الاثنين ٥ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم هاشم عبود الموسوي

دراسة تتعرض إلى وجهة نظر مخالفة

وردتني رسالة مطولة من صديق يشتغل في حقل الأدب ويمارس النقد الأدبي أحياناً، وقد نسب لي وانطلاقاً من قواعد النقد المأثور لديه (وكما أضاف في رسالته بأن الرأي الذي يحمله هو، موجود لدى معظم أساتذة الفكر الأكاديمي الذين يعرفهم)، قلتُ نسب إليّ بأنّي حمّلت الأثر المنقود وهو ديوان "لماذا تأخرتِ دهراً" للشاعر الكبير يحيي السماوي فوق ما يحمل من أبعاد ومدلولات وفوق ما يقصد إليه ويعيه كاتب الأثر نفسه، هذا ما جاءني منه بعد أن نشرتُ قبل فترة قصيرة مقالتي بعنوان "يحياويات السماوي ومدلولاتها السيميائية".

الصديق الذي أرسل الرسالة، أعتزّ به كثيراً، وربما حرصاً منه على عدم تعكير الجو مع الأستاذ الشاعر المُبدع يحيي السماوي، (وهو يُكنّ له كبير الاحترام)، لم يحاول نشر نقده على صفحات المواقع الإلكترونية، التي أتعاطى معها.. وربما يكون الجهد الذي بذله بتحليل ما كتبه مصيباً به.. وقد يمتلك آخرون نفس التوجّهات والانتقادات، ولكنّهم آثروا عدم توجيه مثل هذا النقد احتساباً لما يعتمل في نفسي من ردود فعل وعدم رضا بذلك.

ومن أجل إزالة اللبس والغموض بهذا الصدد، حتى لا يُسارع آخرون بعد الذي أكتبه اليوم، ويذهبوا إلى ما ذهب إليه صديقي الأديب ويرتكبوا نفس الخطأ.

وقبل كل شيء ذكرتُ في مقالتي ولا زلتُ أذكر بأنّي لستُ بناقدٍ أدبي.

وأما المعاناة التي يتكون منها مضمون النتاج الأدبي الذي كتبت عنه وأبعاده بغية تحديد هويتها، والكشف عن نوعيتها من حيث أنها تعبير عن اهتمامات إنسانية وتجسيد لموقف خاص يقفه الكاتب الفنان من قضايا الناس والحياة. وإذ يتهيأ لي أنني أدركت حقيقة تلك التجربة وانجلت أمامي هويتها عمدتُ إلى ما أعرف من مثيلاتها في عالم التجارب الفكرية، أو الفنية، النموذجية، فقمتُ بتقديمه، ثم حاولتُ المقابلة بين تجربة الأديب الخاصة في عمله الفني، وبين ما هو مأثور من صورها النموذجية العامة، لأقارنها بها وأُقيّمها في ضوء هذه المقابلة والموازنة.

وهكذا لا يكون عملي تحميلاً للأثر فوق ما يحمل، أو إرغامه على تحمّل وجهات نظر غريبة عن طبيعته، وليست من صلب العناصر المكونة له. بل يجب القول أنني أسعى في معالجة المحتوى إلى كشف هوية التجربة التي يحملها، وتفجير كوامنها إلى أقصى حدٍ يُمكن أن تبلغه عند الكاتب، لأبني لها في الوقت نفسه بناءها النموذجي الذي تنتسب إليه، إذا كان لها أنموذج سابق معروف، أو لأبني لها، إن كانت لا تندرج في سياق كامل مأثور، بناءً نموذجياً خاصاً بها بحسب ما تسعني الإمكانات وتتوافر لي السبل.

أما طريقة عرضي للأشكال التعبيرية فإنني لا أرى مُبرراً للتعريف بها سلفاً ما دمتُ لم ألحظ حولها تساؤلات تُذكر لذلك أضرب عنه صفحاً وأنتقل إلى الكلام على الديوان، موضوع هذا البحث.

والذي أرنو إليه، بكل جدية وصراحة، هو أن الإقبال على مطالعة قصائد يحيي السماوي في (لماذا تأخرتِ دهراً) وتقييمها استناداً إلى أحكام سائدة وآراء شائعة حول أدب صاحبها، أمرٌ يحمل معه كثيراً من الاعتباطية، وهو إن دلّ، عند القارئ والناقد الدارس، على شيء، فإنما يدل على صفات سلبية في التفكير، تنفي عن صاحبه ميزة الحرية والدينامية، وتصمه بأبشع ما يُصاب به الفكر من عوارض التبعية والجمود. وهو أمرٌ يتنافى هنا، أمام شعر يحيي السماوي في هذه المجموعة، مع أبسط ظواهر الموضوعية. لأن يحيي السماوي في (لماذا تأخرت دهراً) يختلف في نظري إلى حدٍ بعيد عما كان عليه في قصائد عهده السابق.

أقول هذا وأنا أعني ما أقول ولستُ أُرسل الكلام لأي غرضٍ من أغراض التجامل الشرقي وغيره، أو على سبيل افتراض نظري ليس ما يسوغه في شعر يحيي السماوي اليوم، وليس له في هذا الشعر ما يستند إليه من خصائص تتجسد بعمقٍ ووضوح في تجربة الشاعر من حيث محتواها والشكل معاً.

فمن حيث المحتوى ليست كثيرةً في رأيي، الدواوين التي مثل (لماذا تأخرت دهراً) ترتفع في أدبنا العربي الحديث، إلى مستوى المعاناة الفلسفية، ومناخات التحسّس بمأساوية الوجود الإنساني.

والمعروف أن المعاناة المصيرية كانت وما تزال وقفاً على أرباب الفكر الديني والفلسفي وحدهما في معظم الأحوال، من غير أن يكون للفن والشعر فيها مشاركة بارزة إلا نادراً، وبصورةٍ جزئية وهامشية دائماً باستثناء بعض آثار أعلام الشعر العالمي الكبار قديماً وحديثاً.

والحقيقة أن من يُطالع هذا الديوان بتريثٍ وإمعان، وبدون أحكام مُسبقة، يُفاجأ إذ يجد نفسه، من أول الديوان إلى آخره، أمام أبواب وقصائد تتعدد أغراضها وأجواؤها وتتنوع، لكنها جميعاً في النهاية تتركّز في مسألة أساسية واحدة تنتظم في سلكها، وتنصهر في إطارها العام مجمل الموضوعات لتؤلف معاً بناءً شعرياً متكاملاً، يتناول الملحمة الكبرى للوجود الإنساني كله، أعني بها ملحمة الفردوس الضائع والسعادة المفقودة. وهذا الفردوس الضائع يتخذ عند شكل العهد الطفولي السعيد الذي انتزعه الزمن من يدي الشاعر، لكنه لم يستطع أن ينتزع ذكراه من قلبه ووجدانه، ولم يستطع أن يقضي على عاطفة الحنين الدائم إلى ذلك الفردوس والأمل الخافت باستعادته أو بقدرته على بناء عالمٍ سعيد على صورته ومثاله. غير أن يحيي السماوي لا يزال يقف من هذه المعاناة المصيرية الشاملة موقف المتحسس لأبعادها، المتلمّس ببطءٍ وبكثيرٍ من اليأس درباً للنجاة ومنفذاً للخلاص. إنّه لا يزال فريسة الضياع يتخبّط في ظلمات يأسه الخانق ومأساته المريرة، يبحث عن ضوءٍ هادٍ فيلمحه حيناً في عيني حبيبة، ويلحظه أحياناً منبعثاً من داخل ذاته، من حبه للحياة ومن إيمانه الغائم بقدرته، قدرة الإنسان، على الصراع والنصر، إن لم يكن من أجل العثور على ضالته فمن أجل ألا يفقد الإنسان بالأقل شعلة الحياة، ويصمد أمام قدره صمود الصياد العجوز في رواية أرنست همنغواي الشهيرة (الشيخ والبحر).

ولكي تتضح خطوط هذه التجربة الوجودية التي ألمحها مُجسّدة بفنٍ في "لماذا تأخرت دهراً" وتتخذ حجمها الحقيقي بالنسبة للشاعر ولقرائه في نطاق ما هو مأثور ومتداول في الفكر الفلسفي النظري عموماً، وفي مواقف الناس العملية في الحياة، يحسن بنا هنا إلقاء نظرة موجزة على الجوانب المهمة لهذه القضية واتجاهاتها.

لا ريب أن واقع الوجود الإنساني في إطاره الكوني، وفي الإطار المجتمعي بصورةٍ خاصة، كان منذ البدء وما يزال على الدوام مصدر بؤس وألم، وشقاءٍ نفسي وفكري مرير. كما كان هذا الواقع المأساوي هو المحور الأول والأساسي والدائم لنشاط العقل الفلسفي، ولكل نشاطٍ إنساني، روحي أو فني، بغية استجلاء كنهه، والكشف عن أسبابه، وإيجاد الطرق المؤدية إلى الخلاص من كابوسه. فتعددت في ذلك الفلسفات وتشعّبت الآراء والحلول.

ولو نحن أمعنّا النظر في مختلف المواقف الفكرية، الدينية والفلسفية، التي وقفتها البشرية حيال واقعها الوجودي البائس، منذ أقدم العصور حتى اليوم، لاستطعنا أن نُميّز فيها ثلاثة مواقف رئيسية:

 الأول: موقف غيبي تشترك فيه الديانات الموحدة الثلاث، وهو يرد أسباب الشقاء في الواقع البشري إلى الخطيئة الأصلية، وعصيان آدم وحواء أوامر الخالق، مما استوجب طردهما من الفردوس، واستتبع هيامهما في الأرض بحثاً عن الخبز والحياة بعرق الجبين وبالآلام والدموع. أما طريق الخلاص فقد خطّته التعاليم والوصايا، وجعلته طريقاً إلى الفردوس الدائم والنعيم الأبدي في الحياة الأخرى أيضاً.

 الثاني: موقف يخرج عن خط الديانات الموحدة ومنطلقها الغيبي في التعليل ورسم طريق الخلاص ليواجه الضياع والتمزّق والبؤس الأرضي بأنواع من التمرد السلبي ترفض جميعها فيه معطيات هذا الواقع، وتعتبرها معطيات نهائية ثابتة فتنصرف عنه كافرة به أحياناً لتبحث عن بذور السعادة وغرسها في داخل الذات الإنسانية، عن طريق التكيف النفسي والتروّض على الإحساس بها إحساساً فردياً خاصاً، بدلاً من السعي إلى تغيير هذا الواقع العام وتهديمه لإقامة مجتمع سعيد على أنقاضه، يستطيع أن ينعم الناس، جميع الناس بلا استثناء، في ظلّه بالهناء المفقود والسعادة الضائعة. في هذا الخط تأتي نزعات الصوفية القائمة على غير الأسس الدينية التوحيدية، ومذاهب اليوغا، والاتجاهات العبثية المعاصرة، وسائر المتمردين على قدرهم المأساوي والراغبين في استرجاع الفردوس المفقود الضائع عن طريق الهروب إلى ذواتهم والتقوقع في داخلها فراراً من أنياب البؤس في الخارج.

 الثالث: هو موقف التمرد الإيجابي، موقف الثورة على كل ما يتمثّل فيه بؤس الواقع الإنساني العام من نظم وعلاقات وقيم تتسبب في إشقاء البشر وفي تمزّقهم وضياعهم، وتغييرها بما يضمن إشاعة العدل والخير والحب على هذه الأرض، ويُعيد للإنسان جوهره المسلوب وفردوسه الضائع. في هذا الموقف نجد جميع قادة الثورات الاجتماعية وجميع الثائرين على النظم في العالم على اختلاف ميولهم وعقائدهم.

من هذا العرض السريع لابد أن يتضح لكل من قرأ (لماذا تأخرت دهراً) أن الشاعر يُعاني المشكلة في الأساس معاناة مبهمة إلى حدٍ بعيد، ولكنه يعيش في أجوائها العامة ولا ريب. وذلك يعني بالنسبة لنا أنّه قد ارتفع في معاناته عن الاهتمام بالمواضيع العادية، والتفاصيل الجزئية والهامشية إلى الاهتمام بالمواضيع الكلية ومعالجة قضايا مصيرية عامة تندرج تحتها تلك الجزئيات وتؤلف معها كلاً فنياً واحداً. بحيث يُصبح الشعر هكذا خلاصة موقف رؤيوي متكامل بدلاً من أن يكون مجموعة إحساسات وصورٍ لمشاهد مستقلة مبعثرة لا رابط بينها ولا تلاحم.

ولابد أن يتضح كذلك أن الشاعر مُنتمٍ نوعاً ما من حيث يدري أو لا يدري إلى فصيلة المتمردين الذين تهولهم مأساوية الحياة فيعانون من جرائها التمزق والألم والحزن. وهو يحاول أن يسترد فردوس طفولته الضائع بتذكّر تلك السعادة الهاربة من حينٍ إلى حين، أو باللجوء إلى عيني حبيبة حيناً آخر. بحيث يُمسي التذكّر عنده، والعيون النسائية المضيئة هما باب الخلاص في معظم الأحوال. لكن هول المأساة لا يلبث دائماً أن يسدّ بوجهه هذا المنفذ ويتركه فريسة المرارة والقلق. وبهذا يخرج يحيى السماوي عن خط التمرّد السلبي لأنّه لم يستطع أن يخلق السعادة في داخله. بل يحاول دائماً أن يكون ثورياً إيجابياً في التغيير، وتخونه النظرة البعيدة إلى الأشياء والرؤيا الإيجابية الكاملة لبناء المجتمع السعيد فيهوي من جديد في سويدائه وبؤسه. ولا ندري إذا كان وهو ينتقل من خط الضياع إلى خط التمرّد الإيجابي الثوري فيُعطينا شعراً أقل سواداً وتبرّماً، وأكثر ألقاً وفرحاً وبطولةً. أو على الأقل يُصمّم على البقاء في خطٍ واحد واضح فيُبدع فيه كما أراه. على أنّي ألمح عنده ههنا وهناك تصميماً على الانتقال من السلبية الغامضة إلى الإيجابية والوضوح لا سيما في قصيدة (مقاطع من قصيدة ضائعة):

سأُعيد ترتيب الأماني

أولاً: فأسٌ أشج به صخور الليل ِ

علّ الفجر ينبثقُ

ليُطلّ فوق عراقنا

والآخر: القلقُ ُ

نُرديه

حين الجمعُ يتّفق ُ

أن السفين مصيره الغرق ُ

إن لم توحّد شملها الفِرق ُ

أليس ذلك، بغضّ النظر عن عوالق النثرية في أسلوبه الفني هنا، يعني بشكلٍ أو بآخر تمرداً على واقعٍ يائس، وإيماناً بقدرة الشعر على التغيير والخلاص؟

ثم أليس قوله في قصيدة (كامل):

نم يا صديقي هانئاً

واصبحْ على جنات ربّك

أيها الموعود بالفردوس

منذ اخترت

درب الذائدين عن المحبة

شاهراً قنديلك الصوفي

في وجه الظلام

ووجه أعداء الطفولة والنخيلْ

نم يا صديقي

آن لي أن أطفئ المصباح

أدري أن جفنك مُتعبٌ

أزِفَ الوداع

إلى اللقاء غداً على شرفات

مطمحك الجميل.

أليس في هذا القول ما ينبئ عن تصميم الشاعر على الانتقال من مرحلة السلب والغموض إلى مرحلة الإيجاب والثورية؟

ونورد بالمناسبة هنا أبياتاً تختصر الخطوط الكبرى لمحتوى تجربته المصيرية الخاصة التي أشرتُ إليها سابقاً حول الفردوس الطفولي الضائع وسعادته المفقودة وهي أبيات مقتطفة من قصيدته (أين شطآنكِ مني؟):

جئتكِ الليلة طفلاً

شاخ

من قبل الفطامْ

ضائعاً أبحث عني

بين أنقاضي

وما خلف أمسي من ركامْ

أين فردوسكِ مني ؟

دورقي تملأه الريحُ

وكأسي فاض صمتاً

والربابات حُطامْ

لا الندى يلثم أعشابي

ولا يُغوي فراشات صباحي

أقاحٍ وخُزامْ

عازفاً عن عسلٍ اللثمِ

وتُفاح الكلامْ.

وما دمنا في معرض الشعر فلنقرأ من غزله أبياتاً يتهيأ له فيها أنه وجد في عيني حبيبته فردوسه المنشود. وعينا الحبيبة، بل العيون النسائية إجمالاً، تتخذ من هنا عند يحيى السماوي مغزى رمزياً خاصاً أبعد بكثير مما يبدو لها في الظاهر وأعمق مما تعودناه في الشعر الغزلي على العموم. لكن واحة العيون هذه، على روائها وجمالها، ليست هي الينبوع الذي يروي ظمأه اللانهائي إلى السعادة، لذا تراه لا يتوقف عندها طويلاً، ولا ينثني عن سعيه وراء الهناء الكلي المفقود، فلا تلبث الدنيا أن تكفهرّ في وجهه، وتنطفئ عنده المنارات، وتُظلم الحياة من جديد.

أما عن واحة العيون فيقول:

عيناكِ محراب وخمّارة

شرقية سُقاتها جمع جانْ

وجدتُ نفسي ضائعاً فيهما

أسكرُ آناً وأُصلّي بآناْ

كيف التقينا؟ أين يا حلوتي؟

ضعتُ أنا وضاع حتى المكانْ

أليس عجباً يلتقي ساحلانْ

بينهما أرضٌ وبحرٌ وثانْ؟

تلاقيا طفلين في غفلةٍ

من مِدية العذل وفأس الزمان

تُصيخ عيناي إلى بوحها

غمزاً إذا تحدّث الحاجبان

إنْ ضحكتْ دثّرني صوتها

ببردة أشذى من الأقحوان

فرّ فمي مني إلى ثغرها

فراشةً هوت على شمعدانْ

وهاهو ذا بعدئذٍ تسودّ الرؤيا في عينيه فيقول:

الكل أعمى في النهارْ

ما دام أن الصبح كهفٌ موصدٌ

والشمس غادرتِ المدى

خجلاً

من المتناطحين على فُتاتِ نطيحة

والسحت من زقوم دولارٍ

و"كرسي" و"قار"

والواقفين على رصيف الانتظارْ

أملاً بـ"سجيل" تدكّ به السماءْ

خيول "هولاكو الجديد"

وموقدي نار الجحيم الطائفي

وبائعي – في السر – بستان المدينة

للدهاقنة الكبارْ.

ويطول بي المقام فعلاً إن أنا رحتُ أستعرض مختلف قصائد الديوان لأُظهر ما تنطوي عليه من مظاهر التجربة المصيرية وعناصرها عند يحيى السماوي وجذور معاناته الأليمة فيما أسميته ملحمة الفردوس الضائع. لكن تجدر الإشارة هنا إلى شيءٍ مهم هو شمول هذه التجربة قصائد الديوان كلها دون استثناء. مما يجعل لشعره الرؤيا ذات الآفاق الواسعة والأبعاد، والمرتكزة في الوقت ذاته إلى نظرة متماسكة وموقف موحّد من الحياة بغضّ الطرف عن اتجاه هذا الموقف، وقد أُشير هنا إلى اضطراب الشاعر وترجّحه بين اليأس والرجاء، بين الحزن الطويل وبين هنيهات الفرح القليلة العابرة. لأنها سنين حزنٍ قاحلة يحسبها ويعيشها بكل مشاعره.

وعلى كل حال لستُ أرى قيمة هذه المجموعة كامنة في ارتفاع محتواها وأبعاده ومدلولاته إلى مستوى التجربة الفلسفية والمعاناة المصيرية فحسب، ولا أحسب أن قيمتها تكمن كذلك في تركيز مضمونها على قضيةٍ واحدة أساسية ينطلق منها الشاعر ويعود إليها مفصلاً ومنوعاً في التفصيل في إطار الوحدة والتماسك. بل أرى، إلى ذلك أيضاً، أن معظم قصائد (لماذا تأخرتِ دهراً؟) تمتاز بتقنية أسلوبية ناصعة، بالرغم من تفاوتها الفني أحياناً، تضع الديوان في سياق الخط الشعري الحديث. فالشكل التعبيري عند يحيى السماوي قد تخلّى إلى حدٍ بعيد عن النزعة التقريرية المسطّحة التي من خصائصها نقل الفكرة نقلاً نثرياً مباشراً، ينتفي معه في الأدب جوهر الفنية في الشعر الذي هو جوهر رؤيوي قبل كل شيء. وهذه مسألة أساسية، وخاصة أولية من خصائص الإبداع الشعري الحديث وعاها يحيى السماوي وعياً كافياً على ما يبدو، وهو يمارسها في (لماذا تأخرت دهراً؟) على درجتين: أولى وثانية. وأعني بالأولى تحويل المعاني والأفكار التفصيلية في القصيدة إلى لوحات من الصور والرموز والمعادلات التشبيهية والمجازية التي توحي بتلك المعاني إيحاء، وتومئ إليها بأشكال فنية جمالية متنوعة. وبعض قصائد (لماذا تأخرتِ دهراً؟) حاشدة بالدلالات التصويرية الموحية، كما أن بعضها لا يزال يفتقر إلى مزيدٍ من كثافة الصور والرموز، كمعظم قصائده الغزلية مثلاً. ولستُ بحاجة هنا إلى إيراد الشواهد على ما أقول فبإمكان القارئ أن يُلاحظ ذلك بنفسه دون عناء. وثمة فوق هذه الدرجة الأولى من التقنية الأسلوبية التصويرية الحديثة التي يتحول إليها شعر يحيى السماوي بشكلٍ متزايد، درجة ثانية من شأنها على العموم أن تُكثّف الرمز الفني في الشعر وترتفع به إلى أرقى ذرى الرؤيوية، عنيت بها الأسطورة كوسيلة فنية يُقضى بها على رواسب النثرية التي قد تلحق بالقصيدة من جراء تناول الموضوع بطريقة تقليدية مباشرة، فضلاً عما تُضفيه الأسطورة على الشعر من أجواء ملحمية تتكثّف بها مدلولات الرمز وأبعاده. ومثالنا على ذلك في شعر يحيى السماوي ؟؟؟؟ وهي تشخيص خرافي لطيف عهد الطفولة وفردوس سعادتها الضائع. وكذلك القول في (؟؟؟) فهي حكاية حوار مع الشمس يرمز فيه الشاعر إلى خلاصة تجربته، أي إلى ملحمة فردوسه المفقود كلها، ومعاناته الضياع والغربة والتمزّق والرجاء بالخلاص والفرح. لكن استعمال الشاعر للأسطورة لا يزال في معظم الأحوال جزئياً، لا يشمل القصيدة بمجملها، إنما يتخللها على شكل لوحات ضمنية قصيرة النفس ولهذا السبب تظل الأسطورة في شعره ناقصة البناء، بل هي أجزاء مبعثرة لا تنصهر في بناء موحد متكامل.

وأخيراً يتهيأ لي أن السؤال المرتسم الآن في أذهان القراء هو التالي: هل يعي يحيى السماوي كل هذه الأمور التي ذكرتها حول (لماذا تأخرتِ دهراً؟)! والحق أن السؤال المشار إليه طالما طرحه القراء على النقاد ودارسي الأدب والفن في كل زمانٍ ومكان. وهو يضعنا وجهاً لوجه أمام مسألة أخرى مستقلة عما نحن في سبيله تمام الاستقلال وليس ههنا في أي حالٍ مجال تفصيلها أعني بها مسألة العلاقة التفاعلية بين الفكر النقدي والإبداع الفني. حسبي الآن منها القول بأن ليس من الضرورة أن يعي الفنان، لكي يُنتج ويُبدع، النظرية الفنية لعمله. فقد يتفق أن يُجسّد الفنان في وجدانه من حيث لا يعلم وبفعل المصادفة وتراكم التجربة، الأصول النظرية لعملٍ ما، لاتجاهٍ مُعيّن، أو لقضيةٍ من القضايا بلا وعيه ودون إدراكٍ مباشر منه. وهذا ما ذكره شاعرنا الكبير يحيى السماوي في تعليقه على هذه الدراسة في صحيفة المثقف. ولا ريب في أن المعرفة النظرية الواعية لعملٍ فني هي بالنسبة للفنان ضمانة كبرى للإبداع الكامل والخلق الرفيع. ومن هنا فإن كلامي عن شعر يحيى السماوي يكون كشفاً لصاحبه عما هو بحاجة إلى معرفته إذا كان يجهل هذه الأمور. ويكون له بمثابة توضيح ونقاش إذا كان يعرفه ويعيه. وفي الحالين إني متيقن من أن مادة عملي موجودة أصلاً في قصائده ولم أفعل سوى أنني حاولتُ اقتناصها وجلاءها ما أمكن، ووضع عناصرها الأساسية في سياق ما هو مأثور منها في عالم الفن والفكر، رابطاً بين الأجزاء، مقابلاً بينها وبين نماذجها المُثلى، أو ما يتراءى لي أنّه كذلك، راجياً أن أكون قد أسهمتُ في إمداد الشاعر بصناعة فكرية مادتها الخام من ديوانه، وأسهمت في مساعدة القارئ على التوغّل بعيداً في أرض الشعر وهي أرض، كما لا يخفى، متشابكة الدروب معقدة المسالك.ولصديقي العزيز باعث رسالته إلي، أقول له أتمنى أن أكون قد وفقت بالإجابة ، وأن يأخذ بنظر الإعتبار حقيقة أنّ تعدد الرؤى حول نصّ ٍما نصّ ما دليل على عافية النص ، وليتقبل مني كل الود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى