الاثنين ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم غزالة الزهراء

تحت سياط المطر

ترفع خديجة رموش عينيها إلى أعلى السقف، سهام المطر المريعة تتوالى ضرباتها دون انقطاع كأنما هي عازمة أشد العزم على اختراقه بشتى الطرق. متى يهدأ قصف الرعد، ومتى يعزف هذا الوابل من السيول الجارفة عن الهطول؟ وماذا يحدث اليوم يا رب؟ المسكن هذا لم يعد جاهزا بالمرة لتحمل كوارث الطبيعة المفاجئة، إنه على السقوط وشيك، جيرانها هم الآخرون يشتكون من هشاشة منازلهم، ورغم استغاثاتهم المتكررة التي بلغت مسامع السلطات بيد أن الوعود كانت كثيرة ونيرة بينما جوهرها طبل أجوف لا نفع فيه، أناس هذه البلدة الصغيرة باتوا يتخوفون كل عام من رداءة الطقس وتقلباته حيث تسبب الفيضان في إلحاق الضرر بآلاف العائلات، وتدمير المركبات الرباعية الدفع.

توزع خديجة نظراتها التائهة في السقف، وفي الجدران، وفي الفراغ اللاسع، صخب المطر يتفاقم بسرعة جنونية لا عهد لها به، نبضات قلبها تتسارع، ويتناسل الوجل حولها كوباء الطاعون، وفي ارتباك ظاهر دنت من نافذة غرفتها، وتطلعت إلى الأزقة المغمورة بالمياه، ياترى ماذا حصل لصغيرها الوديع الذي لم يعد من مدرسته بعد؟ تأخره المباغت بذر في بيداء نفسها قلقا شنيعا يكاد يستحيل في حينه إلى انفجار مهول.

الدقائق تنسحب متعفنة وعقيمة، تراودها آنذاك أسئلة شتى حارقة كالجحيم: لماذا لم يعلن صغيري الحبيب عن عودته من المدرسة حتى هذه الساعة؟ هل هزاري الطليق نتفت رعونة المياه ريشه، وجرفته في مسالكها الوعرة إلى غير رجعة؟ أيمكن أن تنقطع زقزقاته الفيروزية الحالمة، وتصير حكايتي شبه مهجورة تنغرز فيها مخالب الركود، وتفرخ في زواياها خفافيش الليل البهيم؟

القلق المتعنت لص مشاكس خطير اقتحم فؤادها بلا استئذان، تروح وتجيء وهي تقاوم أشباح اليأس المزعجة، وتارة أخرى تستسلم لمخاوفها بكل ما تملك من أحاسيس جياشة، تجهش باكية وتغمغم في بيادر الأسى مجروحة حتى النخاع: حبيبي، صغيري، وحيدي، ماالذي أصابه؟

البارحة فقط قال لها ودفء أزلي يغمره: أتمنى أن أكون في المستقبل طبيبا لامعا أتبختر في مئزري الأبيض، وأداويك مجانا.

أحاطت عنقه الطري بذراعيها وهتفت: أحبك يا قرة عيني.

عليها أن تحسم أمرها، وتخوض غمار رحلة بحث طويلة، فلا مجال للتأوهات، والدموع، والقلق، والانتظار. ارتدت معطفها الصوفي على عجل، وأقفلت الباب وراءها.

في الأزقة العامرة بالمياه أخذت تهرول، وتتكلم مع نفسها كأنما هي على شفير الجنون، الأمطار الفياضة تهوي بلا هوادة، نسيت مظلتها وخرجت دونها، الذي يكون في موقفها سينسى العالم وما فيه.

ـــ أمي، أمي.

صوت حان مليء بالحب الشهي ينبثق من صدر صغير أهلكه الوجع والخوف، هذا الصوت الملائكي لولدها، لحبيبها، لحملها الوديع، التفتت لتراه، ركضت إليه كأنما تسابق دوران الزمن المعتوه.

ـــ حبيبي الصغير حمدا على سلامتك، أما زلت تتنفس، وتعي؟

نطق صاحب الدكان مهدئا من روعها: لا تقلقي سيدتي الكريمة، إنه في أمان.

وطفق يحكي بتأثر شديد: كان كما عصفور مقصوص الجناحين يغالب هيجان الأمطار، ويصرخ بكل ما أوتي من قوة، صراخه الطفولي هز مشاعري يا سيدتي فهببت لنجدته، طوال الوقت وهو يرتجف، ويئن، ويبكي. كان في منتهى الدهشة والاستغراب، خففت عنه، ولاطفته، وأطعمته.

ـــ قمت بالواجب وأكثر يا سيدي، أشكرك على نبلك وشهامتك.

ـــ أنا مؤمن يا سيدتي، وما على المؤمن إلا أن يفرج كربة أخيه ليكون الله في عونه، فماذا أحصد من هذه الدنيا الفانية؟

ـــ على كل حال جزاك الله خيرا.

نزعت معطفها ولفته فيه، ثم ضمته إلى صدرها وانطلقت راكضة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى