الاثنين ٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم محسن الذهبي

في ذكرى الثانية لرحيل صانع الاحلام الملونه

خضر جرجيس مدرسة لونية عراقية التميز عالمية الاتساع

مع افول شهر اّب \ أغسطس وفي التاسع والعشرون منه تكون قد مرت علينا ودون ضجيج اعلامي يذكر، الذكرى الثانية لرحيل الفنان التشكيلي العراقي المبدع ( خضر جرجيس ) مواليد 1938، وكما عاش بهدوء رحل بصمت بعد ان فاضت الوانه تسابقه نحو الخلود، فمذ غادر شمس العراق وارضه في التسعينات من القرن الماضي بساق واحده وصحه متدهوره صوب منفاه المتجمد في السويد وكأن احساسه ينعكس متضادا مع طبيعة الاشياء فيحول كل تلك الظروف المأساوية الى فيض من الالوان تختزن نكهة عراقية شرقية تشع بالامل والفرح، ليؤسس لمدرسة لونية متميزة تفجر امكانيات اللون التعبيرية من خلال خلق توازن تجريدي بين العلاقة الشكلية والتعبيرية الباطنية، ان حجية الفن عند (خضر جرجيس ) تأتي من ادلة روحية، وما هو كفنان الا وسيط يحمل رسالة جمالية مهتديا برسالته الصوفية في التامل بما تحويه الطبيعة من عوالم جمالية لاتعثر عليها الا عين الفنان المتامل فيعيد صياغتها وفق ذائقته الفنية بعيدا عن الاشكال الهندسية ، فهو يبني حلمه الاسطوري محاولا الامساك بما لا يمسك - قدر الامكان - وقد كان له ذلك.

فايقاع اللون يتكاثف ليشكل سمفونية تحاول ان تجمع أزمنه متفاوته في لحظة واحدة من خلال هارمونية بصرية تعيد رسم معالم الواقع وفق رؤية فلسفية، تحمل الجوهر لتحيلة الى ما ورائية قصدية تتناغم بين الصفاء الروحي والتأمل العقلي، انه يحاول ان يلملم اللحظات الهاربة الاكثر اشراقا ليخلق المتعة ، حيث تتداخل الذاكرة على شكل استرجاعات حلمية مشحونه بطاقات لونية متفجرة تختصر المسافة بين الحلم والواقع، في عوالم مستعارة تعيد للمشاهد نوعا من البهجة المدهشة لتفرد الفنان في تعامله مع اللون وفي اسلوبيته.

ان الفنان في جهده الابداعي يحاول ان يعطي مفاهيم وتصورات و رؤية معاصرة للفن، بما يعني العودة الى الذات التي قادته الى البحت في وجعه الروحي القلق فلم يجد غير تلك الصوفية الشفافة لاملاء شعور الاحباط والانتكاسة واعادتها الى بهرجة لونيه فرحه لكنها موجعة في ذات الوقت ، فهو مسكون بعوالمة الداخلية اولا، وبالعالم الطبيعي الذي يواجهه في دوامة البحث للامساك بالحقيقة الوجودية المعمقة فان لم يستطع فلا بأس من التعلق في اطرافها فهو لا يتحدث عن النهائية او التمامية في العمل الفني بل انه يجاهد للوصول الى مفاتيح تفكك أو تقرب من الوصول بخلق منهج كياني متفرد يتوسل بنهج اهل المعرفة الروحية والاقتراحات الصوفية للتأويل، من هنا يظهر لنا هذا البعد في عدم تجاوز الافق غير المنظور في اللوحة، انه يحاول ان يبدع قراءةمعمقة للوصول الى اشارات سردية لا متناهية من فيض ياتي من سرمدية الوجود، انه صوت باطني يتجلى في عيون الرائي مثل ظلال تتمخض بالتفجر الروحي لاثمار الخصب الوني في جسد اللوحة، ليفصح شاء ام ابى عن مكنون الذات ويحفز طاقة التفكير لدى المتلقي، اذ لا تقتصر المعرفة على ما هو مألوف من المثيرات الشكلية المباشرة بل يتطلب الامر استثارة افق التفكير والانتباه الى ما قد يغفل من معطيات الواقع في تنمية قدرات التخيل لتجاوز محدودية هذه المعطيات،

يقول الفنان ( بول كلي ) في هذا الشان: - ان العين تتحرك بسأم عندما تتأمل ما تعودت علية من الاشكال. ومن هنا تبرز قدرة الفنان ( خضر جرجيس ) في ارساء جذور قدرة الابداع للوصول الى الاثراء الروحي عبر الخلط المبدع بين التجريد والواقع لخلق نمط جديد من الخصوصية في استغلال طاقة اللون غير المحدودة للتعبير في مساحات تجريدية تزخر بايحاءات متكيفة مع الامتداد البصري بين المرئي واللامرئي الكامن في عمق العمل الفني فهو يحاول دائما ان يجري حوارا بين الكتلة اللونية والمشاهد.

فالفنان ككائن من نوع خاص لايهمة في اخر الامر سوى الوصول بدعوته من اجل كون مليء بالقيم الجمالية النبيلة.

ان (خضر جرجيس) لاينكر ابدا تأثره باستاذة الفنان والملون الرائد (فائق حسن) وبفكر التصوف لدى الفنان (شاكر حسن ال سعيد) بعد ان تخرج من معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1956 ليعود اليه أستاذا لمادة اللون مختطا لنفسه منهجا واسلوبا متفردا و بعيدا عن التقليد لخلق ظاهرة لونية عراقية التميز عالمية الاتساع، فالوانه المبهرة الحامية تعكس جرأة الفنان في قصدية خلق تناقض صارخ بين الضوء والظل وحرية اللمسة الانطباعية التي تجعل انبثاق تألق الضوء من داخل المادة، انه يملك حساسية مفرطة اتجاه الواقع وجوهر الاشياء عبر تجريدية تفاجيء المشاهد بزخم الايحاءات لتكثيف الامتداد البصري متخذا من هارموني الالوان قناع للوصول الى العمق مبتعدا عن الرمز المكشوف وكل مظاهر التشخيص عبر دلالات غير محدودة في الخيال الابداعي. فاسلوب الفنان باستخدام السكين بدل الفرشاة خلق نوعا من التفاعل الروحي بينه وبين سطح اللوحة.

ان اعمال الفنان (خضر جرجيس) ستبقى دائما تثير الجدل بقدرتها اللونية على ايقاظ المشاعر ومنح المشاهد فرحا تأملي ومتعة الغوص في تأويل اللون، فهو يكلم الصامت فينا. ويبقى التميز في الابداع هو جوهر الخلود الدائم في تاريخ الفن.

خضر جرجيس مدرسة لونية عراقية التميز عالمية الاتساع

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى