الثلاثاء ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠١٥
بقلم عيسى حديبي

قراءة في رواية «نبضات آخر الليل»

في رواية " نبضات آخر الليل " الصادرة عن دار فيسيرا لسنة 2014 والتي كانت من القطع الصغير وجاءت في 105 صفحات.

في العتبة الأولى ظهر العنوان التجنيسي واضحا " رواية بوليسية " ولم تترك للقارئ اكتشاف ذلك،
ثم لم تكتف بذلك لتمر إلى العتبة الثانية؛ المقدمة؛ والتي كانت مختصرا لثاني شخصية (بعد ليلى) ألا وهي صافيناز؛ الشخصية المحورية لنبضات آخر الليل، وتمنح شخصيتها الورقية صفة الكاتبة المتخصصة في روايات الرعب.
ولا تكتفي المؤلفة بذلك لتخبرنا في الصفحة 13، عبر السارد، أن صافيناز أو كما تدلـّلها "صافي"كتبت رواية عنوانها " أشباح المدينة" وكأنها اختارت الليل منطلقا لموضوعها منذ البداية.

داخل النص؛ اختارت الكاتبة منذ البداية دور السارد مختفية وراء شخصيتها المحورية ليلى، والتي كانت تدور بدورها في فلك حول محور شخصية أخرى (صافيناز) ؛ التي منحتها صفة الكاتبة؛ إنها المرآة؛ وكأن الكاتبة وجدت صعوبة في البحث عن هذه الشخصية، التي اختارت لها صفة الكاتبة حتى تتمكن من تحريكها داخل النص، وعرجت بها كذلك عبر معظم مراحل السرد.

ظهر السارد كأحد أهم شخصيات الرواية بدوره الملتصق بليلى التي كانت شخصيتها التمثيلية وهي تمنحها دور الشرطية داخل سلك الأمن، مع زميلها كمال المفتش، تلميذ أبيها مراد؛ العميد المتقاعد. ثم شخصيتها التحليلية وهي تمنحها دور العاشقة التي تفلت منها حميميتها وعالمها الخاص.
قام السارد مختفيا وراء شخصية ليلى بتوظيف أدوات التشويق أو " السوسبانس"، كما هو الشأن بالنسبة للروايات البوليسية ؛ لما استرسلت في وصف طاوس وفاطمة و السائق آكلي، وعندما قرأت أيضا مذكرة صافي في وقت متأخر من الرواية ؛ كأنها تجر القارئ لإقتراف ذنب الشك واتهام أحد هؤلاء بالكيد لصافي صديقتها ودفعها للقلق والوهم ثم الإنتحار.

علقت الزمن السردي مرات، لما تناولت بالوصف صافيناز وزوجها رياض وكذلك أباها العقيد المتقاعد مراد و والخادمة طاوس والخالة فاطمة ، ثم بعد ذلك سمير محامي رياض، وخاصة حين دققت الوصف في المطعم أين دعاها لتناول العشاء وكذلك فيلة بن عكنون أين تسكن صديقتها كاتبة " أشباح المدينة".

تزيد الأمر تعقيدا حين تقرأ مذكرات صافي بعد موتها، وتبرز علاقة رياض مع طاوس.
ثم تفتح النافذة من جديد على سمير المحامي، لتحوله فجأة إلى شخصية محورية. وتغير مسار السرد من البحث عن جلاد وضحية إلى قصة حب تعود لتحيا من جديد؛ وكأنه إعادة بعث لحياة الرواية بعد موت البطلة صافي وتجمد الأحداث.ص66 حتى نهاية الرواية.
وفقت الكاتبة في ذلك وهي تكثف من الوصف في الإرتباك الذي حصل بينها وبين سمير، وانفعالات الحب، وفي نفس الوقت لم تنس البحث عن قاتل صافي ومحاولة تبرئة صديقها رياض من جريمة قتل زوجته.
تواصل الكاتبة عبر النص حمل القارئ على البحث والتقصي معها، لأجل معرفة المجرم، وفي نفس الوقت نهاية قصة حب ليلى وسمير المحامي.

اختيار الكاتبة لشخصياتها الورقية كان مطابقا تماما لموضوعها الذي حبكته بعناية، وتم لها ذلك بطريقة الوصف التي استغرقت حيزا، رتبت فيه وضبطت بطاقة التعريف لكل شخصية على حدة. في حين تركت الخيوط الأخرى لآخر الرواية وبذلك أقحمت القارئ مع ليلى في متابعة البحث حتى النهاية. وكأحد الأمثلة عن ذلك اختيار الكاتبة عبر بطلتها صافيناز للسائق آكلي بسوابق عدلية، أكيد هذا كان سيثير الشك عند رياض زوج صافيناز، ويورط القارئ معه.

عبر السارد (ليلى) ؛ يمكن ملاحظة الكاتبة وهي تذهب إلى تكسير الزمن بتوظيف تقنية الإسترجاع؛ تتذكر ليلى أيام الثانوية ....تصف صافيناز ورياض و هي (ليلى) وكيف كان كل واحد مختلف عن الآخر تماما. كذلك حين وجدت ليلى مذكرة صافيناز وتناولتها بالقراءة لتزيد من الغموض لدى القارئ حتى يـُلحق التهمة برياض.

ومضى السارد في موجة تشويق، عبر وصف ليلى لغرفة صافي وفراشها ورائحة عطرها أثناء بحثها عن "الكراس "(كما عبرت الكاتبة)؛ أين تكون صافي قد كتبت فيه مؤشرا أو أثرا يقود إلى شرح الجريمة. ترجع ليلى في الوقت ذاته، عبر التذكر، إلى تشريح نفسية صافي القلقة، الشفيفة والمفرطة الإحساس.الميالة إلى تدوين كل شيء، وهي الباحثة عن الوحدة والعزلة والإنقطاع؛ لتبقى متلذذة بخيالاتها وشخصياتها الورقية التي تمنحها الحياة والأدوار عبر رواياتها.ص71 /73.
ينتهي السارد، المختفي وراء ليلى، في الأخير، بعد بحث طويل بين الكتب، إلى كراس مغلف بجلد أحمر، مكتوب بخط صافيناز الذي تعرفه. لكنها تترك القارئ من جديد يشتاق وينتظر بقية أحداث الجريمة، لتنقله مباشرة إلى علاقتها مع سمير المحامي، وكأنها تلعب مع القارئ لعبة "السوسبانس" والخطر ثم موسيقى الحب والإرتباك.ص74/80

يمكن ملاحظة السارد المختفي دوما وراء ليلى منذ بداية الرواية وهو يمارس الضغط على القارئ بشكل ملفت للإنتباه. تركه يبحث مع ليلى على خيوط الجريمة. كما مسح على قلبه شيئا من عناء البحث تحت خدر قصة الحب وانفعلات ليلى مع سمير المحامي.
يمكن الإشارة أيضا إلى الترقيم الذي أهملته الكاتبة بعض الشيء؛ خاصة عندما يتطلب الأمر التوقف بنقطة تنهي الجملة؛ شأنها في ذلك شأن الموسيقى حين تنتقل من حركة إلى أخرى.

يمكن رصد حالة اجتماعية نفسية، تطرقت إليها الكاتبة وهي ترسم مأساة، كان ضحيتها في المقام الأول، الأم فاطمة ووحيدها سمير؛ اللذين تحولا بفعل الشعور بالظلم والإقصاء إلى جلاد حقيقي. الترسب النفسي و الكبت جعلاهما يتحولان إلى مجرمين وشاءت الصدف أن يكون رياض وصافيناز ضحيتهما الإستراتيجية لتنفيذ مشروعهما الإنتقامي.

كما يمكن ملاحظة حالة الإسقاط التي أظهرت فعلها عبر العميد المتقاعد مراد واتجاه ابنته ليلى إلى نفس القطاع من العمل؛ وهذا أمر شرحه علم النفس ( ميول البنت لأبيها)
" تلقي ليلى بنفسها في أحضان والدها باكية كطفلة صغيرة...". ص 51 .
وتنفيذ مشروع الأم فاطمة عبر قناة الوصاية الأبوية؛ وهنا (ميول الإبن لأمه).
كان ذلك عبر الحوار الذي دار بين سمير وأمه في غرفتها ..
الأم فاطمة " لن أسمح لك بالزواج منها، أأصبت بالجنون؟" ص 97 (....)
سمير المحامي" تعبت منكِ ومن تحكمكِ في حياتي. لقد قررت وانتهى ،لا يمكنك تغيير رأيي" من نفس الصفحة.

كان بإمكان الكاتبة أن تختار شخصية المفتش كمال لدور ليلى، في حين تترك لليلى دور كمال الذي ظهر ثانويا حتى نهاية الرواية تقريبا؛ إذ لم تمنحه سوى ومضة اعتبار من النص الذي التهمته ليلى التهاما. كما اختارت صافيناز كاتبة(أنثى) ولم يكن شخصيتها الورقية ذكرا؛ اسقاطات يمكن ملاحظتها، في حين أنها لم تؤذ النص فنيا، لكن يمكن أن نشم رائحة محاكاة داخل النص؛ بحث الكاتبة عن بيئة مثالية وشعور نسوي متفوقun sentiment féministe .

نبضات آخر الليل؛ رواية بوليسية اعتمدت فيها الكاتبة على الوصف. كذلك اختيارها كان موفقا إذ كانت تـُذوِّب شخصياتها في النص على نار هادئة.
كانت الرواية عرضا مأساويا وعينة لنهاية عائلات كبيرة، جرفها صراع الطبقات. إنه التدمير وإعادة البناء من جديد.

الطبيعة المهنية، إن صح التعبير، للكاتبة ؛ ظهرت في عملها الفني، عبر انتقالها في النص من مرحلة إلى أخرى، وما يعرف بالصحافة الإستطلاعية، ساعدها في خوض غمار النص بسهولة ومرونة حين كانت تمرر أسئلتها وتغذي بحثها هنا وهناك.

بغض النظر عن طبيعة جنس العمل الروائي الذي ضرب بظلاله منذ البداية على مساحة النص، لا يمكن تجاهل الجانب الأدبي الجميل الذي ظهر جليا وخاصة على المجال الوصفي الذي أسهبت فيه الروائية نسيمة بولوفة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى