الأحد ٢٨ تموز (يوليو) ٢٠١٩

غيمة شتوية... و قديس

محمد هيثم جمعة

بعد انقطاع عن القراءة فترة من الزمن، وجدتني أقلب صفحات جواهر و لآلئ صندوق كنزي المفضل – الكتاب – كتاب كان و لازال صديقي في الحل و الترحال، أتنقل بين عناوين هذا الكتاب أتوقف عند البعض، و أتخطى البعض الآخر إلى أن استوقفني عنوان لفت نظري هو (قصة أب) شدني هذا العنوان لقراءتها بدافع الفضول لكنني لم أفق من قراءتها إلا و مدامعي تسيل بكلام كان حديث النفس للجوارح، و حديث الروح للقلب فلم يكن من بد أن ينتشر عبق هذه المناجاة الصامتة دموعا تتحدث بصمت... كيف لا و كل كلمة من نص القصة كان يمثل ضبطا لكلمات قصتي أنا ؛ قصة أعيش تفاصيلها في كل لحظة من حياتي ؛ قصة تبرز معانيها صوراً مختلفة من أشكال المعاناة الإنسانية متمثلة في أعلى صورها و أكثرها ألما و حرقة. و من هنا جاء عنوان هذه الخاطرة (غيمة شتوية... و قديس) و لا غرو في ذلك أن أضع هذا العنوان فالحياة لها عناوين كثيرة و صورا متنوعة من الأسى و الآلام توزعها بين أبنائها، فلها الله من بخيلة ما تكاد تُفرِح أبناءها حتى تسوؤهم بمصائبها... فهي ضنت أشد الضنِّ، و بخلت أكبر البخل بأن تدوم السعادة لأبنائها.

(قصة أب) كانت تحكي قصة رجل دخلت امرأته المشفى لتضاعف له الحياة و تضاعف الحياة السعادة لهما، و إذا بالحياة تقلب له ظهر المجن و تغير وجهها عليه ليعود إلى الحياة بأشلاء يمكن أن نسميها بقايا حياة، حيث الأم دقت أبواب الموت لما كان وليدها يدق أبواب الحياة، فكان كلاهما كمن وقف يدق قلب أب ضعيف بمطارق حديدية كالجبال لا يكاد يصمد تحت ضرباتها قلب و لو قد من صخر، ليخرج الأب إلى حياته محطم القلب مكسور الجناح يحمل بين يديه قلبا كتب عليه أن يعاني الحرمان مع أول لحظة عطاء للحياة. فقدوم مولود يعطي للحياة الصفاء و النقاء و الحقيقة الساطعة لمن أراد السعادة في الحياة بأرقى أساليبها و معانيها... إذ لا يمكن أن نحصل على السعادة في الحياة إلا إن عشناها كأطفال... لقد أطلت عليكم الحديث، و لعل من الأفضل أن أنتقل إلى حديثي غيمتي و قديسها، ففي شأنهما حديث للحياة يمكن أن نعبر عنه في عض أجزائه بقولنا: عود على بدء. فما سرهما يا ترى.

غيمة شتوية... وا حر قلبي لهذه الغيمة، و لآلام هذه الغيمة... آلام مدفونة تحت حجب كتيمة من الابتسامات الشاحبة و الضحكات المريضة. نعم اخترت أن أسميها غيمة شتوية لأنني أراها فعلا كغيمة في الشتاء فهي في ظاهرها و ألوانها و تطبق بعضها على بعض توحي بالكآبة و الحزن و الضيق و الهم إلا أنها مع كل ذلك تحمل الحياة للكائنات فهي الحياة حيث في حديثها المنسكب دموعا على خدود الأرض حياة الكائنات و حياة أرواحهم و استمراريتهم في دورة وجودهم... و كذلك غيمتي هذه رغم كل الحزن الذي تحمله في حنايا قلبها و الذي تخبئه دفينا بين القلب و شغافه بكل ما فيه من همٍّ و غمٍّ و كرب و أسى إلا أن الابتسامة لا تفارق وجهها و النور الذي ينبثق من عينيها مع كل ضحكة يفتر عنها مبسمها يجعلك تدرك حقيقة هذه الغيمة انها تمطر الحياة من حولها بالبهجة و السرور و الأنس و السعادة، أما لماذا الهم و الغم و الكرب و الأسى، فهذا هو مدار الأمر كله و عقدته التي لم تنحل بعد...

تدخل هذ المسكينة المشفى في أحد أيام الصيف الحار زاد وطأته موافقته لأيام الصيام الفضيلة... تدخل بوابة المشفى تقرع أبواب الحياة تطلع على الحياة بحياة هي في الصفاء و الطهر و النقاء... تمر الأوقات على أصعب ما يمكن لها أن تمر... ألم... تعب... معاناة... و لا مؤشر لبدء التحول إلى تضاعف الحياة تجبر المسكينة على التحريض ليحرضوا منابع الألم الأشد بأن يدق صدرها بأقوى و أشد ما أوتي من قوة... تنهار تحت وطأتها لتنتقل في فضاءات الألم الحالكة تصل عتبة... (لا أستطيع التفكير فيها حتى) لتعود إلى الحياة مجدداً و معها المعنى الحقيقي للحياة... للألم و الصبر... طفولة بريئة جاءت إلى الحياة و كأنها توقيع أو بصمة الحياة على صفحات الألم و المعاناة.

ابتسمت ابتسامة كأنها أخرجتها من تحت رماد معاناتها فرحت بدنياها التي لطالما انتظرتها... وُضِعت على السرير لترتاح و على وجهها ملامح تقول لمن يراها أن صاحب هذه الملامح أُخرِج من بين فكي الموت عنوة فعاد محطما ممزق الروح و الجسد... دمعت عيناي رحمة بها و احتقارا للذكورة في صميمها و لم يبعدني عن هذا التفكير غير أن الله فطر الحياة و الخلق على هذا النحو فهي سنته، و التدابير تسير بمشيئته و إرادته، و لوهلة كنت أظن أن معاناتها انتهت... لحظات و يأتي المولود ليوضع في حضنها يغسل عنها الألم و التعب بنقاء الروح و بريق العيون... و لكن... آآآه لقد جاء الخبر بأن المولود بحاجة إلى رعاية خاصة فما إن أمسكته بيدي و أريته لأمه حتى جاءت الممرضة من خلفي لتحمله مسرعة و كأن يديها يدا الموت خطفت فرحتنا... لنتبين بعد قليل أن الطفل الذي من المفروض أن يكون عونا على الحياة أصبح عبئا في الحياة، فقد تعرض دماغه للأذى أثناء الولادة، و الأمور في بدايتها تقول أن هذا الطفل لن يكون سوياً على ما يبدو، ثم أخذ حتى وسد حضن حاضنة اصطناعية حيث جعلت له حضن أمه الذي أمسى فارغا من وليدها.. من فرحتها.. أخذوا المولود و أخذوا مع كل شيء... قلبها... إحساسها... مشاعرها... و تركوها من دون هؤلاء جميعا لتعود كأنها ميتة الأحياء لا هي من الأحياء على نسقهم و لا هي من الأموات على حقيقتهم... يالله.. من لأم خلا حضنها من وليدها و خلت عيناها من صوره و فرغت أحاسيسها و مشاعرها من إحساس و مشاعر الأمومة... فتضاعف الهم و الكرب و الحزن و الأسى، و تضاعفت آلام الولادة، فما كام محتملا لأن ما بعده سيزيله أصبح لا يطاق لأن ما بعده أضحى أشد منه قساوة، و أحلك منه ظلمات، و كانت تعاني بقلبها لوحده فأضحت تعاني بقلوب ثلاث... قلبها و قلبي و قلب ذلك المسكين.. كانت دموعها تنزل لتغسل الهم فباتت دموعها مضاعفة تنزل لتحفر أخاديد في صحراء روحها و قلبها فيكون حزنها بحراً من الدموع تغرق من حولها في لججه مع كل يوم يمر و حضنها خاو من ربيعه و زهوره و أقاحيه... و تستمر المعاناة و يستمر الهجر و تستمر الدموع تنزل في الليل لتقول لكل من تغنى بالليل و نعيم سكونه أنت مخطئ مخدوع، و أنا بين دموع النهار و دموع الليل كمن يتردد في واد سحيق ما إن يصل إلى قعره حتى يرتد ليهوي في واد يليه هو أشد وحشة منه و أكثر ظلمة و كآبة...

و يمر الوقت بطيئا و تزداد المصيبة أثراً حتى إذا جاء صباح العيد - بعد أيام صوم كررت المعاناة و الألم مرات و مرات – وصلت المصيبة اقصى غاياتها و أبعد مذاهبها في الإضرار بقلب مكسور و روح تتردد في دوامة الحزن و تيار الألم لتصحو هذه المكلومة بوليدها على إيقاعات صباح العيد تعاني مرارة الفراق و آلام البعد، بُعدِ أمٍ أُخِذ مولودها من بين يديها عنوة و لم تره أكثر من غمضة عين و انتباهتها...

إلى هنا... أصبح كل شيء أهون مما سبقه فالأم علمت حقيقة أمر وليدها و ما هي عليه حالته و ما هي مقدمة عليه في لاحق الأيام... و أدركت أنها ستبدأ معاناتها لكنها باتت تعلم يقينا ما الذي ينتظرها... حالها حال من عانى و قاسى دوامات و أمطار و رعود في ظلمة ليلة طويلة قارسة... ليحل بعده فجر هدأ فيه كل شيء إلا الأمطار و البرد بيد أن هناك شمس تنير الحياة بنورها و تلين قساوة البرد بدفئها فتعين على المواجهة و الصبر و المثابرة... ملخصة المقولة التي تقول: ((كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر... إلا المصيبة فإنها تبدأ كبيرة ثم تصغر)). و هي لازالت تنتظر صابرة رجاء أن تصغر و تصغر و تصغر هذه المصيبة ثم تتلاشى و تزول.
ها هي الآن و بعد أربع سنوات تعيش أسعد لحظاتها مع قديسها السماوي يبارك لها حياتها و حياة من حولها مع ملاك ينير نفسها و روحها بنور وجهه و إشراقة ابتسامته و تقلباته أمام عينيها و أنا لا زالت أستشعر و أستشف في وجه هذه الصابرة ابتسامات شاحبة و ضحكات مريضة فهي أضحت حبيسة دائرة هذا الملاك الصغير مرتهنة عند حياته لتعيش حياة لا كالحياة و تصرف أيامها لا كأيام الناس و كأن الزمن عندها قد توقف، و كأن الله جمد حياتها عند هذه النقطة يراقبها و يضطلع على مكنون صدرها و مبلغ صبرها و عزيمتها... و إلى أن يأذن الله بفرج من عنده فإنك لن ترى أنى وليت وجهك إلا الصابرة المحتسبة صاحبة الابتسامات الشاحبة والضحكات المريضة.

محمد هيثم جمعة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى