السبت ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم تركي بني خالد

سجون.. و شجون!

أبعد الله عنكم وعنا حياة السجون.. لكني أظن أننا جميعاً، شئنا أم أبينا نعيش سجوناً بشكل أو بآخر.. فالسجون ليست هي فقط تلك التي تعرف بالجدران الإسمنتية أو القضبان الحديدية.. لكن الكثيرين يعيشون رهائن و محابيس لأشياء كثيرة.. فالذين يهربون من الحياة هم سجناء حتماً.. يخافون مواجهة الحياة.. وتحدياتها.. فيتراجعون.. ويتقوقعون داخل سجون من صنع أنفسهم.

كما أننا جميعاً سجناء في أجسامنا.. نحن جميعنا سجناء أو أسرى أو معتقلون أو رهائن نقبع داخل حدود ذواتنا.. جميعنا محشورون داخل قضبان من الكالسيوم الخالص.. أوَليس الهيكل العظمي بعظامه المتشعبة في كل اتجاه بسجن كبير.. ألا يوجد داخلنا "قفص" صدري.. يضم أجزاء عزيزة علينا.. أهمها قلوبنا من بين أشياء أخرى.. القلب نفسه عبارة عن أربع "حجرات".. زنازين.. غرف مغلقة ومعتمة.. ثم ندعي أننا نملك قلوباً نكره بها.. و نعشق بها.. جميع أعضائنا وأوردتنا وأجهزتنا ليست إلا أنابيب هنا وهناك.. وحجرات هنا وهناك.. نعيش جميعاً تحت رحمة أي منها..

نأتي إلى العالم من أرحام ليست أكثر من سجون.. تم إيدعنا فيها لمدة لا تقل عن تسعة شهور أو أقل في حالة الولادة المبكرة.. نولد ونحن في صراخ وزعيق.. نوضع في أقفاص تسمى حاضنات إذا كنا خداجاً.. ثم في أقفاص أخرى يسمونها تخوتاً أو أسرة (جمع سرير).. وفي كثير من الأحوال يتم تدريبنا على الانضباط منذ البداية من خلال ربطنا بواسطة شد الأحزمة على أجسامنا.. لا نجد غير الصراخ لنقول للعالم أي شيء.. نخرج إلى الحياة.. يقدمون لنا اسماً يختارونه هم.. تفاؤلاً أو تشاؤماً لا فرق.. لكن لكل اسم إيحاءات خاصة.. ثم نبدأ العيش داخل أسمائنا.. و نكون ما يسمى بالذات..

في طفولتنا نحن سجناء بالكامل.. لا حول لنا و لا قوة.. نعتمد على الآخرين في كل شيء.. ومن أجل ذلك يجب أن نتعلم قول كلمة "نعم".... ومن الطبيعي أن تكون لنا أسرة.. نعيش بداخلها - أي سجن معنوي- إضافة إلى السجن المادي وهو البيت.. جدران من حولنا في كل مكان.. وغرف.. وحجرات.. وأشخاص يحيطون بنا.. الأسرة هي سجننا الأول، تفرض علينا مبادئها.. قواعدها.. مسموح.. وممنوع.. خطأ.. وصواب.. عيب.. و.. و.. اعمل كذا.. ولا تعمل كذا.. سلسلة لا تنتهي من الأوامر والنواهي.. حزمة من أدوات التأطير.. تتشكل ذواتنا وتنسج شخصياتنا من خلالها..

في مؤسسة الأسرة يعلموننا الثقافة، والثقافة هي الأخرى سجن يقولب الطرق التي نفكر بها، فنتحول إلى أدوات مسخرة للتفكير حسب "القواعد" والقضبان الاجتماعية. في الثقافة الأسرية تتشكل مجموعة من العادات والتقاليد وقائمة طويلة من الممنوعات والمسموحات وما هذه وتلك غير قوالب ننصهر جميعاً داخلها دون أن ندري فيتحول أسلوب حياتنا بأكمله حسب تلك القوالب في شكلها وحجمها وسعتها ومدى هشاشتها أو قدرتها على المقاومة.

وفي ثنايا الأسرة نتعلم اللغة.. وهل هناك أعظم من سجن اللغة، فاللغة الأم هي أيضاً ذات قواعد لا يسهل كسرها. إن طبيعة القواعد اللغوية من نحو وصرف ودلالة وأسلوبيات هي التي تصنع قدرتنا على التفكير وبالتالي نعيش داخل أسوار اللغة التي نكتسبها من أفراد أسرتنا ومعها نكبر وتبقى الأسوار هي هي.

يرسلوننا إلى المدرسة وربما إلى الروضة وما هذه إلا سجون هي الأخرى، في شكلها وتصميمها ومحتوى الخبرات التي تقدمها لنزلائها. نعم هي سجون تلك التي يقذف الأولاد والبنات إلى داخل ساحاتها وزنازينها لساعات طويلة كل يوم بعد أن تقفل البوابات التي يحرسها بشر أقوياء، تغلق الأبواب خاف الأطفال الأبرياء.. ولا أحد يدري ماذا يصنع أولئك السجانون وراء القضبان.. في المدرسة سجون وشجون اسألوا عنها الذين تعرضوا فيها للضرب والألم والتعنيف والتهديد، كل ذلك تحت شعار التعليم.. فلقد قيل: التكرار يعلم الحمار، و يتم تدريب الأطفال الصغار الأبرياء على مقولة يرددونها ببلاهة واضحة دون إدراك معانيها:
دخلت الصف أتعلم أبداً أبداً ما أتكلم

بل إن معظمنا يذكر تلك العبارات التي استعان بها "المعلمون" بقائمة طويلة من أسماء المملكة الحيوانية من أجب نعت الطلبة الذين كانوا يبدون بعض التقصير.. والعصا لمن عصا.. وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.. لماذا؟ لا أحد يدري.. وهل نستطيع أن ننسى صورة المدير السجان ذي الكرش التقليدي وقد فقد جزءاً كبيراً من شعر رأسه، يمسك بعصا في يده تكاد تلقف كل شيء يمر بطريقها.. والويل لمن تم اكتشافه يمشي في أحد الممرات..

نكبر مع الأيام ونبقى في سجن البيت والأسرة ولا حول لنا ولا قوة ما دمنا في حضن الأسرة.. نراهق.. نبحث عن الحياة.. نتطلع إلى العالم من حولنا.. والكل يرقب تصرفاتنا كي لا نخرج عن المألوف.. وليس المألوف إلا سجناً.. نتحرر من سجن المدرسة بعد اثني عشر عاماً من الأشغال الشاقة.. ونوشك على الانطلاق إلى عالم جديد.. فيه طعم من الحرية.. فيصطحبنا الآباء و الأمهات ومن هم أولياء أمورنا إلى سجن آخر و هو الجامعة.. مزيد من الأبواب المغلقة.. ومزيد من التهديد بالرسوب.. والويل والثبور لمن يقول لا.. الويل لمن يملك رأياً جريئاً.. والعار لمن يفكر بتحدي ما يقوله "الأساتذة"، فهم نوا فير المعرفة بلا شك.. ومن علمني حرفاً.. كنت له عبداً.. هكذا إذن.. عبودية أخرى ندفعها ثمناً لحرف تعلمناه! أي صفقة أكثر خسراناً من هذه..
تذهب إلى الجامعة.. وتعود إلى أحضان البيت الدافئة.. تحمينا من المجهول.. وعندما توشك على التخرج.. علّك ترى الحياة أو شيئاً منها.. تكتشف أنه لا بدّ لك من سجن آخر تُقذف إليه.. سجن العمل والروتين الذي لا ينقطع.. سجن من النفاق للمدير.. والخوف من مساعد المدير.. ولا تستطيع أن تذهب إلى الحمام بدون "إذن مغادرة" و إلا سيقطع من راتبك الشهري مبلغ يعادل دقائق بقائك في التعامل مع الطبيعة، أما إذا تأخر حضورك عن موعد العمل وفشلت في التوقيع إلى جانب اسمك في وقت لا يتجاوز الوقت المحدد فأنت بلا شك تعرض نفسك للعقوبة والإنذار والتنبيه حتى لو كنت ذا سلوك حسن طيلة حياتك، إذن أنت في سجن يومي ولا يطلب منك إلا أن تقول نعم، و حاضر.. تنفذ ولا تناقش إن كنت تريد تقريراً حسناً عن أحوالك في نهاية العام فلعل راتبك يتحسن بعض الشيء.

ومنذ تسلمك للعمل تقع تحت ضغوط المجتمع لكي تقذف بك إلى أحضان سجن آخر، يسمونه تيمناً الزواج، وليس ذلك إلا سجن من نوع جديد. يحثونك على الدخول طوعاً إلى ذلك "القفص" الذي جعلوا له لوناً ذهبياً، وطبعاً أنت تصدق وتفرح وتقدم وجنتيك للجميع طواعية من أجل أن يلصقون عليها القبلات المقرونة بالأمنيات. وتنطلي عليك الحكاية فتكتشف نفسك أمام الحقيقة الأزلية، لكنك بعد أن تدخل السجن لا تجد طريقاً للخروج، فدخول الحمام ليس كالخروج منه، وخلال حياتك الجديدة، الذهبية طبعاً، تصبح حالك كحال ملايين الناس من حولك، فإذا كنت زوجة فأنت حكماً في بيت الطاعة، ولا تملكين إلا أن تقولي نعم، وتحتاجين إذن مغادرة من أجل الوصول إلى أي شيء، وما عليك إلا إعداد الأطايب من الأطعمة والأشربة لبعلك وذريته الذين هم أولادك وأحياناً أولاد غيرك. أما إن كنت زوجاً، فليس حالك بأفضل من حال الكثيرين، فأنت تذهب إلى سجن مكان العمل، ثم تعود إلى سجن البيت، وما عليك إلا أن تتحول إلى عدد من الواجبات منها وظيفتك كسائق تأخذ أولادك و أمهم إلى الأماكن العامة، ومنها وظيفتك كمدرس وجليس أطفال، وربما ستضطر إلى أخذ أكياس القمامة يومياً إلى أقرب حاوية قبل أن تهاجمك أسراب الذباب في عقر دارك.

تبقى سجيناً، رهينة للقواعد و القوالب التي فصلها لك و لغيرك ذلك المفهوم الغامض الذي يسمونه المجتمع، و الويل لمن يقول للمجتمع لا، فما مصيره إلا أن يقذف به في سجن وراء قضبان أو أن يُلقى به في مصحة للأمراض النفسية أو العقلية و ذلك بتهمة الجنون. أما إن كنت مريضاً فذلك سجن من نوع آخر، تصبح فريسة للفيروسات و البكتيريا و ربما الديدان، ترسلك إلى شيء من الجنون هي الأخرى.

وفي الختام يأسرك العجز والشيخوخة وتصبح خرفاً وترد إلى طفولتك العاجزة ثانية، يقودك الأطفال، وربما يضعف بصرك وفي ذلك سجن مظلم، تنتظر مصيرك المجهول قبل أن يقذف بك إلى حفرة في الأرض سبقك إلى مثلها ملايين الناس، أغنياء وفقراء، وتعود الحياة من جديد على وجه الأرض لتمارس سلطانها على الجميع، والكل يدعو إلى الكل بطول العمر حتى لو كان هذا العمر سجناً في الزمان وسجناً في المكان، فما نحن إلا من صنع ظروفنا حتى لو اعتقدنا لوهلة أننا نحن من يصنع الظروف.
ما نحن إلا أسرى، وليس هذا بعيب، فما أجمل الأسر حين نقع في أحضان من نحب، وما أجمل السجانين حين يكونون من نعشق، وما أظرف الحياة عندما يكون لها معنى، لا ننتظره من أحد، بل نصوغه نحن من تلقاء أنفسنا. نسأل الله أن يهدينا وإياكم، وندعو لكم بطول العمر والحياة الهانئة خلف قضبان الحياة نفسها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى