السبت ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم رياض بيدس

داو بانغ وكي يو

(مشهد)

منذ ثلاثين عاما يعمل عاملا التنظيف فؤاد وامجد في تكنيس وتنظيف شارع "المرارة" الطويل النابض بالحياة ليلا . يلتقيان صباحا باكرا ، ثم يعملان على تنظيف ما لم تصله الماكنة . ذات يوم ، في ساعات الظهيرة ، عثر فؤاد على ورقة جريدة عربية . اتكأ على عصا مكنسته واخذ يتهجّى الحروف . اتسعت حدقتا عينيه دهشة . صاح مناديا امجد ، الذي كان في الطرف البعيد من الشارع. رفع امجد رأسه عن الرصيف ومسح عرقه وتأمل فؤاد المنفعل ، فحدّث نفسه لا بد ان هناك ما يستوجب هذا النداء المفرح . وللحظة ظن ان زميله عثر على جزدان مليء بالدولارات او على قطعة ذهبية محرزة ، فركض صوب زميله .

امجد (لاهثا) : ايش في ؟

فؤاد : لقيت شيئا يفرح القلب .

امجد (بفضول) : رزمة دولارات ؟ (وهو يتفحّص المكان) اغتنيت وقبرت الفقر ؟

فؤاد (ممسكا ورقة الجريدة بيده اليسرى ، مبتسما) : اكثر واهمّ .

امجد (يدور حوله) : ارني !

فؤاد (يرفع الورقة عاليا) : احلف انك ستفرح ؟

امجد (مستغربا) : اكيد افرح لك .

فؤاد : ليس لي فقط .

امجد (ينظر الى الورقة) : ولمن كمان ؟!

فؤاد : لنفسك وعائلتك وللجميع . الجميع .

امجد : الجميع ؟!

فؤاد : الجميع .

امجد (وهو ينظر الى الورقة) : يعني لقيت خارطة منجم ذهب ؟!

فؤاد : احسن .

امجد : أي خلص عاد ! شو لقيت ؟! أي هاي حزريّة ؟

فؤاد : السلام .

امجد (خائبا وممتعضا) : السلام ؟! ما هذه المزحة الثقيلة ؟!

فؤاد : السلام .

امجد : عن أي سلام تحكي ؟

فؤاد : كل العالم يحكي عن السلام ، ونحن من همومنا وانشغالاتنا وفقرنا لا نعرف شيئا .

امجد (غاضبا) : عن أي سلام تحكي ؟! امبارح شفت لقطة من نشرة الاخبار ، مولّعة .

فؤاد : السلام .

امجد : هل جننت ؟

فؤاد : انظر الى هذا الشارع كم وكيف يعيش حالة السلام التي اتحدّث عنها . خيّ ، ما احلى السلام . هل تشم رائحة السلام العابقة في المكان كرائحة الياسمين ؟

امجد (ينوي الذهاب) : لا اشم شيئا . علينا شغل كثير .

فؤاد (يستوقفه) : سأقرأ لك .

امجد (ينظر الى ورقة الجريدة) : هذه الورقة ؟!

فؤاد : تسوى كل كنوز الدنيا .

امجد (بقليل من الحماس) : اقرأ وريّحني .

فؤاد (يتهجّى) : "بعد .. ما .. ئة سنة من .. ال .. صر .. ع .. ال .. صرا .. ع .. ات .. وال .. حرو .. ب (يرفع نظره عن الجريدة فرحا ، ليرى وجه زميله الذي يفيض اهتماما وفرحا) .

امجد (بحماس) : اكمل ، اكمل !

فؤاد : ال .. د .. امية .. يح .. ل .. السلام .. ال .. شا .. مل .. وال .. ع ع .. اد .. ل .. في .. كل .. ال .. ا .. قا .. لي .. م .."

امجد : اقاليم ؟!

فؤاد : ما لك ؟!

امجد : هل تعرف ماذا يعني اقليم ؟

فؤاد (مفكرّا) : منطقة يعني .

امجد : يعني المناطق ؟

فؤاد : بسيطة ، المناطق .

امجد : متأكد ؟!

فؤاد : مليون بالميّة !

امجد (يرفع ذراعيه عاليا) : الله واكبر . احلى خبر(مستدركا) بس اللقطة التي شفتها امبارح في الاخبار تقول العكس .

فؤاد : يمكن شفت نشرة اخبار قديمة .

امجد (بتردد) : معقول ؟!

فؤاد : اكيد !

امجد (ذاهلا ، كمن يحكي مع نفسه) : معقول ، كل شيء معقول .

فؤاد : ايش رأيك ؟ واخيرا السلام صار .

امجد : صار .

فؤاد : تعال نقعد في فيّة الشجرة (يذهبان) .

امجد : خايف حدا يسرق المكنسة .

فؤاد : لتسرق !

امجد : ماذا تقول ؟! سأدفع انا ثمن المكنسة الجديدة .

فؤاد : لن تدفع شاقلا واحدا .

امجد : ايش ؟!

فؤاد : ما سمعته . في السلام يتغيّر كل شيء للافضل . حتى المكانس تصير احسن . ولنفرض ان المكنسة سرقت ، فانها ستتغيّر الى الاحسن بعد السلام . بعدين ، الا يستاهل هذا السلام ان تدفع ثمن مكنسة جديدة من جيبك ؟

امجد (بعد تفكير) : يستاهل ، بس ان كنت على باب بير بدّك تدبير .

فؤاد : يحل السلام بعد طول انتظار ، وفي وقت لا احد يتوقعه وتناقشني عن مكنستك ؟

امجد : هل استطيع الذهاب الى رأس الشارع واتناولها من هناك لتكون مفاجأة السلام اشلب ؟

فؤاد : اياك ان تتحرّك من مكانك !

امجد (بحدة) : ما هذه الاوامر ؟! منذ متى اتلقى اوامر منك ؟!

فؤاد : فرحة السلام . (بعد تفكير) هل اقوم واكسر مكنستي لكي ترتاح ؟

امجد : تحكي عن جد ؟!

فؤاد (يحاول القيام) : واكسر ابو ابوها كمان .

امجد (يمسك به) : خلص ، صدّقتك . بس خلّي عينك على مكنستي . يعني من مرة لمرة اضرب نظرة عليها .

فؤاد : اذا سرقت ، سأشتري لك مكنسة جديدة حلاوة السلام .

امجد : تحكي عن جد ؟!

فؤاد : دعنا من المكانس (يلّوح بالورقة) بشرّتك بالسلام وتفكّر بالمكنسة ؟! أي مخلوق انت ؟

امجد : من حرص ما قرص .

فؤاد : ولك شو كاين انت ؟! في السلام كل حياتنا تتغيّر الى الاحسن : معاشاتنا تزيد ، اولادنا يفرحون ، الزبالة تصير مثل الورود ، مكانسنا تغني .

امجد : عن جد ؟!

فؤاد : هذا السلام سيعمّر المنطقة وحياتنا بالخير . هذا الشارع سيصير مثل هوليوود .

امجد : هوليوود ؟! ليش ماله هذا الشارع ؟

فؤاد : الا ترى دوريات الشرطة تنتشر فيه في ليالي الزحمة والسهر آخر الجمعة ؟

امجد : فعلا .

فؤاد : هذه حالة حرب . في السلام كل شيء يتغيّر . الحياة تصبح اسهل والطف واجمل .

امجد : متأكد ؟!

فؤاد : هذه حقيقة يعرفها الجميع . حتى الشمس تتغيّر .

امجد : ايش ؟!

فؤاد : تصير اشعتها الطف واطيب وتمسح وجوهنا المتعبة بحنان .

امجد : شو بتحكي ؟

فؤاد : ويصير الشغل اهون ، وشاطيء البحر احلى بكثير من السابق .

امجد : الشمس تتغيّر ؟!

فؤاد : كل الدنيا .

امجد : وتشرق من الغرب وتغيب من الشرق ، ونشتغل ليلا ونحتفل في النهار ؟!

فؤاد : كل شيء ممكن .

امجد : ونأكل وجبة دسمة في المطعم مع العائلة مرة في الشهر ؟

فؤاد : كل اسبوع .

امجد : كل اسبوع ؟!

فؤاد : احسن وجبة . هل تحب فواكه البحر ؟

امجد: سمعت عنها .

فؤاد : في السلام هكذا يسير حالك : ترجع شابا ...

امجد : ارجع شابا ؟!

فؤاد (لهجة آمرة) : لا تقاطعني ! ترجع شابا ، واراك تسير مع زوجتك انكجي ...

امجد (مستغربا) : انكجي ؟!

فؤاد (غاضبا) : قلت لا تقاطعني !

امجد : طيب ، طيب (باستغراب) بس الانكجي للخطّاب والشباب . بعدين هاي الموضة كانت ايام زمان ؟

فؤاد (يصمت وامارات الغضب تبدو واضحة على وجهه) .

امجد : متأسف .

فؤاد : لا تقاطعني بالمرة . كل مرة تقاطعني فيها يخرب مشروع السلام ، تضرب مشروع السلام ، تحطّم السلام .

امجد (خائفا) : يخرب مشروع السلام مني انا ؟!

فؤاد (حانقا) : ايوه منك انت ، ومن امثالك النكدين الذين لا يعرفون كيف يفرحون بالسلام .

امجد : صدّقني انا فرح ، بس (يتوقف مترددا)

فؤاد : بس شو ؟!

امجد : صرنا قاطعين شوطا كبيرا في السلام .

فؤاد : اين الغلط ؟

امجد : الانكجي ومطعم السمك وشاطىء البحر ، بعد قليل ترسلني انا والعائلة الى القمر .

فؤاد (بجفاء) : اذا ما بدك تروح لمطعم السمك والبحر هذا حقك .

امجد : بدّي بدّي يا اخي ، بس صرنا نتسابق مع السلام .

فؤاد : يمكن السلام المعمول مش خرجك .

امجد :ايش يعني ؟!

فؤاد : يمكن السلام اللي صار ما يؤثر عليك ، وتبقى حالة سابقة للسلام . لا يتغيّر عليك أي شيء .

امجد : لم افهم شيئا .

فؤاد (بضجر) : يأخذونك الى المتحف لانك حالة غير صالحة لعيش افراح السلام .

امجد : ليش ؟!

فؤاد : ليش ؟! لانك بني آدم كلك نكد . في حياتي ما شفت واحد مثلك .

امجد : انا ؟!

فؤاد : انت . اعان الله عائلتك عليك .

امجد : ليش هذا التجريح ؟ (لا يجيب فؤاد) انا احب السلام .

فؤاد : تحب السلام ؟! ارجو الا يهرب منك عندما يلقاك .

امجد : انا ؟!

فؤاد : ايوه انت .

امجد : بالله عليك اكمل ما كنت تريد قوله .

فؤاد : كل شيء طار من رأسي .

امجد : اذكرّك .

فؤاد : مش مهم .

امجد : هل صرت انت ضد السلام ؟!

فؤاد (مجفلا) : انا ؟!

امجد : ايوه انت . اذن لماذا لا تريد ان تكمل لي حديثك عن السلام ؟

فؤاد : ذكرّني اين وصلنا ؟

امجد : امشي انا وزوجتي انكجي ...

فؤاد (يقاطعه بسرور) : ايوه ، صحيح . (مستدركا) ذاكرتك قوية . من اين لك هذه الذاكرة القوية ؟!

امجد : من الفرح .

فؤاد (مستعيدا حماسه) : كل مكان تذهب اليه انت وزوجتك تمشيان معا انكجي ، وغير شكل لا ينفع في حالة السلام . كنا نحكي عن فواكه البحر ؟ اراك تسير انت وزوجتك انكجي واولادك كلهم حولكما وتذهبون الى مطعم السمك لتناول فواكه البحر ، وبعدها الى التمشّي على شاطىء البحر .

امجد : كل هذا في نهار واحد ؟!

فؤاد : لم لا ؟!

امجد : فواكه بحر والتمشّي على الشاطيء وكل العائلة ؟!

فؤاد : ما المانع ؟!

امجد : الا يكفي تناول فواكه البحر والعودة بعدها الى البيت ؟!

فؤاد : طبعا ، يكفي .

امجد : اذن لليش البحر في الليل ؟!

فؤاد : أي بليد انت ! فكّر بالسبب .

امجد (بعد تفكير يصيح فرحا) : لنهضم ما اكلنا .

فؤاد : عفارم عليك .

امجد : يا سلام ما احلى الدنيا (كمن يستيقظ من حلم) اوعك يكون حدا سرق المكنسة .

فؤاد : سطلتني بمكنستك .

امجد : وماذا عن معاشاتنا ؟

فؤاد (ضاحكا) : تزيد .

امجد : تزيد ؟!

فؤاد : الضعف . كل الحياة تزيد للافضل . سلام عادل شامل يساوي زيادة في الامور الجيدة .

امجد : والله انك شاطر . كل عمرك مخبّأ بقشورك .

فؤاد : السلام يسقط كل القشور .

امجد : ايش يعني ؟

فؤاد : تصير البلاد ارقى ويعملون حتى على اعادة تكرير الزبالة . يستفيدون من كل شيء بدلا من الحروب .

امجد (لا يتمالك نفسه) : والله انك شاطر وفيلسوف . من اين لك كل هذا ؟

فؤاد (سعيدا) : من السلام .

امجد (مترددا) : بس بلكي لاننا مش متعوّدين على السلام يمكن نتضايق ؟

فؤاد : كم انت موسوس ومزعج . فرضا تغيّرت الدنيا مع السلام للافضل ، ولاننا تعوّدنا على ما هو سيء ، لا يعني ان نتضايق مما هو طيب .

امجد : متأكد ؟!

فؤاد : بعد شوية وقت على السلام نتعوّد على وجبات السلام الطيبة الشهية .

امجد : المثل يقول ، اللي مش متعوّد على البخور بتحترق ثيابه .

فؤاد (يسحب علبة دخانه من جيبه . يمسك بها وينظر اليها) : على سيرة البخور ، صار لازم نحتفل (يرمي علبة سجائره) انتهى زمن ال "تايم" . بس مالبورو !

امجد : مالبورو ؟!

فؤاد : بحياتك تطير على دكان ابو نجيب وتتناول علبة مالبورو .

امجد : مالبورو ؟! من سيدفع ؟!

فؤاد : قل له ان يسجلّها على الدفتر .

امجد (يقف) : متأكد ؟ ناوي تتكبّد ثمن علبة مالبورو ؟

فؤاد : وقل له ان يعطيك بطحة ويسكي .

امجد : ويسكي ؟! والشغل ؟

فؤاد : السلام يستأهل مثل هذا الاحتفال البسيط .

امجد : متأكد ؟

فؤاد : ذبحتني متأكد متاكد . سأذهب انا (يحاول الوقوف ، لكن امجد يسير) .

امجد (يعود بعد دقائق قليلة) : هاي علبة المالبورو .

فؤاد (مستفزا) : اين بطحة الويسكي ؟!

امجد : رفض ان يعطيني . ولما حدّثته اننا نريد ان نحتفل بالسلام قال لي يرحم بيّك .

فؤاد (منزعجا) : يرحم بيّك ؟! ابو نجيب الفقراوي ضد السلام ؟!

امجد : لا . بس قال ان السلام بعيد .

فؤاد : ايش هذا الحكي ؟! هل اخبرته عن الجريدة ؟

امجد : اخبرته ، فضحك حتى تمزّعت خاصرتاه .

فؤاد (يتناول الجريدة) : يجب ان افحمه (ينوي الذهاب) .

امجد (يستوقفه) : بس اقرأ المكتوب هناك كمان مرة لنتأكد .

فؤاد (مفنوسا) : اكمل البقية .

امجد (مصدوما) : توجد بقية ؟!

فؤاد : دائما هناك بقية . وصلنا عند السلام الشامل العادل ."حد .. ث هذا ال .. سلام .. بين اق .. ق .. ل .. يمي .. داو .. با .. نغ وك .. وكي يو" (يرفع رأسه عن الجريدة) هل تغيّرت بعض الاسماء في المنطقة في الفترة الاخيرة ، كما يحدث دائما ؟!

امجد : اكمل .

فؤاد : "ق .. بل 2500 سنة والى .. هذا .. ال .. يوم .. يع .. م السلام .. هذ .. ين .. الاق .. الاقل .. يمين ." (مضطربا) هل سمعت في نشرة من نشرات الاخبار انهم غيّروا اسماء المناطق هنا ؟!

امجد : لا .

فؤاد : متاكد ؟!

امجد : متأكد .

فؤاد : يعني كل السلام المكتوب عنه صار في بلاد اخرى ؟

امجد : ممكن .

فؤاد : وهنا ؟

امجد (ينظر الى علبة المالبورو) : في كل مكان الا هنا !

فؤاد : والعمل ؟

امجد : هل المنطقة المكتوب عنها بعيدة ؟

فؤاد : اسماء صعبة .

امجد : يعني اذا كانت قريبة نهاجر اليها مع عائلتينا ونعيش هناك السلام الحلو الشلبي الذي كنت تحكي عنه .

فؤاد : فكرة ممتازة . (مندهشا) من اين لك كل هذه الشطارة ؟

امجد : من رائحة السلام البعيدة .

فؤاد : ونقضي بقية حياتنا هناك .

امجد : يجب ان نحتفل بالسلام في .. في بلاد بان وو دو ، ولو بتدخين سيجارة مالبورو (يدخنان) والآن ايش لازم نعمل ؟

فؤاد (يقف) : الى ان نهاجر يجب ان نركض الى مكانسنا قبل ان تسرق (يركضان) .

لاو تسي

ما لم يذكر ولا في أي كتاب من الكتب ان الحكيم الصيني لاو تسي كان يدخّن غليونه مساء ويحلم بالسلام . وقبل ان يغفو كان يردد كلمة السلام عشرات المرات . وقيل انه مات وهو يحلم بالسلام .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى