الثلاثاء ٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم أحمد أبو سليم

جُرحٌ قَديم

جُرحٌ قَديمْ
وَالبَحرُ أَبيَضُ
كَالمَسافَةِ بَينَ عُكّازَينِ مِن حَجَرٍ:
فِطامِكَ وَاغتِرابِكَ في زَفيرِ النَّملِ
مِن أَليافِ مِشنَقَةٍ
تَهُبُّ الرّيحُ
وَعداً في خَرابِ الكّفِّ
لا رُؤيا تُظَلِّلُ ظِلَّكَ المَحروقَ فَوقَ أَصابِعي
لِتَنامَ يا أَبَتي
وَلا أُنثى تَفيضُ عَليكَ
تُطفِئُ شَهوَةَ الآتي
تَهُبُّ الرُّوحُ
تُمعِنُ في الجَفافِ المُرِّ
في السَّهوِ المُوَزَّعِ بَينَ مِرآتينِ
في الصَّبرِ المُخَبَّأ في قِرابٍ تُثقِلُ الكَتِفَينِ
في الضَّجَرِ المُلازِمِ لِلخُطى والتّيهِ في جُرحينِ
تَرحَلُ في تَمامِ الصَّمتِ فَضفاضاً
كَأَنَّ القَومَ بَعدَ القَومِ أَعجازٌ لِنَخلٍ
في صَريرِ الَّليلِ مَسكونٍ
بِداءِ الصَّبرِ وَالآثامْ
كًلُّ الَّذينَ تَقاطَعوا في الحَربِ
غابوا عَن شَوارِعِكَ العَتيقَةِ
وَاستُبِحتَ
وَأَقفَرَت طُرُقُ المَدينَةِ
وَحدَكَ الغَيبُ المُخَبّأُ في الحَقيبَةِ
وَحدَكَ القَلَقُ المُمَزَّقُ خَلفَ جُدرانِ الحَقيقَةِ
وَحدَكَ الجَسَدُ المُوَزَّعُ في تَمامِ الصَّبرِ نَثراً كَالغَمامْ
مَن يَكتُبُ التّاريخَ يَنسى
أَن يَمُرَّ عَلى جِراحِكَ حافِياً
لَو حافِياً
مَن يَكتُبُ التّاريخَ تُدمي كَفَّهُ السَّمراءَ
ذِكرى وَعدِكَ المَسكونِ خَوفاً يائِساً
مَن يَكتُبُ التّاريخَ يَنسى صَوتَ صَمتِكَ
للسَّماءِ مُعاتِباً
خَذَلوكَ يَومَ تَكَسَّرَت صُورُ المَدينَةِ
وَالقُلوبُ تَبَعثَرَتْ خَلفَ الحَناجِرِ
وَالخَناجِرُ في ضُلوعِكَ أُغمِدَت
خَذَلوكَ يَومَ تَيَمَّمَوا مِن مِلحِ دَمعِكَ ثُمَّ قالوا:
لِلسَّماءِ جُنودُها
إذهَب وَرَبَّكَ قاتِلا
إنّا هُنا
مُتَحارِبونَ عَلى الصَّدى
وَعَلى الكَلامْ
 
جُرحٌ قَديمْ
وَالبَحرُ أَبيَضُ
وَالفَراشاتُ الصَّغيرَةُ مِن وَريدٍ قَد تَدَلَّت كَالغَسيلْ
مَن ذا يهيِّئُ قَبرَها
وَالمَوتُ أَبيَضُ في الرَّحيلْ؟
مَن ذا يهيِّئُ عِطرَها
وَالصَّوتُ أَبيَضُ في الصَّهيلْ؟
مَن ذا يهيِّئُ ثَوبَها
وَأَنا المُؤَذَّنُ في الكَلامِ وَفي السَّلامِ
وَفي الصَّلاةِ عَلى الحُفاةِ
أَنا المُؤَبَّنُ في الجَنازَةِ
كُنتُ أَعرِفُ شَكلَ وَجهي
وَالمَسافَةَ بَينَ حُلمي
وَانقِطاعِ الخَطِّ في أَعماقِ كَفّي
غَيرَ أنّي
قَد أَفَقتُ عَلى الدُّموعِ
عَلى مَراثي العابِرينَ عَلى الضُّلوعِ
عَلى الشُّموعِ
عَلى الغِيابِ يَعودُ في دَربِ الرُّجوعِ
عَلى الكَلامِ يَسيلُ مِن نَزفِ الغَمامِ
عَلى السَّماءِ تُفَتِّحُ الأَبوابَ لي
وَالأَنبياءِ يُرَدِّدونَ صَلاتَهُم خَلفي...
أَنا
ما كُنتُ إلاّ زائِداً في المَشهَدِ الَّليليِّ أَهمِسُ لِلمَقاعِدِ
بَعدَ أَن يَمضي الجُنودُ
أُرَدِّدُ الأَحزانَ وَحدي:
إن كَتَبتَ رَسائلاً لِلغائِبينَ وَلَم تَجِدْ
فيها فِلَسطينَ الَّتي غابَت عَنِ الدُّنيا
وَما زالَت تُظَلِّلُ جُرحَكَ المَفتوحَ في الُّلقيا
فَحُزنُكَ كاذِبٌ
كاذِبْ
ما كُنتُ إلاّ زاهِداً في المَسجِدِ المَنسيِّ أَهذي
إن نَسيتَ – وَأَنتَ تَرفَعُ في الدُّعاءِ إلى السَّماءِ
جَبينَكَ المَوسومَ مِن أَثَرِ السُّجودِ بِلَيلَكٍ –
نَجوى فِلَسطينَ القَتيلَةِ
قِبَلَةَ العُشّاقِ
فاذكُرْ أنَّ دَمعَكَ كاذِبٌ كاذِبْ
ما كُنتُ إلاّ شاهِداً في المَسرَحِ الَّليليِّ أَصرُخُ:
إن نَسيتَ - وَأَنتَ تولِمُ لِلجِياعِ هَزيمَةً أُخرى –
فِلَسطينَ الَّتي ماتَت عَلى أَعتابِ بَيتِكَ
فاذكُرِ الرِّيحَ الَّتي قَلَبَت قُدورَ العائِدينَ
مِنَ المَدينَةِ
دونَ أَعلامٍ
وَلا أَحلامْ
 
جُرحٌ قَديمْ
وَالبَحرُ أَبيَضُ
وَالسَّماءُ تَنامُ في جَيبِ القَتيلْ
لِلمَوتِ وَقتٌ ضائِعٌ
لِلحَربِ نابٌ
لِلسَّماءِ مَلاكُ مَوتٍ واضِحٌ
وَالرُّوحُ أُنثى
وَالحَقيقَةُ أَلفُ وَجهٍ تَقبَلُ التَّعليلْ
هَل تُعرَفُ الأَسماءُ مِن لَونِ الوُجوهِ
وَمِن خُطوطِ الكَفِّ قَبلَ خَرابِها
أَم تُحشَرُ الأَجسادُ في الأَجسادِ غَيباً
قيمَةً
لا تَقبَلُ التَأنيثَ وَالتَذكيرَ وَالتَأويلْ؟
كُلُّ الَّذينَ تَكاثَروا في الكَهفِ ماتوا
وَالمَدينَةُ لا تُعِدُّ صَلاتَها
الأَنبياءُ الأَنبياءُ العائِدونَ مِنَ الخُرافَةِ
هَل سَيَخرُجُ مِن حَرائِقِ فِتنَةِ الصَّمتِ المُدانِ مُحَمَّدٌ؟
وَالجائِعونَ الجائِعونَ تَدافَعوا مِثلَ الذِّئابِ عَلى الفَريسَةِ
هَل تَرَبَّعَتِ المَدينَةُ في السَّماءِ عَلى السَّماءِ
وَغَيَّرَت أَبعادَها؟
وَالتائِهونَ التائِهونَ تَناثَروا كَالغَيمِ
ماذا يَكسِرُ الفَقَهاءَ لَو كانَ الصَّدى بُعدَينِ؟
ماذا يَكسِرُ الخُطَباءَ؟
ماذا يَكسِرُ المَوتى؟
وَماذا يَكسِرُ الأَحياءَ
لَو كانَ الصَّدى بُعدَينِ يَلتَقيانِ
وَمضَةَ لَحظَةٍ في رَأسِ دَبّوسٍ؟
هَل اكتَمَلَت شَجاعَةُ طائِرِ العَنقاءِ
كَي يَنزاحَ في جُرحَينِ
أَو روحَينِ
أَو فَتحَينِ؟
ماذا يَلبَسُ الغُرَباءُ غَيرَ الصَّوتِ وَالذِّكرى؟
وَماذا يُتقِنُ الغُرباءُ غَيرَ الصَّحوِ بَعدَ المَوتِ
وَالرُؤيا؟
أَعُدُّ أَصابِعي لِتَنامَ
يَغفو البَحرُ
تُمعِنُ في السُّقوطِ الحُرِّ في جَسَدي
أُرَمِّمُ عَتمَةً سالَت عَلى شَفَتي
أنا وَالخَوفُ مِرآتانِ في جَسَدٍ بِلا عَينينِ
تَختَنِقُ الحِكاياتُ الَّتي فاضَت بِماءِ البَحرِ في رِئَتي
أَعُدُّ أَصابِعي
وَالوَقتُ يَسرِقُني
أَعُدُّ أَصابِعي
وَالوَقتُ يَترِكُني
أَعُدُّ أَصابِعي
وَالوَقتُ دائِرَتي
أَعُدُّ أَصابِعي وَأَفِرُّ
لا مَسرى سِوى مَسراكَ
يَختَلِطُ الإيابُ الحُرُّ بِالماضي
وَتَشرَبُني مِياهُ الغَيبِ
لا ذِكرى سِوى ذِكراكَ
كَيفَ أُرَمِّمُ الكَلِماتِ بِالكَلِماتِ
وَالذِكرى سِتارٌ يَحجِبُ الرُؤيا؟
تَعُدُّ أَصابِعَ الجُرحَينِ مَسكوناً
بِطَيفِ العائِدِ المَولودِ في الآتي صَدى
لأَنامَ يا أَبَتي عَلى وَجَعيكَ
كَيفَ أَنامُ وَالذِّكرى سِتارٌ يَحجِبُ الرُؤيا؟
وَكيفَ أَمُرُّ كالرّيحِ الَّتي ضاقَت بِها الدُّنيا
عَلى جَسَدٍ
مِنَ الأَحلامِ
وَالأَوهامِ
وَالأَختامْ؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى