الثلاثاء ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٦
قراءة في رواية

حين بكى قمر الجليل

موسى حجيرات

قال من تناول الرّواية "حين بكى قمر الجليل لمؤلفيها: حسن وسمير عثمان"، بيده يتصفّح عنوانها، وما كُتب عنها في الغلاف الأخير: "من العنوان أشمّ رائحة الوطنيّة، والوطنيّة انتماء، فما استعمال الجليل وقمره عبثًا، فكأنّي بفلسطين العزّة والصمود تبكي". تدرّج إلى إهداء المؤلفين لروايتهما، فقال: "ولمن؟... لشاطئي عكا ويافا ورمالهما، فالكلّ يعرف عكا ويافا رمزَا مَنْ، ومريم! ومَنْ هي مريم؟ ولمن يشير انتماؤها؟".

فكتبت: إنّ النّاقد إذا ما قرأ عنوان "حين بكى قمر الجليل" ليخمّن، صادقًا، إنّ الرّواية لا تختلف عن مثيلاتها لكتّاب فلسطينيّي الدّاخل اللاتي تتحدّث عن ديار فلسطين، وشعبها المهجّر، والمشرّد، والمغترب.

فالجليل بالنّسبة له انتماء مكانيّ في حين أنّ البكاء هو حالة يوصف بها.

أمّا حين يخوض النّاقد فيها فسرعان ما يدرك أنّ الرّواية ليست بعيدة عن تخمينه كلّ البعد، بل فيها، أيضًا، من التّهجير، والتّشريد، والاغتراب، ولكن هنا على أساس اجتماعي صرف.

فبطلة الرّواية التي شُرّدت، واغتربت، وعانت هي فتاة عربيّة من فلسطين الدّاخل، تعيش في دولة إسرائيل؛ تنصاع لقوانينها وتقبل بها (حماية الأطفال ورعايتهم، ص127)، (طلب الطلاق يقدّم في المحاكم، ص 141)، وتحتكم إلى محاكمها (مكتب مساعدات الشّؤون القضائيّة في أروقة المحاكم من الشّمال والمركز، ص 127)، وتعيش كما يعيشون لكنّها تعاني معاناة اجتماعيّة.

فمجتمعها الذّكوري الأبوي يعاملها كمخلوق آخر إنّما خلق لخدمة الرّجل، وتلبية رغباته الجنسيّة والخدماتيّة، فما يحقّ للذّكور من رعاية، وحماية، وتوفير ما يمكن من متطلباتهم، وتعليمهم، وتزويجهم يحرم على الإناث مجرّد أنّهنّ إناث (ليس لأي سبب سوى لأنّني أنثى، ص 47)، ويحصر عملهنّ في (البيت، والتّنظيف، وتحضير الطّعام، والغسيل، وجلو الصّحون، ص 47)، ويحرمهنّ من التّعليم العالي (منع الفتاة من الالتحاق بالكليّات والجامعات هو ظلم، وانتهاك لحقوق المرأة، ص 48)، ولا يأخذ برايهنّ عند الزّواج رغم معارضة ذلك للشّرع الإسلامي (فقد رفضت الزّواج عشر مرّات إلا أنّ أبي، وإخوتي وقفوا لي بالمرصاد، ص 51).

وتعتبر الفتاة متّهمة بكلّ ما يتّهمها الرّجال، ولا يسمعون كلامها، ولا تمنح حق الدّفاع عن نفسها (حاولت أن أسوغ موقفي لعائلتي، وأشرح كلّ الحقيقة، ولكنّ أحدًا لم ينصت لصرخاتي، بل العكس، كانت أجوبتهم مليئة بالوعيد، والتّهديد، والذّبح الشّديد، ص 55).

فالرّواية، إذن، بعد قراءتها بتمعّن هي رواية اجتماعيّة من الدّرجة الأولى. هي رواية تصوّر قصّة فتاة عربيّة تعاني الظّلم المجتمعي من المجتمع الذّكوري، كما تعاني الظّلم الأسري، وتقاليد الأهل، وعاداتهم، وأعرافهم الخاطئة، والتي اتّخذوها مرجعًا لسلوكيّاتهم الاجتماعيّة، فلم تُناقش، ولم تُبرّر، ولم يبحث أحدٌ في مدى مصداقيّتها، وملاءمتها للمنطق الإنساني، أو للقواعد الإنسانيّة، وما هي إلا "هذا ما وجدنا عليه آباءنا".

تصوّر الرّواية فتاة عربيّة تعاني دونيّة المرأة العربيّة في المجتمع. فقد سلّمت، أولًا، بهذه "التّهمة"، وعاشت حسبها، فقرّرت قرارها العظيم بترك المدرسة (أنا لن أعود للمدرسة بعد اليوم، ص2)، (وصرخت بقراري الأخير، وموقفي من المدرسة، ص3)، (فأبي قال لنا منذ الطّفولة لا تعليم للبنات في الكليّات والجامعات، ص 115)، والنّتيجة (فتركت المدرسة لأنّي علمت أنّ المسألة هي تقضية وقت، ص115)، كما إنّها قبلت بالزّواج من قاهر (وافقت على الخطبة مكرهةً بعد أن عزفت عنها طويلًا، ص 38)، بالرّغم من أنّها لا تحبّه، ولا تطيقه (ولم أشعر يومًا أنّي مخطوبته، ص38).

وسكتت على جرائمه التي يقوم بها بحقّها؛ فإهمالها، وتفضيل العيش والسّمر مع الأصدقاء، والعودة بعد منصف الليل (كان زوجي يعود بعد منتصف الليل يتمايل بجسمه المتهدّل، وكرشه التي سبقته، ص 44)، ويشرب الخمرة (فرائحة الخمرة تفوح من فمه، ص 44).

ولكنّها، بالرّغم من ذلك، ظُلمت، وشُردت، وهُجّرت حتّى باتت رمزًا للفتاة التي تعاني التّشرّد، فقد غادرت قريتها في الجليل خوفًا إلى ملجأ للنّساء المقهورات في هرتسليّا، وعانت المطاردة من ملجأ إلى ملجأ آخر، وعانت التّهديد من قبل أخويها (ستعودين إلى البيت صاغرة لتعيني والدي في مرضه، ص 151)، (الموت قريب، يا مريم، أخوك، ص 152).
وعانت هجر عائلتها لها، والبعد عن الأطفال. كما عانت المرض (نجري لك عمليّة استئصال للرّحم بعد أن غزاه مرض خبيث كاد يفتك بك لولا لطف الله بك، ص 126). وعانت كونها عبئا على الآخرين، وطلب المساعدة (لأنّني لا أحبّ أن أثقل على أحد أيّا كان، ص 116).

ولكن يدرك كلّ قارئ للرّواية، أيضا، إنّ هذه المعاناة هي، أيضا، معاناة مبطّنة لتعامل مؤسّسات الدّولة مع فلسطينيّي الدّاخل. وقد وجد تلميحًا لذلك في أكثر من موضع، فقضيّة طلب الطّلاق من قاهر تُناقش في أروقة المحاكم في النّاصرة مع أنّ هناك مكاتب ومحاكم في القدس، ويمكن انجازها هناك.

وكذلك تقاعس الشّرطة في حماية النّساء المضروبات عامّة، والعربيّات منهنّ خاصّة، فقد حضرت الشّرطة استجابة لطلب مريم بعد أن هدّدها أبوها، وأخواها، وزوجها وأثبتت ذلك يقينًا، ولكن ماذا فعلوا؟ ص 57).
وهكذا فالرّواية ليست تجسيدًا للفتاة العربيّة فحسب، بل للفلسطينيّ المهاجر، اللاجئ، المغترب، المُطارَد، المبعَد قسرًا عن مسقط رأسه، وعن مكان ذكريات طفولته منذ نعومة أظفاره. وهي تجسيد للفلسطينيّ المشتّت في نفسه، ونفسيّته، وفي تفكيره ومخيّلته.

والرّواية كذلك تروي قصّة محليّة، ففيها من الواقع شيء كثير؛ فوصف الأمكنة بدقّة متناهية يعطي للقارئ المحلي وصفًا تقريريّا عن حدث يعرف مكان حدوثه، فلهذا يتخيّلها قصّة واقعيّة تدور رحاها في المدن الفلسطينيّة التي تعتبر رمزًا لفلسطين عامّة عكا، وحيفا، والخليل، ويافا، والقدس، والنّاصرة. وما اختيار هذه المدن عبثًا إلا لأنّ لها مكانة في نفسي الكاتبين.

فالرّواية ليست سياسيّة محضة، مع أنّ من أبعادها بعدًا سياسيًّا.
أمّا ظاهريّا فالرّواية ليس فيها من السّياسة شيء ولكنّ الكاتب الفلسطيني، بشكل عام، يعود تلقائيّا لذكر بعض رموز القضيّة الفلسطينيّة لأنّه يعيشها، وموجودة هي في نفسه، وتفكيره، وواقعه، وخياله.

ففي الرّواية تصريح بالتّهجير (الصّفافرة، واللاجئون من أهل ميعار، والدّامون، والمنشيّة، ص ص 138-139)
وفيها ذكر رموز فلسطين؛ فالقدس أولى القبلتين، وعكا قاهرة نابليون، وحيفا عروس البحر، ويافا الصّمود، وناصرة المسيح بن مريم، وفيها تلميح لمعاناة الفلسطيني في رحلته القسريّة إلى غربته ومنها.

ويبدو ذلك في التّشرّد، والانتقال السّريع من مكان إلى مكان. حيث ما تلبث البطلة أن تصل إلى مكان؛ فيتخيّل إليها أنّه عتبة الاستقرار والأمان، ولكن سرعان ما يطرأ طارئ فتنتقل إلى مكان آخر ترى فيه ما رأته سابقًا، والنّتيجة نفس النّتيجة، ولكنّ عيناها ترنوان، دائمًا، إلى الأفق، إلى الخلاص، إلى النّجاة، إلى نهاية المطاف، إلى العودة.
فقد رأينا الحدث الرّوائي كيف يتطوّر، وبسرعة فائقة، تاركًا في نفس القارئ شوقًا، وشغفًا، وفضولًا للاستمراريّة في الاستطلاع.

لقد بدأ الحدث بترك مريم المدرسة، والتّعرف إلى يوسف، وسفر يوسف وتركها، وخطوبتها قسرًا من قاهر، وزواجها وانجابها أربعة أطفال، والانضمام إلى شبكة الفيسبوك، وتلقي رسائل غزل، ومشاركة فيروز الحدث حتّى اكتشاف قاهر العلاقة، وطلاقها وضربها، والاتصال بالشّرطة، وأزمة قلبيّة تلمّ بقاهر ودخوله المستشفى، وزيارة قاهر في حيفا، ومحاولة انتحار فاشلة وبعدها دخول الملجأ، وشجار مع امرأة أخرى وترك الملجأ إلى آخر، والعمل في معمل في هرتسليّا، وإنهاء العمل والانتقال إلى يافا والعمل فيها، والانتقال إلى سند في القدس، والتّعليم والعمل في السّياحة، والمرض، والانتقال إلى بيت العمّة في النّاصرة، ومرض الأب ومجيء الإخوة والتّهديد بالقتل، والانتقال إلى عكا خوفًا، والعودة إلى البلدة والعيش وحيدة مع الأطفال.

وأخيرا، فأهمّ ما يقال فيها أنّها رواية اجتماعيّة، تصوّر حياة أسرة عربيّة من الدّاخل الفلسطيني، مبرزة فهم ومعاملة المرأة العربيّة وما تعانيه. ثمّ إنّ لهذه الرّواية أبعادًا يطول الحديث عنها، ويوصى بنقدها وتحليلها كلّ على حدة؛ الاجتماعي، والوطني السّياسي، والواقعي، والإنساني.

أمّا الأسلوب في الرّواية فرومانسيّ شيّق، فالمؤلفان يصفان الطّبيعة وصفًا لغويًّا دقيقًا ثريًّا. وقد أثبتا مقدرةً رهيبةً بالتّحكم باللغة، وتطويعها لخدمة أسلوبهما ثمّ أنّ فيها إشارات كثيرة على تمكّنهما من اللغة واستعمالاتها السّهلة البسيطة، ولكنّها غير مألوفة حتّى تعطي للنّص قيمة تفرضها على قارئه، ويتولّد لديه شعور بمحبّتها وودّها، ففي أكثر من موضع ظهرت الاستعمالات الشيّقة. فمثلًا: (الليل شديد الإحليلاك، ص 22)، (ننتقل إلى بيت آخر نكتريه، ص 42)، (وقد انتفخت أوداجي، ص 47)، (أم هو عصيان بواح وتمرّد صراح، ص 49)، (وانطفأ أوار غضبي، ص 82)، (فاصدعي به واسمعي النّصيحة، ص117)، (واصابتك في المحزّ، ص 171).

هناك تعابير مستوحاة من القرآن الكريم. فمثلا: (استرقت النّظرات من وراء جدر، ص 7)، (لم أستطع على ذلك صبرًا، ص 25)، (ستخرق الأرض، أو تبلغ الجبال طولًا، ص 143)، (قد نجوت من القوم الظالمين، ص153).
وتعابير مستوحاة من الحديث الشّريف. فمثلا: (يظلّ لساني رطبًا، ص 43)، (أوصوا الرّجال بالنّساء خيرًا، ص 50).
ومنها تعابير مستوحاة من الثّقافة العربيّة. فمثلا: (إنّ الفتاة ليس لها إلا بيتها وزوجها، ص 37)، (وغدًا ستحبّينه بعد الزّواج، ص 37).

ومنها تعابير مستوحاة من الشّعر العربي. فمثلا: ("أفراخ زغب الحواصل"، ص 171).
وقد أظهر المؤلفان اطّلاعًا واسعًا على الثّقافة الإسلاميّة العربيّة، فقد ذُكرت في الرّواية أسماء كتب. مثل ("ذاكرة الجسد"، "رسائل الأحزان"، "السّحاب الأحمر"، ص 19).

كما ذُكرت أسماء مؤلفين وشعراء مثل: ("حافظ إبراهيم"، ص 48)، ("مصطفى الرّافعي"، ص 19)، ("أحلام مستغانمي"، ص 19).

وذُكرت، أيضا، أسماء ("تشي جيفارا"، ص 105)، ("نلسون مانديلا ومارتن لوثر كينج"، ص 52)، ("محمود درويش"، ص 9)، ("محمّد مهدي الجواهري"، ص 86)، ("محمود سامي البارودي"، ص 15)، (ابن خفاجة، ص 177).
كما ذُكرت أسماء لأغان لأمّ كلثوم مثل: ("يا مسهرني"، ص 12)، وأغان للمطرب الرّاحل عبد الحليم حافظ ("نبتدي منين الحكاية"، ص 95).

كما أظهر المؤلفان خبرةً ومعرفةً في الأماكن الجغرافيّة ووصفاها بدقةٍ متناهيةٍ حتّى كأنّ القارئ الذي يعرف المكان يتجوّل فيه بنفسه. فقد ذكرا في عكا سكّة الحديد، ووزارة الدّاخليّة، والسّوق، والميناء. وفي يافا جامع "حسن بيك"، والسّوق القديم، والشّاطئ.

وفي القدس جامع الصّخرة، والأقصى، ومستشفى "هداسا عين كارم"، وفي النّاصرة حي الصّفافرة، وكنيسة البشارة، وفي مدينة الخليل الحرم الإبراهيمي، وقبور الأنبياء، والسّوق، والمطاعم، وكذلك حيفا، وهرتسليّا، وسخنين، وأماكن أخرى.
وخلاصة القول فإنّ من يقوّم الرّواية ليقول: "إنّها رواية بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى".

موسى حجيرات

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى