعال كما أن زوجها دعمها ماديا ومعنويا لتجتاز تلك المرحلة الحرجة من مرضها، وبعد طول علاج أعلنت نشيدة انتصارها على هذا الداء السرطاني المميت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى