السبت ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
التي أدمنتْ قرعَ الباب
بقلم عبد الرضا علي

قراءة في«لآلئ» شادية حامد

ذكرَ ابنُ رشيق القيرواني عن بكر بن عبد الله المزني أنّه قال: «من أدمن قرع البابِ وصل»⁽¹⁾، وها هيَ شادية حامد تصلُ إلى ناصية الشعر بقصيدتِها الموسومة بـ«لآلئ» بعد أن أدمنت قرع بابه بإخلاص ٍ ودربة ٍ وتأثّر .

أوّلاً – النصّ ُ:

لآلئ

...إلى محمّد بنطلحة

طويتُ همومَ نفسي وانشغالي
وجِئتُـكِ كي أنعّمَ في الوصالِ
 
فيا بيضاءَ يا داري وشمسي
ويا نهـراً تدفّـــقَ بالــــــــزُلال ِ
 
ويا أهلاً أجابوا من أتـــــاهمْ
وما تركوهُ يُلحِفُ بالســـــؤآلِ
 
فلي منكم خِلالٌ كرّمتنـــــــــي
وحبُّكُمُ طباعٌ من خِصالــــــــي
 
ولــــــي فيكُمْ رموزٌ أدهشــتني
بما شعّت ْ وضاءت ْ من ليــالِ
 
فذا «القنديلُ في ريح ٍ» تدلّـى
وتلك"سدومُ"غابتْ في المُحالِ
 
وظلّت ْ «غيمة ٌ» تتلو «نشيداً»
تُنظَّمُ بالزمُرّدِ واللآلــــــــــــــي
 
كأنَّ رُخامَـــــها قد جـاء سهواً
من الإغريق ِ يُحمَلُ بالرجــــالِ
 
أنارَ بها ابن ُ طلحة َ لي طريقاً
فوسّعَ عالمـــي وبنى خيــــالي
 
ومالـــي غيرُ أن ْ أهفو لربّي
يُنيلُ "محمّداً" أحلــــى نوالِ
 
ويرعى فاسَنا في كلَّ حـــين ٍ
فقد منحتْهُ ناصيَة َ المعالــي

ثانياً – القراءة:

تكشفُ هذه القصيدة عن أنَّ هذه الشاعرة قد تمكّنت من العبور إلى الضفةِ الأخرى من النهر على نحوٍ من فراسةٍ في العومِ المدرّب الذي أثبتَ نجاحه في تلافي مخاطر الأمواج حين تُثيرُها فلسفة ُ النصِّ وتقنيتُهُ وإيقاعه.

فموضوع هذه القصيدة (أو فلسفتها) يقومُ على إزجاء التحيّة لمدينةٍ جميلةٍ أحبّتها الشاعرةُ بعد أن انتشرَ ضوعها في جنبات التاريخ العربي، وفاح في تضاريس رغبتها العرفانيّة البيضاء (كازا) ومن خللها إلى كلِّ التراب المغربي، باعتبار أنّ ذكر الجزء هنا يراد به الكل. كما تقومُ من جانبٍ ثان على تقديم العرفان لأهلِها الطيّبين الذين أحسنوا وفادة الشاعرة وأكرموها بوصفها ضيفة دائمة لمدينتهم العريقة، وهي بدورها تقدّم عرفانها لكلّ المغاربة على وفق الاعتبار نفسه (ذكر الجزء دلالةً على كلٍّ مراد).

إنَّ إزجاء التحيّة مدحاً، وتقديم العرفان اعترافاً يوضحان للمتلقّي بما لا يدع مجالاً للشكِّ أنَّ بطلة َالقصيدة تدينُ للأرضِ وناسها بديون ٍمعنويّة جوهريّةٍ عظيمة، تبدّت في البناء المعرفيّ والنفسيّ والثقافيّ لها، وهي تصرّح بها ولا تلمّح:

ولــي فيـكُمْ رموزٌ أدهشــتني
بما شعّت ْ وضاءت ْ من ليالِ

ويبدو أنّ هذه الرموز عديدة بدليل قولها: " أدهشتني" لكنّ القصيدة اكتفت بالإشارة إلى الرمز الثقافي المغربيّ الكبير الشاعر والأستاذ الأكاديميّ محمّد بنطلحة. فقد أوضحت أنّها تأثّرت بآثاره الإبداعيّة، ممّا كان لها فعلها المعرفيّ في ترصين ذائقتِها الشعريّة، وتوسيع دائرة اكتسابها الثقافيّ، أو أنّها رأت في تلك الآثار إدهاشاً، وإثارةً، وابتداعاً، ومخالفةً للسائد، سواء أكان ذلك في نصوص مفردة، أم في مجاميع شعريّة مطبوعة⁽²⁾.

لمّا كانت اللغة أسمى أدوات تشكيل النصِّ الإبداعي سواء أكان سرديّاً أم شعريّاً، فإنَّ دور المبدع يتجلّى في جعل ِلغتِهِ بعيدةً عن التقعّر والإبهام المفتعل، لاسيّما في النصوص التي تتناولُ رموزاً معيّنة ً، وتلقى في محافل أدبيّة جماهيريّة، أو في أماسيَ ومهرجانات شعريّة تختلف فيها أطياف المتلقين الثقافيّة وتتعدّد ألوان استجاباتهم، وإن توحّدوا في الشأو الذي اجتمعوا من أجلهِ.

ولمّا كانت هذه القصيدة قد كُتِبتْ لتلقى في المهرجان الدولي للشعر والزجل في دورته السادسة (الذي أقامته جمعيّة بادرة للتواصل والتنمية الاجتماعيّة في الدار البيضاء وكنتُ رئيس لجنة التحكيم فيه)، فإنّ الشاعرة حرصت على أن تكون لغة َ نصِّها واضحة ً لا لبسَ فيها ولا غموضَ يضعان ِ بعض الحجبِ بينها ومتلقّيها، ومثلُ هكذا دراية وانتباه يرفعان من دور الأداءِ والتعبير، ويحصّنانِ النصَّ من الوقوعِ في دائرةِ النبوِّ التي تزري به. والمباشرة هنا ليست مقبولة ً فقط، إنّما هي مطلوبة يستدعيها الفضاء،وتقتضيها المناسبة، ويرتضيها المتلقّون، إن لم نقل أنّهم يطلبونها في دواخلهم بإلحاح ؛ إراحة ً للذهن من كدٍّ لا يُناسبُ الفضاء ، وهذا ما عناه ييتس (في مثل هكذا مواقف) حين قال: " أشعرُ أنّ شعرَ الشاعرِ ينبغي أن يكونَ مباشراً وطبيعيّاً مثل كلامٍ محكيّ"⁽³⁾، لأنَّ التغميض أو الخفاء إذا تناهى إلى حدّ ٍ بالغ ٍ تحوّلَ لغزاً، وهو عيبٌ غير مرغوبٍ فيه في الإبداع.

إنّ نصّ شادية حامد "لآلئ" يحملُ من مقوّمات الجمال والفن ما يجعله قميناً بالإشادةِ: لغة ً سامقةً، ونسيجاً مكتنزاً بالبناء العام، وإيقاعاً شجيّاً ناسب الموضوع وتماهى فيه؛ فالشاعرة قالت الكثير في أحدّ عشرَ بيتاً، ولم تُسهبْ فتجعل النصَّ يترهّل، ولم تطنب فيعتورها الاسترسال، إنّما كان نصّها على درجة عالية ٍ من جماليّة التركيز في إيصال المبتغى للمتلقّي عن طريق الإفادة من تقنية المناجاة النفسيّة التي اصطلح عليها بـ"المونولوج الدرامي" في إقامة الحوار مع النفس، مع تداخل مقصود بالحوار الخارجيّ مع الآخر، وهذا التداخل في الحوار الداخلي والخارجي قاد النصَّ(بوصفه إبداعاً) إلى الرمز الذي سعى إلى تكريمه ،وقاد الشاعرة إلى الإفصاح عن مثالها الشعريّ(محمّد بن طلحة) بوصفها مبدعة بما يُشبهُ حُسنَ التخلّص الذي اشترطه النقدُ القديم للعبور إلى الضفة المطلوبة من غير تمحّلٍ مقيت أو إسهابٍ مملٍّ، لأنّ العربَ تميلُ إلى الإيجاز، وتكره الإسهاب انطلاقاً من كلمتهم الدالّة : خير الكلام ما قلَّ ودل، وقد" جاء في الأخبار أنَّ أبا سفيان بن حرب قال لعبد الله بن الزبعرى: مالكَ تُسهبُ في شعرِك؟ قال:حسبُكَ من الشعرِ غرّة لائحة، أو وصمة فاضحة، ذكر ذلك ابنُ أبي الحديد في شرح نهج البلاغة"⁽⁴⁾

اختارتِ الشاعرةُ موسيقا الوافر ِ إيقاعاً لهذه القصيدة، والوافرُ من البحورِ المركّبة، لكنَّ وزنَهُ في الدائرة العروضيّة يوحي أنّه مفردٌ، فهو فيها على النحو الآتي:

مُفاعلَتُن مُفاعَلَتُن مُفاعَلَتُن
مُفاعَلَتُن مُفاعَلَتُن مُفاعَلَتُنْ
 
في حين أنَّ المستعمل منه
في التام هو التشكيل الآتي:
 
مُفاعَلَتُن مُفاعَلَتُن فعولُن
مُفاعَلَتُن مُفاعَلَتُن فعولُن

ولذلكَ حاولوا تبرير هذا الاستخدام فقالوا بوجوب قطف عروضِهِ وضربِهِ⁽⁵⁾،مع مراعاة أنَّ زحافَ "العصب" وهو إسكان الخامس اللام في "مُفاعَلَتُن" فتصير "مُفاعَلْتُن" بسكون اللام وتنقل إلى "مَفاعيلُن" المساوية لها بالحركات والسكنات كثيراً ما يدخلُ حشوَه، ومثاله قول شادية في المستهل:

طويتُ هُمومَ نفسي وانشغالي
وجئتُكِ كي أنعّمَ بالوصالِ
مُـفاعَلَتُن مفاعـيلن فَعولُـــــــن
مُــفاعَلَتُن مُفاعَلتُن فعولُن

وهذا الإيقاع(الوافر التام) يميلُ إلى التدفّق، ويمتاز باستثارة المتلقّي وهو يتقبّل شحناته الخطابيّة، ولعلَّ دخول زحاف العصْبِ في حشوه هو الذي مكّنه من التلوين الموسيقي لكونه يصلح لكلِّ أمرٍ من شأنهِ استثارة السامع، أو كسبه سحريّاً،أو إغراقه في الحزن والفجيعة إذا ما تطلّب الموضوع ذلك،لهذا كثر استخدامه في الفخر والرثاء والاستعطاف⁽⁶⁾،وحسناً فعلتِ الشاعرةُ حين اتّخذته وزناً لموضوع قصيدتها، لأنَّ " علاقة الوزن بموضوع القصيدة علاقة عضويّة، فإنْ أحسن الشاعرُ اختيار الوزن أحسنَ في تحريكِ الموضوع وتقديمه، وإن أخفقَ في الاختيار أخفقَ في المعالجة"⁽⁷⁾.

ولعلَّ أيَّ استقراء للنصوصِ العظيمة التي ظلّت محتفظةً بعواطفها لدى المتلقين سيثبتُ أنّ اختيار إيقاعاتها الموسيقيّة كان أحد أسباب عظمتِها في الأداء والتوصيل.
طوبى لشادية بهذا الوصول الذي نحسبُهُ وصولاً يُحمّلها مسؤوليّة القادم من إبداعها المنتظر.

هوامش:

العمدة في صناعة الشعر ونقده،تح:محمّد محيي الدين عبد الحميد، 204،دار الجيل، بيروت 1972م.

حرصت الشاعرة على الإشارة إليها ضمن متنها الشعري، فمن المفردة كانت" قنديلٌ في الريح" ومن المجموعات كانت: " سدوم" ط1،الدار البيضاء،1992م، و" غيمة أو حجر" ط1 منشورات الاتحاد العام للأدباء العرب،بغداد،1995، و" نشيد البجع" ط1 منشورات اتّحاد كتّاب المغرب،1989م، علماً أنَّ للشاعر مجموعات شعريّة أخرى هي: "بعكس الماء" ط1 الدار البيضاء،2000م، و" ليتني أعمى" ط1،منشورات فضاءات مستقبليّة،الدار البيضاء،2002م، و" قليلاً أكثر" ط1 منشورات دار الثقافة،الدار البيضاء،2007م، كما أنه أصدر سيرته الشعريّة ووسمها بـ" الجسر والهاوية" وقد صدرت طبعتها الأولى عن فضاءات مستقبليّة ، الدار البيضاء،2009م، فضلاً عن كتابه النقدي " قضيّة السرقات الشعريّة في كتاب الموازنة للآمدي" ط1،منشورات فضاءات مستقبليّة،الدار البيضاء،2009م، كما صدر عنه كتاب " محمّد بنطلحة شاعر الأعالي – مقاربات نقديّة " شارك فيه أكثر من عشرين باحثاً وناقداً، وكان من إعداد: عزيز الحاكم، وهو من منشورات مؤسّسة نادي الكتّاب في المغرب، 2010م.

بدلالة: عبد اللطيف أطيمش في "توابيت عائمة" ص:7.

بدلالة مصطفى جواد في "قل ولا تقل" ص:229.

يُنظر كتابنا: "موسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه" ص:109، والقطف:علّة مؤلّفة من"علّة" الحذف، وهي إسقاط السبب الخفيف (تن) وزحاف"العصْب" وهو إسكان الخامس(اللام) فتصير تفعيلته في عروضه وضربه "مفاعلْ" وتنقل إلى "فعولن" المساوية لها بالحركات والسكنات.
نفسه،112.

كتابنا " نازك الملائكة الناقدة"، 154.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى