الاثنين ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
بقلم هيثم نافل والي

كل شيء إلا الخيانة

عزيزي هيثم:

أنا نادية، من أشد القراء إعجاباً بما تكتب من أدب قصصي، لذلك تشجعت وبعثت لك برسالتي هذه...

أرجو أن لا تخيب أملي أو ترفض طلبي: أن تكتب حكايتي قصة، فهي وعلى الرغم من مراراتها وقسوتها، مفيدة لأبناء جيلي، لعل الأزواج يتعظون، والزوجات يدركن!!

استناداً إلى قول الجاحظ- رحمه الله:

جعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من قبلنا، كحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا...

لذلك ادعوك راجية أن تكتب حكايتي قصة؛ ولكن دون تقييد بالأصول والشروط الواجب مراعاتها أو اتباعها في كتابة القصة القصيرة، لأنني أريد أن أمنح قصتك التي ستكتبها عني بريقاً مذهلاً، يدهش القراء ويدفعهم بلذة لقراءتها، كون التقييد في الفن، كالتقييد للحريات... لا يؤدي إلا إلى القهر والبعد والحرمان.

لقد فكرت كثيراً قبل الشروع في كتابة حكايتي، وخاطبت نفسي، وكأني لا أعني ما أقول:
من أين أبدأ؟! رأف الله بحالي... ثم قررت بسرعة، كالعاصفة وقلت: سأبدأ من أهلي أولاً؛ فهم سبب وجودي، ونواة كياني وشخصيتي وربما لهم التأثير الأكبر في تركيبتي وصياغة أخلاقي!!

هجرت أمي أبي.

لكن أبي لم يرضخ لهجرة أمي، ولم يطلقها!!

وأمي لم تتنازل وتترك البيت؛ بل اكتفت بمقاطعته جنسياً!!

الأسباب التي دفعتها لفعل ذلك كانت كثيرة، أهمها- بخله على أسرته، سكره ومعاقرته المومسات - الآئي يترددن على ورشته، تلك التي جعلها للرزق وتعاطي المزاج!!

عشق أبي الخمر، أحب النساء، وانغمس في الملذات الشيطانية، وكأنه متشرد، لا أسرة له!!
لقد كان جاهلا، اقصد أمياً، عكس أمي التي أنهت دراستها الابتدائية.

امتاز بقامة عريضة، قصيرة، وبصلعة تلمع، كالفضة كلما انعكس ضوء الشمس عليها؛ بينما كانت أمي أطول منه بنصف متر تقريباً؛ ضخمة الجثة، وصوتها هادر، عريض، وغالباً ما كانت تندمج مع نفسها بغناء ريفي حزين، رائع، فتسقط دموعها بغزارة دون وعي منها أثناء ترتيلها لتلك الترانيم العراقية، القروية الشجية الأصيلة.

أدمن أبي على أن يكون مع زوجته قاسياً جداً، وكأنها عدو! عاملها بخشونة وفظاظة، وفي أحيان كثيرة كان يضربها ويشد شعرها الحني الطويل، الجميل، برعونة ووحشية، خاصة عندما يجن الليل!!
في حين اختلفت معاملته مع بناته، فقد ظل معهن رحيماً، ودوداً، لطيفا ومبذرا...

أمي كانت تعلم عن رذائله كل شيء، ومع ذلك بقيت له وفيه، رؤوفة ورحيمة معه أثناء النهار... وما أن يقبل الليل عليها، حتى تلبس شخصية أخرى، وتضع على وجهها ملامح الحزم والصرامة والعبوس، وربما كنت ألاحظ الكره يعلو نظراتها، عندما تزر أبي بعينيها الخضراوين، وتراه وهو يعاقر الخمر وحيداً في غرفة الجلوس التي لا يقبل لأحد شراكته بجلسته تلك، مهما حصل!!

وقد تعودنا نحن- بناته الثلاث - أن نترك الغرفة لحظة دخوله البيت عائداً من عمله، ونختبئ في غرفتنا وننكمش على أنفسنا مذعورين، كالقطط( رغم وداعته ولطفه معنا )

لم تستطع أمي- رغم محاولاتها المتكررة- أن تغير من سلوك أبي الشائن شيئاً.

رضخت للأمر الواقع، قبلت بقدرها، فأصبحت له زوجة ولكن، بلا رجل!! زوجة في الأوراق فقط، أمام الناس والمجتمع... وفي واقع الحال عاشت زاهدة منه، لا تتمتع بأي حقوق زوجية، ووافقت على حياتها وتحت وزر القهر والحرمان ذاك... من أجل بناتها وحياتهن، ومستقبلهن.

في الليل، يتغير لون وجه أمي الأبيض الملائكي... فيبدوا أسود ممتقعاً، ثم أسمع صوتها اللجوج، اليائس، الخائف يرتفع في أرجاء البيت وهي تنادي وتطلب ابنتها الصغيرة...
ليس لأن تقبّلها قبل أن تنام، أو تحكي لها حكاية من حكايات الأطفال، بل لتدعوها أن تتمدد بجانبها، أن تبقى في حضنها... معها في السرير، لتتوسط بين الزوجين، لتحمي الأم من إزعاجات وإلحاح الزوج المهجور!!

البنت الصغيرة كانت تسمع توسلات الزوج وهمساته، أنينه، وشتائمه البذيئة... ثم ترى الأم وهي تصده وتتمسك بابنتها وترصها إلى جانبها بقوة، فتكاد أضلعها الفتية، الرقيقة تنخلع من مكانها أو تتحطم.

تعي الطفلة، تبكي، تتلوى تحت الغطاء وبين أضلع أمها الدافئة... مدفونة، محبوسة بالآهة والقلق والرهبة، تنظر بعينين بريئتين مكبلتين بالخوف إلى أمها وهي ترى أباها يشد شعر أمها من فوق رأسها ولم تبد حراكاً... سوى الكتمان والشعور بالكره لأبيها البغيض...

كل شيء كان على مرأى ومسمع منها، قبل أن تغفو وتنام... وهم لا يدركون.

تباً لقهرهم ولرعونتهم ولغبائهم البليد.

تلك الساعات البطيئة من الليالي المظلمة، القاسية، الحقودة، المؤلمة التي كانت تمر عليها وهي لا تقوى إلا على السكوت والتقهقر والرضوخ، من أجل أمها.

ترعرعت تلك الطفلة بين أحضان التمنع والقسوة، بين جنون وهوس الزوج المهجور والزوجة الزاهدة، البائسة، المحطمة.

كبرت الطفلة وأصبحت فتاة في سن الزواج وهي تخاف الليل، وتتمنى أن لا يكون أو يعود عليها مجدداً!!

عاهدت نفسها بأن لا تجعل حياتها امتداداً من حياة أمها وأبيها، أن لا تتكرر المأساة في بيتها الزوجي المستقبلي... أن لا تمارس الضغط على أبنائها أو أن تشاركهم مأساتها إن حصلت.

كان لتلك الفتاة وجه ناصع البياض، يتوسط بين شعر رأسها الأسود الكثيف، فيبدو وجهها، كقمر في ليلة ظلماء... اتسمت بقوة الإرادة التي لها صلابة الصخر، وفي ذات الوقت كانت رقيقة، كالفراشة... لها ولع العشاق في الحلم، وقوة الأنبياء في الإقناع، رغم قلة كلامها، في حين غلبت عليها نزعة أدبية رائعة، ملكت عليها كل كيانها...

عشقت يوماً شاباً يكبرها ثلاثة أعوام... كان نحيفاً ولسحنته لون الأرض، متعلم، وعلى درجة من الثقافة، من أسرة فقيرة، وله ميول فنية متواضعة، وأكثر شيء مميز فيه، هي عيناه اللتان لهما لون البن، براقتان ومسرورتان وتضحكان دائماً، لتضيف له وسامه منقطعة النظير، رغم نحوله وضعفه اللافت، وكأنه ابن قديس.

أحبته بجنون، وغزتها الذكريات الأليمة التي عاشتها في تلك الليالي المظلمة، وترددت بعد أن نشطت ذاكرتها وطغت على ذهنها، فأحست بالخوف والرهبة، من أن يحصل لها، ما حصل لأمها... وظلت تعيش الحيرة والقلق والتردد لشهور طويلة، ثم قررت أن تقول لحبيبها عن سر مأساتها، وحصل.

عزيزي هيثم:

في الواقع، أن الحكاية التي أريد أن تكتبها لي قصة، ليست هذه ولا تتعلق أصلاً بمأساة أهلي، بل حكاية أخرى تماماً!! فلنرجع إذن إلى صلب الموضوع وجوهره:
الطفلة التي حدثتك عنها قبل قليل، كان اسمها نادية؛ هذا يعني، أنا التي أكتب لك حكايتي، هل تصدق؟!

وعندما كبرتُ، وتزوجتُ، وأصبحت لي أسرة...

تورمت في حياتي مشكلة كبيرة؛ حاولت معالجتها، بسرعة وحكمة وبسرية تامة! خاصة، عندما توجست الخطر وشعرت بقرب انفجارها... فوصلت إلى حالة- دون وعي مقصود - أكاد أكرر فيها، مأساة أمي وأبي في بيتي الزوجية!!

وها أنا أكتب لك محاولتي وحكايتي، كما هي، عارية كالفجر، واضحة وصادقة كالشمس.

ترى، ماذا تعني الخيانة الزوجية؟!

بل كيف لنا أن نعرف بأن هذا الفعل، خيانة وليس شيئاً آخر؟!

لا... أنا لا أقبل بهذا المنطق العقيم، المفتعل!

فالخيانة هي الخيانة.

سواء كانت نظرة، أو لمسة، أو فعلا شريرا ينافي الأعراف والأخلاق البشرية والإلهية؛ وكل ما يقع تحت هذه المدلولات اعتبرها خيانة وجرم، وجرح كرامة، وإهانه لشخصي المتمثل بي، كأنثى، ككيان ثابت، موجود، يعيش على الأرض حتى وإن كنت متزوجة؛ فالزواج في عرفي لا يلغي الثوابت التي أؤمن بها، خاصة فيما يتعلق ويدرج تحت معنى الخيانة... سواء كانت كبيرة أو صغيرة، سواء تعرف زوجي على فتاة، أو نظر إلى أخرى، فالجرم في شريعتي هنا هو ذات الجرم، ولا يختلف عليه الحكم!!

في إحدى الأيام وبعد غياب الشمس بقليل، أغلق زوجي سعدون باب غرفة النوم، نصف إغلاقه في شقتنا المتواضعة على نفسه... أندفع الدم في عروقه حاراً، الهلع يعصر قلبه، وآهة الصراخ المكتوم تتجمع في صدره؛ الغرفة التي حاولت جاهدة أن أجعلها أنيقة بأثاثها، جميلة في إنارتها وستائرها وساحرة في عطرها وطلائها...

أغلق زوجي العزيز باب الغرفة عليه، نصف إغلاقه - كما قلت - وهو يبحث عن حقيبتي اليدوية، التي لا أخرج بدونها أبداً، في خزانة الملابس...

وما أن ألتقطها حتى همَّ بفتحها بأصابع مرتجفة وبسرعة فائقة، وعينيه تتلصصان وتدوران في المكان كالسارق، وهو يتابع البحث فيها بقلب راجف مقهور، ونفس قلقة، متهدمة، لا تحمل في حناياها سوى الشك والغل والتشاؤم، وقلة الحيلة، والعرق يلمع على جبينه فصوصاً...

كنت أنظر إليه بطرف خبيث ممزوج بالفرح المغتصب الغريب، معجون بالحزن والخوف والألم... ويا لها من لحظات... كانت تمر عليّ، وكأني في حالة وضع عسير في أول ولادة.

وبعد جهد مضنٍ، عثر على ما كان يبحث عنه...

رمق الحقيبة بنهم مكظوم وصرخ بصوت مكتوم وهو يمسح شفتيه اليابستين بلسانه:
الخائنة!! ها هي الرسائل في يدي.

المجرمة التي ستنال عقابها دون رحمة، وسأدق رأس شريكها، كائنا من يكون، ثم أردف متشنجاً بتأثر:
لقد كنت على حق، وشكي كان في محلة!! وهذا هو الدليل... ( وهو ينظر إلى اللفائف الورقية بحقد وغل وكره، ويعصرها بيده بقوة، وكأنه يخنق زوجته )
ثم بدأ بأنفاس متقطعة، وبأصابع مرتجفة، يفتحها الواحدة تلو الأخرى وهو يشهق بالعبرات، والدم في وجهه يغلي...

فتح أحداها بجرأة اليائس، وقرأ بعينين زائغتين، متوترتين:

حبيبتي نادية، انتظريني في الوقت والمكان الذي تعرفينه، وسأكون هناك على أحر من الجمر.
لم يعد يستطيع الوقوف... بعد أن تذكر فجأة، عدول زوجته عنه وزهدها في مضاجعته في الأشهر الأخيرة!! تذكر قلة كلامها، انطواءها، انعزالها، شرودها وعصبيتها المتفجرة الثائرة في كل صغيرة وكبيرة... تلك الطباع التي لم يعتدها فيها من قبل!!

تقهقر مترنحاً وكاد يسقط مغشياً عليه، ثم مسك بطرف السرير وحاول الجلوس، وهو يبدو كعجوز يحتضر... ثم فتح الورقة التالية وقرأ بعينين مطفأتين:

سأكتفي بما تمنحينني أياه... فالقبلة من شفتيك الورديتين، التي تشبهان فلقة الثمار الطازجة، تجعلني أعيش أيامي كلها منتشياً، كالسكران... فلا تتأخري وكما تعودنا... عند ذلك المكان الذي بدأت اسميه- معبد حبنا -

انتبه إلى نفسه، ثم إلى الرسائل...

قلّبها بسرعة، وبدأ يقرأ نهاياتها، فوجدها جميعها دون توقيع أو اسم!!
سرت رعدة ورعشة في بدنه، أخذ يتنفس ببطء، ثم وقف في وسط الغرفة وهو ينظر إلى حفنة الأوراق التي بين يديه، ويردد بسرعة، لها سيولة الهذيان، مخاطباً نفسه:
ماذا يعني ذلك؟! وتابع بفم جف لعابه، وبوجه شاحب، ناشف، ممصوص، كوجه من قام من قبره للتو:

إنها من شخص أعرفه!!

لذلك خاف من ذكر اسمه!!

احتمال وارد، بل منطقي!!

ترى منْ يكون؟!

وأين هذا المكان الذي وصفه هذا التافه، بمعبد حبه؟!

كما أعلم، أن زوجتي لم تغب كثيراً عن البيت أثناء خروجها...

إذن، لابد أن يكون المكان قريباً، والشخص المزعوم لا يسكن بعيداً!! ثم صاح نائحاً دون وعي، كامرأة مات طفلها في بطنها:

كل شيء إلا الخيانة!! ثم صال، كالجمل:

ولكن، منْ يكون هذا المعتوه، الغاشم الذي يعرفني، يدخل داري، يسامرني ويخونني؟!
تباً له ولزوجتي المجرمة، الآثمة!!

لم يكمل قراءة الرسائل التي وجدها ملفوفة، كالقصبة...

خرج من الغرفة ودليل الخيانة في يده، وعوى منادياً بقسوة، وبصوت نحاسي غريب:

نادية... نادية، أين أنتِ؟! تعالي إلى هنا... هيا...

امتثلت بين يديه، وهو في شعور متناقض، بين الحياة والموت، شعور لم يذقه أو يحسه من قبل؛ كان مزيجا من الفرحة والألم، من النصر والخسارة، من الضحك والبكاء...

وقفت منتصبة لا ألوي على شيء وأنا أرخي أهدابي، وقلت في هدوء هامسة:

نعم، هل تريد مني شيئاً؟!

 باستهزاء وهو يلقي رأسه إلى الوراء: وتسألينني كذلك؟

 بحزم وهي تهز كتفها: لقد طلبتني، فلبيت، ماذا تريد؟

 الحقيقة!!

 بدهشة مصطنعة: أية حقيقة؟!

 بامتعاض وجزع وصوت مرهق، مليء بالأم والحسرة:

لا تتجاهلي الفعل الشائن الذي قمت به، ثم أردف بتهور أحمق، كحمق نعامة:
لا توجهي لي أسئلة!! أنا هنا منْ يسأل!!

 بكبرياء وعناد يفتت الحجارة: أنها مشيئة الله!! وأضافت بلا مبالاة:
ماذا تريد أن تعرف؟

 في عجز، والكلمات كانت تخرج من بين شفتيه، كالضجيج:

لا تستخفي بعقلي!! ثم تمتم بشك جامح، وبصوت له رنة صفير الريح:

كل شيء... وهو يرفع حفنة الأوراق المعروقة بين يديه عالياً، كخرقة مبللة.

 قالت بنبرة لاهثة، وصدرها يرتفع وينخفض، وهي تداري غضبها:

أعلم إذن، بأننا لو تكاشفنا... ستكون الخاسر!!

تردد سعدون لبرهة، سعل قليلاً، وماء كقطة جائعة:

لا يهمني الآن شيء، ولا أفكر إلا بمعرفة الحقيقة، ومدى كبر وحجم الجريمة التي اقترفتها يدك بحق نفسك، وحقي... ثم أضاف في رعب خاطف، متفلسفاً:

كرامتي وكبريائي لا تسمحان لي بالتواطؤ أو السكوت على الجريمة؛ لذلك أريد أن أسمع منك الحقيقة كلها دون كذب أو تهويل أو اختزال، وقبل أن أتخذ قراري بشأن علاقتنا وحياتنا!!
جلست نادية قبالته وفي عينيها بريق لا يرحم، كبريق شاعر منفعل، وقالت بهدوء يطوي بداخله عاصفة من الغضب المكتوم، وكأنها تنوي إفشاء أسرار حواء كلها دفعة واحدة

لم أستطع أن أنسى أو أتسامح فيما فعلته بي وبنفسك، قبل عدة أشهر... ثم ارتفع صوتها مندداً:
هل تذكر ما فعلت؟! وتابعت بنفس الرنة المرتبكة، التي تخفي بداخلها بركانا يغلي:

يقولون، إذا نسك الشريف تواضع، وإذا نسك الوضيع تكبر!! لقد كان ظلمك لي أشد من ظلم الحية، وأكثر من عداوة العقرب! رغم صبري الطويل معك، كصبر الكلب على الهون! ثم استطردت بشجاعة:
سأذكرك وأقول لك- إن كنت لا تدري - لقد رأيتك وأنت بكل بذاءه تضع يدك هذه التي سأقطعها لك قريباً بعون الله!! على كتف صديقتي في حفلة عيد ميلادي... رأيتك وأنت في نشوة وحالة من الجنون الغبي، ذلك الذي ينسى المرء فيها كل ماضيه، ومستقبله، ولا يفكر إلا في لحظته... كنت ساعتها تضحك كالساحر، لقد كرهتك حينها حد الموت والانتقام(توقفت لبرهة، التقطت فيها أنفاسها) وأضافت بتذمر سائلة:

كيف تظن أو تصدق على أني قد سامحتك، بمجرد كلمات أو قبلات أو حتى بهدايا ثمينة؟!
بل كيف تجرؤ على أن تعيش معي وأنت ملوث بذكريات أليمة، مخجلة، ويستحق فيها ومن مثلك، أن يدفن نفسه حياً!! وتابعت بعزم:

ماذا، هل ما زلت تطلب مني المكاشفة؟ ثم بحنق وتحد متقد:

هل أستمر؟ وهي تنوه بخبث لعين:

أم يكفي ما قلت؟! (قالت ذلك، بعد أن أنطفأ تألق عينيها وهي في حالة من التعب والإعياء، لا يعلم فيها حتى الشيطان الأعور)

خفض بصره باستحياء شديد، أسقط رأسه على صدره، كالمصلوب وغمغم بتوجع وفي شبه إغماءه:
أرجوكِ، قولي لي كل شيء... منْ هذا الذي خنتني معه؟! وكيف؟

 بذعر وصوت يرتجف: لقد حذرتك، ستكون الخاسر!!

 بتبرم وعناد أحمق: قبلت التحدي، وهيأت نفسي للخسارة... ثم أردف مولولاً، كابن آوى:
أفضل من أن أبقى حائراً، غائراً والشك ينهش داخلي، كالسرطان.

 انفجرت بغيض مروع، كوحش جريح وهي تسدد نظراتها إليه بعنف، كسهام تمكنت من هدفها:
أخوك رفعت!!

 بهوس، كالأبله: ماذا؟!

 كما سمعت... ثم بإناء وإباء:

لا داعي من تكرار الاسم!! ثم همست داعية: أعماك الله وأطال قلقك وسهادك.
أنتفض واقفاً، ومسك كتفي زوجته بعنف، وهزهما حتى كاد يخلعهما وهو يزمجر منتهراً، كشيطان غاضب:

كيف سمحت لنفسك بإغواء أخي؟! ألم تجدي في هذا العالم سواه لكي تصفعينني به؟! يا لكِ من شريرة، آثمة و... ولم تجعله يكمل شتائمه.

قاطعته بحدة، هاتفه:

توقف؛ لن أسمح لك بقول المزيد... ثم تابعت دون أن ترأف بحاله:

عجباً!! كأنك تريدني ألا أنطق إلا بما ترغب وتهوى؟! ومن يسامرك أن لا ينام إلا بعد نومك!! كم أنت متناقض وساذج في نفس الوقت متكبر ومغرور، أرعن وبلا حياء... تخونني في يوم ميلادي، وفي بيتي، ومع صديقتي، ثم تشك بأمانتي وأخلاقي ونزاهتي؟! تباً لك من غاشم، فارغ وفقير الذوق والإحساس، لقد خدعت بك حقاً عندما أحببتك، وعندما حدثتني عن الصداقة بين الزوج والزوجة، التفاهم الذي تقوم عليه العلاقة الزوجية، الوفاء والإخلاص المتبادل... لقد كذبت علي في كل شيء، واليوم تأتي بكل وقاحة، وترميني بشتائم بذيئة لا تليق إلا بك، ثم استطردت بلوم صارخ:
يا من أجله فعلت المستحيل لإرضائه!!

احتار سعدون في أمر زوجته!! ولم يعد يفهم نفسه ولا العالم.

هز رأسه، اختنقت في حلقه الكلمات، ولم يعرف بماذا يسأل أو يجيب... وظلَّ ساهياً، سارحاً، والجهل يملؤه... ولم يستطع سوى الركوع تحت قدمي زوجته، كشحاذ مريض... ثم تحرك لسانه ببطء وهمس بصوت منخفض، كالذي يخاطب نفسه:

لا أريد أن يشاع الأمر أو يذاع!! قولي إذن:

ما الذي حصل؟ وما قصة هذه الرسائل؟ لمن تعود؟ وكيف استقرت في حقيبتك؟ وما هو دور أخي في الموضوع؟!

نظرت نادية بعمق إلى زوجها وقلبها يعتصر، وروحها تحتضر، وأجابت باستنكار:

يحضرني الشاعر الذي قال:
يقوم من ميل الغلام المؤدب ولا ينفع التأديب والرأس أشيب

ثم نوهت: سأقصّ لك بالضبط كل ما حصل، ولا تقاطعني...

كنت صادقة عندما قلت، بأن أخوك كان له يد في الموضوع ولم أكذب!!

ضرب الطاولة التي بجانبه بقبضة يده بقوة وهو مازال راكعاً تحت قدمي زوجته، فرقص كأس الماء المملوء عليها رعباً، محاولاً مقاطعتها بقوله: أخي رفعت مرة أخرى!

لم تعر له أو لقوله اهتماما، واستمرت في حديثها، وكأنها تتجاهل وجوده:

لقد كنت سخياً جداً في خيانتك لي، سخاء المجوس على بيت النار!! وعندما فعلت ما فعلت في تلك الليلة السعيدة، المشئومة... بقيت أياماً بلياليها أبكي وأنوح وأتألم... لم أذق طعم النوم، ولم أشعر معك بعدها بالأمان، وبدأت حياتي تميل إلى حافة الضياع... اقصد حالة أمي وأبي ومأساتهما التي حاولت دائماً أن أتجنب حدوثها ثانيةً... ألم تشعر بزهدي بك وابتعادي عنك؟! ألم تحس أو تسأل نفسك، لماذا بدأت أتحجج بالحجج الواهية، كي أتجنب مضاجعتك؟! تمنيت حينها الموت، هل تصدق؟ ولكن أين هو؟! لقد كان الألم الذي يعصرني ويزهق روحي أقسى من الموت ذاته، لذلك تمنيته ولم يحالفني الحظ!!

لقد تصلّفت وتكلّفت ثم طعنتني بسكين حادة، مسمومة في قلبي وكبريائي وفي أنوثتي كلها، لكنك كنت وغداً ولم تقتلني!! فتركتني أتلوى عذاباً، كشاة نحرت من قبل رجل غير متمرس في عمله، لم يتركها تعيش، ولم يجعلها تموت رغم محاولة ذبحها، فبقيت تترنح وفي دمها الحار تسبح، ما بين الحياة والموت...

باتت حياتي معك كسجينة بلا ذنب في زنزانة رطبة، حقيرة، قذرة ولا تتسع لقامتي وقوفاً، وعلى ما يبدو كنت في حينها تتسلى في عذابي، كالسادي! وعندما كنت تغادر البيت إلى عملك، كنت أخفف حزني بشيء استطعته، وهو البكاء... ثم تابعت منهارة:

وكما يقولون، إذا انهار السد، غمرتك المياه... والسد كانت إرادتك ساعتها، والمياه شهوتك اللعينة!! لذلك تخبطت فيها شر تخبط وفعلت ما فعلت بكل وقاحة وإصرار... ناسياً، متجاهلاً وجودي وإحساسي، حتى بقيت من أمري حيرى؛ زهدت فيك وفي معاشرتك وكدت أكفر في كل شيء، حتى شرفي وعفتي!! لأنني لم أهتدِ أو أعرف حينها، كيف أعاقبك على فعلتك تلك، على تمردك الساذج، على خيانتك الرخيصة لي دون مبرر، وكيف أرد لك الصفعة، صفعتين، حتى اهتديت إلى أخيك...

 هبَّ واقفاً، كالملدوغ وصرخ بصوت منفر، رنَّ صداه في قلبها:

رفعت!! يا له من شيطان خسيس... ثم أضاف بعصبية مفرطة وهو يحدجها بنظرة صارمة، قابلتها بشجاعة:

سأدق رأسه... هذا الكلب الذي يدعي أنه أخي، وهو يطلق لدموعه العنان...

 ردت صائحة، وكأنها تلعن، بعنف وتوتر:

قلت لك لا تقاطعني، ثم شرعت تقول:

شرحت لرفعت كل ما فعلته بي، وكيف طاوعتك وغوتك نفسك بخيانتي بعد هذا العمر الطويل الذي قضيته معك...

استمع لي بهدوء ورصانة، ووعدني بأن يقف بجانبي، ووفى بوعده بأمانة وحرص شديدين...
حيث جاءني يوماً بعدة رسائل أعدها وكتبها بخط يده، وتفادى من ذكر اسمه عليها، ونصحني بأن أضعها قريبة من عينيك، أو في متناول يديك... وقد سعيت كثيراً بتغيير مكانها حتى تعثر عليها وبسرعة، ولم يحالفني الحظ إلا اليوم!! وأردفت:

مشكلتي الوحيدة هي إني أحببتك بصدق ولم أرغب أن أعيد مأساة أمي وأبي... ففي ذكراهم دمعة، وفي نفسي لوعة، وخيانتك لي كانت صفعة... ثم بأسى أضافت:

أنا من يقول، كل شيء يا سعدون تحملته منك... إلا الخيانة. آه... كم أشعر الآن بالحزن والسعادة، بالخيبة والانتصار، بالخسارة والفوز والاحتقار.

قالت ذلك وهي تشعر بأن هناك دمعتين كبيرتين سقطتا على خديها ثم خفضت بصرها نحو الأرض، وكأنها تنوي أن تسرها شجونها، تلك... كاتمة الأسرار أبداً، كالبحر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى