الخميس ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
بقلم رشيد سكري

رَوَاء آيت عَبُو الحبيبة

كم كان وجهُكَ وضَّاءا أيُّها الغـُلام!

اِحفر في التراب سَمْـتا، يُذهب بك إلى عوالمَ جديدةٍ، عوالمُ تعنُّ لك مقاماتـُها البهيّة، شبقيـَّة و قرمزية. لا تبالي فإنكَ قطعةٌ من رُخام يُكتب عليه شواهدُ لأسماء موتى، ذهبوا ولم يعودوا أبدا.

هذه قريتي... هذه بلدتي...

بعيدة و ضريحُها أبيضُ، و شواهدُ قبور... كلها تعرفني. فعندما دفنا ذات الرِّجل المعقوفة، ذات مساء أغبر، قرأ الفقيه ما تيسر من القرآن، ترحُّما على الجسد الطاهر المغسول بالثلج والبرد.
لقد كنتَ، أيُّها الجسدُ، ملفوفا في خرقة بيضاءَ رغـَّاءةٍ كزبد البحر، ومُسجَّى في صحن الدار، تحت عريش ظلة شجرة الكليبتوس الفارعة. كنتَ مشدودا، جهة الرأس وعند أخماص الأقدام، بأليافٍ عهنيّة حريريَّة، تتأهب لسفر في عتـْمة أبدية. وكان من حولك نفر غارق في بكاء و عويل ولطم خدود. ينتفضون حولك، فتتساقط أوراقهم، وتتعَجْرد في مهب ريح مالحة، تسكن خياشيمَ.

في منتصف حكاية العمر، كانت ذات الرِّجل المعقوفة، تخرج من تحت الخيمة الوبريّة ذات الفرو القطني، فتحمل على أكتافها أخياشا من التبن و البتـُّولة. تقطع بها مساربَ متعرجةٍ، صاعدة نجفا في انبساطه العشبي. فكلما لامست رجلاها ندى الأنداء، قـُطيرات مطرية تشبه حبات الكرز، تتذكر خوار ذات القوائم المحجَّلة بعيونها المَهـَوية الكبيرة الواسعة، وهي تتلمظ بلسانها الطـّويل الخشن رَواء ماء آيت عبو الحبيبة. تقول على لسانها، وهي تنظر إلى الماء المترقرق الزُلال:

ـ كنتُ آخرَ عنقود عنب، أكله العـُقاب الكاسر. سُلالة عمرت لما يزيد عن مائتي عام بين ضريح سيدي أحمد البوهالي، المعلق في السَّماء كتميمة بيضاء، ومقبرة سيدي أحمد التفاوتي، التي لا تكف عن ملء حفرها بأجداث رجال صدقوا ما عاهدوا به أنفسهم.

ـ كنت أحملُ فانوسا عندما يَجن الظلام، ويرخي الليل سدوله المعـْتمة على البيوت الواطئة وعلى الناس في بلدتي... أنزل درجا طينيا، وفي يدي إرْدبَ شعير، كي أنصتَ إلى سمفونيَّة قضم في مباءة غوراءَ في قلب هذه الأرض السخية. لقد كانت بالأمس القريب مَدْفنة لجند غزاة، رُفات عظام نخرها السُّوس، فأصبحت ملساءَ كقطعة من رخام أبيضَ، وهي تشهد على استبسال شرس لم يهدأ له عرين.

آيت عبو الحبيبة...

إن في القلب غصة و حسرة و ألم، ومتاهات و أحلام مكسرة، وشظايا مرايا هي الأخرى منكسرة، لا تعكس سوى وجوها ندباءَ، منحوتة بأظافر الموتى و الشهداء. فكلما يممت وجهي شطر الشمال، أحس بالغربة والشوق و الحنين، لجدي الأكبر الذي يتمسح بترابك المسحوق كالطحين. ويغرف بيديه الراعشتين رَوَاء ماء، لطالما سال في العروق كالدم القاني. إن في هذا الجسد الغضّ الطـّاهر حيوات انكتبت لما سيأتي من الزمن الآفل نجمُه منذ الأزل. وعلى هذه الأتان الشهباء كان الجد الأكبر يسافر من أجل بيع و شراء، عناقيدُ عنب ملفوفة في أوراق خشنة الملمس تشبه راحة اليد، تتدلى من عيون دقيقة لأخياش، كانت تستعمل في تلفيف البنادق والبارود.

أيها الرَّاقدون، أنتم السَّابقون و نحن اللاحقون...

كان اللعابُ، يسيل بفيض و غزارة، من فم أثرمَ. وبأصابعَ عجْـراءَ مشقوقةٍ، كان الجد يحث الأتان على المشي السريع، حتى لا تدركه أطياف الظهيرة بعطرها السَّاخن، عائدا كما تعود أسراب الطيور المهاجرة إلى وُكـُنَاتها، ويمضي نحو الزمن العابر الغابر... في قرية دفنت الموتى و الشهداء في ليلة قمراءَ، برفقة البارود و الظلال و عرائش الكروم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى