الاثنين ٤ تموز (يوليو) ٢٠١٦
المنظور الاجتماعي
بقلم وديع العبيدي

في رواية ليلى جراغي: (الصدأ)

تعتبر الأزمة في العلاقات الاجتماعية أمرا عاديا هذه الايام، سواء في الشرق أو الغرب، سواء. فتغير القيم والمبادئ الاجتماعية والانظمة الاقتصادية انعكس جذريا على جملة حياة الانسان العامة والخاصة. ومع ان الشرق مدين لارث ثقيل ومتراكم وجامد من العادات والتقاليد والمفاهيم الاقطاعية والغيبية البعيدة عن الاصلاح وتقليب التربة، فقد جاءت التغيرات الدولية والمادية الاخيرة، لتزيد من تعقيد النظام العلائقي في الشرق، ولهاث الانسان المعاصر للمحافظة على موقع اجتماعي وثقافي مضاه لجملة المشهد العام. ورواية الصدأ للروائية ليلى جراغي، تعنى على الخصوص بمعالجة هذه الثيمة، ومن صميم اشكااليات واقعنا المتوارث، وانعكاساته على مجتمع الهجرة ايضا.

(1)

رواية الصدأ لليلى جراغي تقوم على ثيمة أساسية، وهي أن الخطأ يستتبع الخطأ، وكل ما يقوم على خطأ، فهو خطأ. ومن هذا المنظور تنشغل كل شخصية في الرواية بتقديم إضاءة موجزة عن خلفيتها الاجتماعية والثقافية، وبشكل يرسم خطا أو خطوطا، تنتهي أواخرها براهنية الحدث.

الثيمة الثانية للرواية، تتمثل في أن الخطأ لا ينتج خطأ واحدا فحسب، وانما شبكة من الاخطاء المتداخلة والمتعالقة. وبالمقابل، فأن الخطأ الناتج في هذه الحال، ليس نتيجة خطأ واحد مجرد، بقدر ما هو، نتيجة لاتجاه عمل شبكة من الاخطاء التي تسهم في نتيجة واحدة، يضيع معها المؤثر الرئيس.

"كم كنت أتوق إلى رغبة حرة، وضحكة حرة، وحركة حرة."!- (رواية الصدأ- ص33)

من الصفحات الاولى، يلمس القارئ ان الكاتبة لا تكتب من أجل الكتابة، وانما من صميم رغبة وقرار لمعالجة موضوع اجتماعي شائك. وبحذر ودقة، تجمع مستلزمات الموضوع وتصبها في قالب قصصي روائي يقوم غلى قدمين: الاشكالية الاجتماعية للانسان العربي، وأثر الهجرة والاغتراب واللجوء على العائلة والفرد العربي.
ففي هذه الرواية، نلتقي الكاتب المفكر، الذي يسخر النص الادبي الفني للوصول الى غرضه أو عرض أفكاره. الكاتب المفكر، ظاهرة تختلف عن الكاتب القصصي أو الحكائي (الحكواتي).

روايات فيدور ديسنويفسكي لا ينبغي أن تفرأ كنصوص حكائية أو قصص فنية، دون منظورها الاجتماعي الفلسفي، كذلك الأمر في أدب ليو تولستوي والبير كامو وكولن ولسن وأمبرتو ايكو. فكما أننا لا نستطيع تجاهل الفكر/ الرسالة الاجتماعية/ الاصلاحية في تلك الرويات كذلك هو الأمر في أدب نوال السعداوي وحنان الشيخ وليلى جراغي.

لتجسيد المضمون الاجتماعي، اختارت الروائية – عائلة- عراقية مغتربة في (هولنده)، تعرض من خلالها أوراق الملف/ القضية الاجتماعية لعلاقة الانسان مع نفسه/ العائلة/ المجتمع والعالم. فندرك، ان القصة/ القضية، لا تتعلق بشخصيات الرواية، وانما بالقارئ، بنا نحن، كأفراد داخل النص، نمتحن أنفسنا عبر التباسات الحدث وتعقيداته.

كم هي درجة تقاربنا واسجامنا مع تلك الذخصية؟..
ما درجة قناعة القارئ بسلوك الشخصية الفلانية وقرارها؟..
لو كنت أنا في مكان الشخصية (كذا) لتصرفت بشكل آخر!..

(2)

منذ السطور الاولى، يتولى الشخوص قيادة عربة السرد، والتعبير عن أنفسهم وعن رؤيتهم للأحداث والاشياء والاشخاص المحيطة بهم. وفي مقدمة الرواة، الراوية الرئيسية/ الأم.

رواية المرأة أو قيادتها للسرد ليس أمرا عاديا أو تقليديا، في القص العربي. وعلى رغم تعادل نسبة الذكور والاناث في جدول توزيع شخصيات اارواية، فمن الواضح استئثار المرأة بـ(الحكي) وتقدمها على الذكور، اللذين ظهروا مجرد – تكميل عدد- ثانويين وتابعين لنسائهم، أو الدور المكمل للبطولة النسائية.

فالرجل مهزوم في الرواية، مضطرب، خاسر معركة، ومتهم على طول الخط. جوهر اتهامه نابع من استئثار المرأة بسلطة القضاء والحكم، سواء كانت المرأة الأم، أو الزوجة أو الحبيبة. وعلى العموم، فأن كل شخصيات الرواية هم ضحايا (نرجس) الراوية الرئيسة. ""يا الهي ارفق بحال ابنتي سيئة الحظ نهال، وارفق بحالي أنا التعيسة الاخرى، كي لا يصيبني شلل مفاجئ من جراء افعال اولئك السخفاء, يقال عندي بدلا من الرجل الواحد، ثلاثة. من يراهم يحسدني عليهم، هيئاتهم تشرح قلوب الناظرين اليهم، أما قلبي فقد مالتت فيه الفرحة من اعوجاج سلوكهم.|"- الرواية- ص18.

"يخفي رأسه كالنعامة في التراب كاجراء سهل للهروب من مواجهة المشاكل التي كان يستوجب عليه كرب اسرة التدخل لحلها"- (الرواية- ص10)، "لو كان جريئا بما فيه الكفاية، فليخبرني بأي خطيئة تلك العينان البائستان تتهمانني؟."- (الرواية- ص11)
"انه نسيبي وأنا أعرف سفالته أكثر منك."- (الرواية- ص8)

وكل الرواية وشخصياتها وأحداثها ومهمازها الرئيسي، هم لعبة بيد قوة خارجية ، لا تتصل بهم، ولكنها تتسلط عليهم، وعلى صيرورة حياتهم وصيرورة احداث الرواية، وهي (حسيبة- المرأة المغربية/ ص6- 9) التي سوف يقتصر دورها على اشعال جذوة الرواية (نرجس) وترك الاخيرة تنقل النار والاضطراب لبقية العائلة، بينما تختفي المرأة المغربية ولا تذكر ثانية. وكان المنتظر أن يتعرض أحد الافراد الاشارة اليها أو تحميلها وزر ما حدث، ولكن بلا طائل.

ملاحظة غريبة، -ربما- فاتت كاتبة الرواية، رغم مغزاها العميق. فالعائلة العراقية (المهاجرة) هربا من الفوضى وسلطة المجتمع، تقع ضحية سلطة اجتماعية غريبة، تقرأ ضعفاتها البنيوية، وتمد أصبعها في تجاويفها، وهي تتقمص – كعادة الشيطان- شخصية (فاعل خير).

"لا تشكريني على واجب. نهال عزيزة على قلبي"!- (الرواية- ص8)

فكيف تستسلم شخصيات تعيش في الغرب، ينشأ أكثر أفرادها في أجواء الحرية وقيم العقل والارادة، لأحابيل امرأة – متطفلة- لها صيتها المفضوح في مجتمع المهاجرين.
من هنا، تضع رواية (الصدأ) نفسها في قائمة الأدب النسائي، الأدب الاجتماعي المصادر للصورة التقليدية، حيث تتصدر المرأة قيادة المجتمع والميكانزما الاجتماعية، بدل من الدور التقليدي للرجل.
"مالذي جعل زوجي البائس هذا يتغير كل هذا التغيير؟ متحولا مع الوقت والسنين
، من شخص عاشق محب طموح، إلى كائن سكير معزول، لا شغل له ولا مشغلة غير التسلية بتحطيم قلبي بعجزه وقلة حيلته، وتقوقعه حول نفسه، وكأنه صنم أبكم؟ بينما عيناه في السر تلومانني، وكأنه يريد بتلك الطريقة السخيفة أن يعاقبني!"- (الرواية- ص11)
أما الزوج فينظر اليها من زاويته، ويبرر الامر قائلا في نفسه: " كأنني لم أعد اشكل شيئا مهما في حياتها. لو كنت قادرا الى اليوم على مضاجعتها وجعلها تتلوى من اللذة تحتي، مثلما كنت أفعل معها في السابق، لما استطاعت ان تعاملني الان بهذا الجفاء. ولكنت سأبقى سيدها وحبيبها، مثلما كانت توهمني في الماضي. يا الهي النساء ماكرات، يدعين الموت من أجلنا حينما نلبي رغباتهن، وينكرننا حينما لا يكون بمقدورنا فعل شيء لهن."- (الرواية- ص17- 18)
ولكن هاته الرواية النسائية، تثبت في نفس الوقت، فشل المرأة وضياعها في قيادة الاسرة، وعجزها عن تبصر القرار الصائب والبعيد المدى، مما يعيدها أو يدفعها لاستعانة وعدم الاستغناء عن زوجها المخمور والمهمش طيلة الرواية، لتقرير دفة السفينة.

(3)

حركة الكامره تبتدئ برنين الهاتف، والهاتف المستخدم في الرواية الصادرة عام 2010م هو التلفون الأرضي (Landline) أي الخط السلكي القديم، مما يطرح سؤالh جانبيا عن غياب الهاتف الخلوي داخل الروية.
يحتل الاتصال الهاتفي حيزا بينا من مساحة الرواية، ويقوم بدور رئيس في مفاصل درامية واجتماعية مهمة. وهو الوسيلة الرئيسة للتواصل والتراسل وتبادل الرأي والمناقشة في الرواية. أما الوسيلة الثالثة للاتصال، غير الواضحة رغم تكرارها غير مرة، فهي التليباث/ التراصل الذهني الذي تستخدمه المؤلفة بشكل متداخل مع التواصل العياني المباشر في الواقع.
فالرواية، بحسبه، تصنف في قائمة الأدب الاتصالي التكنولوجي، وتزايد دور الاتصالات في الحياة المعاصرة.
يعود انتشار التلفون لما بعد الحرب العالمية الثانية، ممثلا في التلفون المنزلي. وعندما يغيب الرجل من جو الاسرة، تستحوذ المرأة/ الزوجة أو البنات، على الجهاز والاستمتاع بالمحادثة مع أشخاص خارج المنزل، عن بعد- دون الذهاب اليهم او الخروج من المنزل.

يستلذ البعض بالوجود في مكان أو وضع معين خلال المحادثة، مبالغة في المتعة والاستلذاذ، كالمحادثة من المطبخ أو من حجرة النوم، أو خلال السياقة، أو خلال ممارسة أعمال معينة.

ان النكاية والخيانة او قهر الاخر باستخدام التكنولوجيا، يزيد من حجم الاستلذاذ، أو اشباع الرغبات الغريبة وغير الواردة احيانا، من صور التعبير عن الشخصية، أو ممارسة قهر الاخر، بشكل مقصود أو عفوي.
لم يرد في الرواية، شيء عن صورة المرأة المغربية لدى اتصالها ببطلة الرواية، وماذا كانت تفعل، هل كانت لوحدها، أو في مكان اخر.

في حالة واحدة، تشرح الرواية حالة جمال وزوجته الهولندية العراة خلال استقبالهم اتصالا من كمال شقيق الزوج. ويرد لاحقا ان كمال اتصل بشقيقه وهو في طريقه لبيت أمه. ومن المحتمل (!) اتصاله بالهاتف الخلوي، او اتصل من البيت قبل المغادرة.
ان احداث رواية (الصدأ) لليلى جراغي، هي نتيجة (اتصال تلفوني). ومن قبل عامل/ شخص خارج عائلة الرواية.
الحدث الرئيس، تعرض (نهال) ابنة نرجس المتزوجة من (فؤاد) للضرب على يد زوجها. والتي ستفضي لحملة عائلية عسكرية بقيادة الام ومعاونة ابنها (كمال) لزيارة ابنتهم والاعتداء على صهرهم بضربة سكين في ظهره، (جريمة محاولة قتل)، تفضي لايداع المتهعمين في السجن.

فالحدث ارئيس في الرواية، المتغير الدرامي الأكبر والوحيد، يتم عبر التلفون. ومعه تختفي صاحبة الاتصال مرة وللأبد.
"لست بحاجة الى معرفة أسمائهم، طالما أصواتهم لم تستطع ان تغير من واقع الامر شيئا."- / ص66- الرواية
ولا يعرف، لماذا لم تلجأ نرجس لزيارة المغربية في بيتها، عند ذهابها لبيت بنتها. علما ان المغربية لم تفتح الباب، ولم يظهر أثر على وجودها في العمارة، رغم الطرقات العنيفة والضوضاء الناتجة عن كسر كمال لباب البيت.

(4)

"انه لا يحدثني بشيء، ولم يوجه لي لاهاما صريحا بمكنون نفسه،.. لكن كان باستطاعتي رصد ذلك الشعور من خلال الحزن الذي استوطن بالتدريج ملامحه... فبخبرة السنين التي أمضيتها في معاشرته، كان بامكاني الغوص في اعماق ضعفه وصمته وانكساره، لاخلل كل ما كان يدور في رأسه التي كانت تبدو للاخرين وكأنها صندوق مغلق، وبالنسبة لي هي مجرد فقاعة لا تحوي غير الخواء والندم."- (الرواية- ص13)

"الاحتقار والغضب وأشياء سلبية كثيرة كانت تعاني منها تتزاحم داخل راسها، ووتتحول الى سيل من الهلوسة."- (الرواية- ص18)

ان من الممكن، بحسب التصور النقدي- ، وليس الروائي، ان تكون (نرجس) مصابة بالهلوسة أو أي مرض عقلي أو فوبيا، تجعلها تتصور أشياء وأصوات كما لو كانت حقيقة. فشخصية نرجس الاجتماعية والنفسية/ الفكرية مضطربة وغير مستقرة، ولا يمكن لها الوجود في مجتمع غربي بدون الحصول على (معالجة نفسية دورية). لكن هذا الامر لا يرد في الرواية، ولا أثر له من قريب أو بعيد.

فقد كانت لدى نرجس فكرة مسبقة/ سيئة عن فؤاد الذي هو صهرها. وما من جديد في واقع الامر في الحدث، سوى ىمبالغات المغربية المتصلة، وتكرارها ان الصوت انقطع، والتلفون لا يرد، وربما حدث مكروه لنهال.

فغرض المغربية من الاتصال هو تأكيد مقدرتها في التأثير على الاشخاص والتلاعب بهم، بمحض خيوطها الصوتية، وليس بأي مجهود آخر أو خسارة مادية. وكان عليها تكرار وتأكيد انقطاع الصوت وعدم الرد على التلفون، وبما يحفز خزانة الافكار السوداء وسوء الظن والميل للعدوانية وتجييش الحقد والايذاء لدى المقابل، ولكن في اتجاه بعيد، عن شخص النمام ومثير الفتن.

ان المغربية ليست بعيدة عن الواقع الاجتماعي العربي عموما، وليست خارج العقلية العربية المزاجية والمتمردة عموما. ولا يستبعد انها كانت تعرف، بمحض علاقتها مع نهال، أو من قبيل الظن والحسد، ان الزوجين المتخاصمين، استغرقا في متعة حسية جنسية بعد حملة شجار كلامي وعنف جسدي كما يحدث في مثل هكذا حالات. والدليل تعلق نهال بزوجها وحبيبها الذي يؤذيها وتكرهه احيانا. "لا أستطيع تركه لقلة حيلتي أمام قلبي، ولن اتركه يعيش ليتزوج بامرأة غيري."-(الرواية- ص7). ان حبها له اقوى من ضيقها به. وهو مركب نفسي معقد متعارف –نفسيا-.

وكان استغراق زوجين في المتعة الجنسية، أمرا مثيرا للحسد والغيرة، لدى امرأة شبقية، فقدت شريكها الذي كان يمكنه تعوض تشوقاتها. "يصل الفضول معها لالصاق أذنها بالجدار الفاصل بين شقتها وشقتنا ليلا ونهارا لتعد علينا انفاسنا فحسب."- (الرواية- ص4)

فالمرأة السنغل، لا ترتاح لوجود امرأة متزوجة سعيدة، وقد يكون مثله لدى الرجال ايضا.

ويعمل هذا الطرف على تشويش الطرف الاخر، الذي يرتبط معه بصلة صداقة او زمالة، حتى يقوده لنفس حالته ومعاناته، ويحرمه من سعادته أو قدره المختلف.

الغريب ان الانسان أكثر ميلا لتصديق ما يدمر ويهدم ويفرق، مما يبني ويقرب ويجمع. ورغم شهرة البعض بالنميمة وسوء الظن، ونشر المشاكل وبلبلة الناس، فهم يحظون بحفارة الحضور والقبول اينما حلوا..
ونرى ان المشكلة الرئيسة في حياة فؤاد وزوجته هو المغربية نفسها، فلا يريدها دخول بيته والاتصال بزوجته. "ان فؤاد بطره تلك المرأة ويمنع نهال من التواصل معها، ويقول عنها دائما، حسيبة حيزبون."- (الرواية- ص4). مما يجعل لدى حسيبا رغبة مضافة للانتقام منه وحرمانه من زوجته، وتجييشها وأهلها ضده. وهكذا تفرض حسيبة نفسها في غيابه. "اغتنمت فرصة خروج فؤاد من البيت وكلمتها بواسطة الهاتف."- (الرواية- ص7) ولا تملك الفتاة الغشيمة قوة مواجتها ومنعها، أو ادراك قيمة الالتزام الزوجي لهشاشة شخصيتها ، واستهانتها بالعواقب.

"وفؤاد، رغم حذرهن من الالتقاء معا اثناء وجوده، وتأجيل حوارهن بين الحين والاخر، الا انه كان يتغاضى حينا ويثور حينا، رافضا بشكل قاطع تلك الصداقة التي يصفها بالغريبة والمبنية على النميمة وخراب البيوت."- (الرواية- ص4)
ولكن ما الذي يجعل (نرجس) العاقلة المجربة، وهي تحاكم تجربتها العمرية، وتناقش معاناة عائلتها المتفرقة، ان تنصاع لاكاذيب النميمة، وتتحول الى لعبة لصوت يأتيها عبر التلفون، ويقلب كل شيء على عقب.

لقد كانت حماقة الام وسذاجتها سببا في تحويل ابنها الى قاتل، تخشى عليه عقوبة السجن.
فتجاربها حياتها المرة، وتراكماتها النفسية والفكرية، واحساسها بالوحدة والضجر أمام تصحر الحياة الاجتماعية الغربية، وعدم قدرتها على الانشغال والاشتغال في أمر نافع، جعل اشتغالها الذهني بالماضي، ومحاكماتها ومراجعاتها النفسية المنتهية بالندم، عنصر ضغط على قدراتها العقلية والنفسية، لاصدار جداول احكام مسبقة على كثير من الناس والاحداث والزواهر، وبدون مرونة، او استعداد لمراجعة احكامها وقراراتها.

الواقع ان نرجس وكل الشخصيات النسائية في الروية، ذات طبيعة ومرجعية نفسية متناقضة/ متقاربة، تنهل من جوهر النظام الاجتماعي الكلاسيكي، ممثلا بكارزما الاب/ الجد قوي الشخصية، الصارم والجاد وغير المتساهل، القادر على اجراء نظام صارم في حياة العائلة، حيث لا يجرؤ احد على معارضته او التشويش عليه بدون ردع.

وتتكرر صفة (جبان) في الحكم على زوجها الذي كانت تحبه يوما، وتحتاج لفدوره الصارم/ السابق في ضبط العائلة والابناء. "المشاكل التي كان يستزجب عليه كرب اسرة التدخل لحلها"= (الرواية- ص10) ولو لم يكن هكذا ، لما تفتتت العائلة ومضى كل فرد في طريقه غير عابئ بالاخر.

(5)

تتكون العائلة من بنتين وولدين، على سبيل التعادل والتكافؤ الرياضي.
ومن الاثنين، ذهب اثنان لزيجات فاشلة مضطربة غير متكافئة، وبقي اثنان في خانة الاحتياط.
ورغم وصف الام لاطفالها بعدم التشابه والتنافر وتناقض التوجهات، فهم متشابهون في التمرد والانانية وعدم الرضوخ (الاناركية).
فالفتاة تزوجت في ظروف غير عادية من شخص لا تعرفه، من أبناء الطريق، ممن قذفت بهم رياح القدر ليس في طريقها، وانما ايضا في طريق الحياة.
والابن المتشدد والمتطرف دينيا، يتزوج من فتاة، من بنات الطريق أيضا، قذفت بها مصادفات غير عادية في فراشه وحياته.
والزيجتان حدثتا رغم انف العائلة، وفي صورة الامر الواقع. وفي اعتبار ان القانون يمنع اي طرف خارجي من التدخل في حياة غيره.

وإذا كانت الام (نرجس) نفسها قد هربت من عائلتها داخل العراق، والتقت زميلها الجامعي، الطالب في جامعة بغداد السبعينيات، وقررت الاقتران به رغم أنف العائلتين. "عربي شيعي يتزوج كردية سنية.."- (الرواية- ص12). فما حصل هو تكرار الابناء ما سبق فعله الاباء.

القدرية.. ان يكون الانسان ضحية قدر غيبي، عقيدة شرقية هندية قديمة، تسم مجتمعاتنا عامة. ولكن ان يمتد خيط القدرية غربا، ويرسم حياة المولودين والمقيمين في الغرب، كونهم من أصول شرقية مهاجرة، فذياك سؤال!!.
فشل المشروع الثقافي والاجتماعي للهجرة، امر يتأكد ويتكرر هنا أيضا. وبعبارة أخرى، بجسب القدرية: ان حياة الاسان مرسومة رغما عنه، ورغم احكام المكان والزمان والثقافة ايضا.

ما قيمة الهجرة اذن؟.. وما قيمة الدراسة في الغرب اذن؟.. وما قيمة المماحكة والتلاقح الثقافي والاجتماعي وخلافية العوامل والانظمة والمكانزمات، طالما النتائج تنتهي نفس النهايات التقليدية، بغض النظر عن كل شيء؟..
ان فكرة الغيتو غير واردة لدى المهاجرين العرب أو الوافدين من شرق المتوسط. لكنهم يحملون معهم كل سيئات الارث الشرقي. هل الارث الشرقي سيء وهدام؟.. اليس فيه عناصر ايجابية, هل الفرد العربي ضعيف في هضم الايجابيات، واكثر ميلا للشر والسوء؟.. أسئلة تقتضي دراسة وجوابا، في المفارقة بين امتدادات الحياة الشرقية سواء كانت في بلدها الام، ام بلد المهجر.

(6)

(سعيد) رب الاسرة خريج كلية الهندسة، والام (نرجس) خريجة جامعية ايضا. وعندما يتزاوج جامعيان، فالنتيجة، يفترض ان تكون في هذا الاطار. وقد حصل الزواج الحبي رغم أنف التقاليد والتمييز القومي والمذهبي والثقافي. فكيف جاءت النتائج تقليدية اجتماعيا ومتخلفة ثقافيا؟..

العوائل المثقفة، هي الأسوأ حظا في الزواج!. نتيجة او حالة يحتار امامها كثيرون.

الواقع ان النظام الاجتماعي التقليدي وبكل ما يتضمنه من قيم وعادات وأنظمة متكاملة ومتكافلة ومتعاشقة ذات افق امبراطوري عابر للمجتمعات واللغات، تكون وتبلور على مدى قرون طويلة، ولذلك يمتاز بالقوة والحنكة والثبات. ونحن نستطيع التمرد عليه بسهولة، ولكننا لا نمتلك نظاما بديلا مكافئا، ولا قيما ومبادي تعويضية، ولا تحظى محاولاتنا بالقوة والدعم الخارجي أو السند والتفاهم من المجتمع الثقافي الاكادمي المضطرب والمنقسم على نفسه ايضا.

في مصر، كان البديل. مجموعة جامعية من جيل وعمر معين، التقوا بشركائهم وأسسوا عوائل جامعية متضامنة متعاونة فيما بينها. الزيجات الجامعية، حافظت قدر الامكان على علاقاتها الاجتماعية عبر السنين، وفي الذكرى الخامسة والعشرين للتخرج، عقدوا احتفالا عائليا كبيرا، التقت فيه العوائل الاكادمية وتطارحت ذكرياتها وتجاربها، وكان معها ايضا، الجيل الثاني- جيل الابناء- من العوائل الجامعية.

فتعاون العوائل المتشابهة الظروف والاجواء يسهل الكثير من العوائق في طريقها، ويحميها من العواصف والانهيارات والضغوط الاجتماعية الخارجية. فيساعدها في النجاح والاستمرار وانتاج تجارب مميزة، تمكن الجيل الثاني من الالتقاء والامتداد لانتاج جيل ثالث من العائلة الجامعية والاكادمية.

ان نظام العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع، يهون مسألة المستوى الثقافي بين الافراد والعوائل. فتجد التفاوت الثقافي والاجتماعي يجر الجميع للانحطاط، ويستغرق الكلية في واقع حافل بمشاكل غير مبررة، هي بسبب تفاوت الوعي والفهم واختلاف المستويات والخلفيات الثقافية.

فالمفترض، -بعيدا عن الشعارات-، المحافظة على اقانيم الاشياء، وتدعيم تجاربهم الفكرية والاجتماعية من اجل انجاحها. فضعيف المستوى لا يرجو الخير، أو يضيع فرصة الهدم وايذاء من هم أفضل منه، سيما في واقعنا الحافل بالتناقضات والامراض.

"لا تحملي ابناءك وزر تاريخنا الملوث بالتعصب والجهل واوبئة اخرى لا تعد ولا تحصى، فارثنا ثقيل يا نرجس. ونحن وحدنا علينا ان نتحمل تبعات ضعفنا، عندما تركنا تلك الاوبئة تنخر كالدود رؤوسنا، لتلتهم ما تبقى من احلامنا. مثلما تركنا ضجر الغربة ينخر بالتدريج ارواحنا. ونحن مستسلمون غير قادرين على تغيير حياتنا، لاننا ببساطة أناس سلبيون."- (الرواية- ص207)

فالامراض، لا تعني السياسة والاقطاع، وانما تعني الامراض النفسية والاجتماعية والعقد والنزعات المرضية بين الافراد كالحسد والطمع والغيرة والوصاية على الغير وما الى ذلك.
ان مدينة بلا أسوار، وبيت بلا أبواب وحراس، تأخذه الريح، عاجلا أو آجلا.

(7)

كل منجز الرواية، أنها تنتهي في نفس النقطة التي ابتدأت منها.
المشكلة الروائية هي العاصفة الطارئة (تلفون حسيبة المغربية النمامة) التي قلبت الامور على بعضها، أو وضعت الجميع في مواجهة تناقضاتهم القائمة بغير انسجام. والعائلة بذلك، تعتبر العودة للحالة العامة بكل ملابساتها وتناقضاتها انجازا؛ متحاشية وصول الامور الى أطرافها الحادية.

لعل فكرة التناقض والفوضى الرتيبة العادية، والخوف من مواجهة الحقائق عارية ومن غير رتوش، تلخص الجو الاجتماعي العام.

فالكثير من العوائل تطفو على مستنقع من الاشكاليات والتناقضات وانعدام الانسجام والتعاون والمحبة، وتعتبر ذلك حالة عادية. والعائلة، مجتمع مصغر. وهي عاجزة عن حل اشكالياتها السلبية والمعرقلة للتطور؛ وخائفة – في عين الوقت-، من تنامي التوتر لدرجة الانفجار والانتقال لمرحلة جديدة.

في النص الديني ثمة عبارة بليغة، لوصف العلاقة الاجتماعية، فحواها: (إمساك بمعروف، أو تفريق بإحسان)!. ولكن الحاصل في الحالة العامة هو العكس. أي ان الوضع العادي هو: [لا امساك بمعروف، ولا تفريق بإحسان]!.
هنا يجتمع العجز عن (المعروف)، بالجبن عن (التفريق). لماذا، لأن الخلل داخل الشخصية الاجتماعية، وليس في عامل ثالث/ خارجي. وادراك الشخصية الناقصة النضج والخبرة، انها لو استبدلت الطرف الآخر، بغيره، سوف تبقى المشكلة والنتائج بلا تبديل. وبالتالي، ترد الحكمة الأثيرة الرائجة: [عدو تعرفه، أفضل من عدو لا تعرفه]!.

الزوجة الكارهة زوجها لا تتخذ قرار التفريق وتتظاهر في لحظة الفقدان بالحنين والحب. ولكنها عندما تعود للحياة معه، تعود للاتهامات والنقائض، وقتموس الحرب الباردة.
قدمت الكاتبة قراءات نظرية على صعيد شخصي، لكشف الثغور في كل حالة أو شخصية، ولكنها، أسوة بكل العاملين في مجال الاجتماع العراقي، لا تتطرق لصور المعالجة والحل.

(8)

ما هو الحبّ؟!!؟
"كل ما كانت تفعله تلك الافعى الصفراء زيف في زيف، مقابل ان يوفر لها الجنس والخبز والسكن، لأنها فتاة تفتقر الى القوة والاعتماد على النفس."- (الرواية- ص32)

حتى وقت قريب، كان التمييز بين الزيجات التقليدية- زيجات يعقدها الأهل-، وبين الزيجات الحديثة – المودرن-، هو الحب والتفاهم المباشر بين الطرفين. وعليه، يكون الزواج/ الزيجات، في الرواية من نمط المودرن. فكل واحدة أحبت وتعلقت بزوجها، ولكن الامور سرعان ما تغيرت، مع تعقد الظروف، وتكالب المسؤوليات.
الحب، في مفهوم الكثيرين، وفي التعريف العربي، هو نوع من الطفولة، حالة رومانسية، بعيدة عن المسؤوليات والاشكالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية وسواها.

الحب هروب للماضي، حيث الطفولة والمراهقة وانعدام المسؤوليات، هو محاولة مط سن الطفولة والمراهقة للامام، بقدر المستطاع. والذي يقابل لدى البعض، الاستسلام لحياة العبث والفوضى واللامسؤولية.
ولكن (الحب) العربي على مدى الزمن الماضي، لم يفلح في تأسيس نظامه الخاص ومنهجه الملائم للبناء عليه واعتياده، لتدعيم عشاق المستقبل ووضع حد للالام والمعانات والضياع.
واقع الحال ان الحب ليس ظاهرة عاطفية ترتبط بعالم المشاعر فحسب، بل هو يشترط النضج النفسي والفكري والتكامل الاجتماعي والانساني.

كثيرا ما يفضل الحب في عمر (المراهقة) لتأججه وعنفوانه، وعفويته وتمرده، ولكنه يفتقد العقل والمسؤولية والالتزام، لذلك ينتهي للقطيعة والمشاكل ورصيد التجارب السيئة، التي تطارد الشخص وتهدد حياته المستقبلية.
عدم لمسؤولية، العفوية، الطفولة والمراهقة، اكثر توافقا مع سمات الشخصية الاناركية ، البدائية غير المتمدنة الكاملة الوعي. الحب/ المحبة، هي مبدأ أساس للحياة والوجود، وهي مبتدأ الكون. ولا يليق جعله حالة طارئة مرتبطة بتقلبات وهواجس المراهقة، لتتطاير مع دخول المرء في تكاليف الحياة والمسؤولية.

الحب تفاهم وانسجام وتشابه وثقة ومسؤولية متبادلة متكافلة بين طرفين ولامد طويل. هذا التفاهم والوعي والتكافل يحتاج شخصيات ناضجة تبلورت أدواتها النفسية والعقلية وعلاقتها الاجتماعية والاقتصادية بالحياة. لكن معظم حالات الحب وادعاءه، يكون بين شخصيات ناقصة الاكتمال النفسي والاخلاقي ومشوهة نفسيا أو اجتماعيا، مما اساء لصورة الحب ومفهومه.

الحب مطلوب لدى الكثيرين، نطقوا أو سكنوا. بحضهم يستسلم لعلاقات طارئة مستغلة، وبعضهم يبقى بعيدا عنها، بانتظار فرصة قدرية. وهو هنا حاجة نفسية وجودية، ولكن المؤسف، انه ما زال بعيدا عن واقعنا ومجتمعنا، وسوف يبقى كذلك، لانعدام البيئة المناسبة له.

(9)

(هروب داخل الذات)..

"في صغري كنت أجمع أحلامي وأسراري البريئة داخل صندوق مقفل، وأخبئه بين صدري ومخيلتي بعيدا عن عيون المتطفلين، وعندما تضيق حولي جدران بيتنا المكتظ بالمراقبين، مثل جدتي وخالي وزوجته وأبناؤه، ويشتد في نفسي الخوف والشعور باليتم، وتتوق نفسي للهروب بعيدا عن أعينهم، أفتح صندوقي المغلق وصدري للسماء، واطلق مع الريح رغباتي وأحلامي وأطير معها وحدي، الى عالم يخلو من الخوف، عالم يمكنني فيه ان اخلع ثيابي بالكامل، وأغوص في مياه الجداول وتحت الشلالات، وأجري وأقفز وأتسلق الاشجار العالية، مثلما يفعل أبناء عمي الذكور.."- ص33- الرواية.
كثير من المواقف والقرارات هي تعبير عن حاجة محض للهروب من الذات/ من الواقع/ من المجتمع. الدافع للهروب، هو عدم القناعة بالواقع أو المحيط أو العائلة، وبالتالي فقدان القناعة بالذات أو الوجود، والبحث عن فضاء/ محيط مادي أو معنوي يستجيب لبعض أسئلتنا النفسية.

الحب، الزيجات خارج العائلة، الانتمائات الحزبية أو التطرف الدينية، هي تعبير عن هروب للامام من واقع، غير مقنع.
الكتابة وفنونها والممارسات الابداعية عامة، هي تعبير عن الهروب من الواقع، والبحث عن الذات في مكان آخر، عبر اللغة والخط أو العوالم المتخيلة. وهذه عموما أكثر شيوعا في مجتمعاتنا مما في أوربا. والسبب هو في نقص مقومات الواقع الاجتماعي والسياسي عن تلبية احتياجات الانسان، أو اقناعه بنفسه.

وهذا هو مغزى القسرية والعسف الاقطاعي في الشرق. فالخوف والقهر عليه الحد من نزوع الفرد للتحليق خارج الواقع، أو التمرد على النظم والعادات القبلية الاقطاعية. ويلعب الدبن دور النظام الامثل لتدجين الفرد وفق ضوابط وأقنية غير قابلة للتجاوز أو التغافل.

وكلما زادت الكبوتات والجدران، ازداد البناء هشاشة من الداخل.

(10)

في هذه الرواية، نجحت ليلى جراغي في نفض الغبار عن حالة شائعة داجنة، مستمرة في الزمن بغير تطور أو علاج، للتنبيه لضرورة رفعها لمستوى النقاش والمساءلة، على صعد الفرد والجماعة، العائلة والحزب، الطائفة والقبيلة، الاعلام والدولة.
فالعائلة أساس المجتمع، والمجتمع أساس الدولة. والضعف في أحد الحلقات ينعكس على الآخر. والوضع العربي غير محسود على حاله.

من غير المجدي التقنع بالغرور وادعاء الكمال واشاعة مديح الذات والفخر بالقبيلة، بينما الهدر الاجتماعي والتاريخي والتسرب للخارج في نمو وزيادة.
لابد من مواجهة مع الذات وامتحان نظمنا ومبائنا الاجتماعية وقوانينا الدينية لاستنباط الصالح والنافع والمناسب لحياتنا وعصرنا، بعيدا عن الفنطازيات والغيبيات والهروب خارج الواقع.

ليلى جراغي- رواية (الصدأ)- ط1/ 2010.
ليلى جراغي: طبيبة أخصائية نفسية، روائية عراقية من اصول كردية، مقيمة في هولنده. نشرت ثلاث روايات: (الجدار)- 2009، (الصدأ)- 2010، (خيوط الوهم)- 2013.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى