الاثنين ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم زياد يوسف صيدم

لم تنته الحكاية!

شيء ما يقلقه منذ الصباح.. يحس بضيق كأن حملا ثقيلا يجثم على صدره.. حاول تبديده بشتى الوسائل دون جدوى.. خطرت له فكرة؟ فأطلق العنان بأقصى سرعته.. كان يلفحه الهواء بشدة على الطريق الساحلي شبه الفارغ من العربات.. لم يعد يرى طريقه بشكل جيد، بالرغم من وجود نظارات على عينيه.. لقد اعتاد عدم ارتداء خوذته التي تقيد حريته، وتحول بينه وبين ذاك الإحساس المتميز، الذي لا يعرفه إلا من يمتطى تلك الخيول المعدنية الجامحة.. يخفف من سرعته.. يبدأ في استنشاق نسيم البحر.. يملأ رئتيه بهوائه النقي المشبع باليود والأكسجين.. تزول كآبته وتنشرح أساريره.. ويبدأ في تنفس الصعداء...

عاد للبيت مرتاحا حتى هطل المساء.. شق طريقه إلى ديوان العائلة.. يرتشف قهوته هناك.. يستمع أكثر ما كان يتحدث..وإذ بأحد الجالسين يتلقى مكالمة عبر تليفونه المحمول.. فيطالبه مع قريب آخر بالتحرك السريع؟ فعلى ما يبدو هناك مشكلة وشجار بين صبية تورط فيها أبنائهم..لم يستوعب الشاب حديث من ابلغه.. فلم يستطع نقل الأمر بصورة واضحة، لكنه قال محتدا: إلى نادي البلدة يجب التوجه فورا...

وصلا إلى بوابة النادي الخارجية..لاحظا تجمع كثيف من الصبية والشباب.. شق احدهم طريقه إليهم قائلا: أخذتهم عربة الشرطة.. واتجهوا بهم صوب مركز البلدة...
التفت عدنان إلى ابن عمه، بينما كانا يتجهان بخطى سريعة نحو مركز الشرطة قائلا: هذا اليوم لم يكن سهلا من بدايته.. إحساسي عادة لا يخيب.. صعدا إلى أعلى.. وإذ بمجموعة من الصبية جميعهم في سن الرابعة والخامسة عشرة.. لا احد يمتلك بطاقة شخصية.. إنهم أطفال بحكم القانون.. كانت وجوههم شاحبة محمرة..فيها ذهول لا يقل عن ذهول عدنان أو ابن عمه.. يقفون بذل وهوان.. عيونهم زائغة من الخوف والارتباك والحيرة...

تقدم عدنان ناحية رئيس القسم.. كان شابا له لحية سوداء تذكره بأيام الصبا..

 ماذا حدث؟ كيف؟ ولماذا؟

جاءت الإجابات غير مكتملة!تبحث عن ديباجة وتبرير لضرب واهنة الصبية.. كانوا خمسة أطفال قد وقعوا ضحية افتراء وسوء تقدير وتسرع..انه خطأ الآخرين..بينما العيون تتجه صوب المسئول.. اكتملت الجلسة بحضور أولياء أمور الطفلين الآخرين.. يقطع تساؤلاتهم وامتعاضهم وذهولهم حديث المسئول:

 ألقوا بقنينة زجاجية فارغة على ساحة النادي..حيث كانت تقام مباراة لكرة القدم.. تسببت في إدماء رأس احد المشجعين من أقارب المتبارين..ثم اتبعها: سنحقق الآن معهم ولهذا ادعوكم بالنزول إلى الأسف والانتظار؟!

 كما تشاء.. لكن أرجو أن تتذكر بأنهم أطفال.. لا يملكون بطاقات شخصية وحسب القانون لابد من وجود ولى أمرهم أثناء التحقيق والمسائلة..فرجائي أن تمنع ضربهم أو ترهيبهم..قالها عدنان بينما كان يغادر المكان مع والد احد الصبية.. تاركين من حضرا مؤخرا من أولياء الأمور..

دقائق مرت كأنها ساعات..حتى جاءت نتيجة التحقيق: القنينة من صوب هذه المجموعة الجالسة على مدرجاته العلوية.. وتسببت في إيذاء احد الأولاد من أقرباء اللاعبين وتسببت بنزف خفيف في رأسه تمت معالجته على الفور..هكذا كانت التهمة الموجهة.. المستندة على أقوال الطفل المصاب، الذي كان غارقا في حيرة وشكوك من أمره وعدم دراية بنفسه.. وعلى ادعاء من قام بالتبليغ، واستقدام الشرطة بلا مبرر أو منطق قبل كيل التهم لهم جزافا..

في هذه الأثناء يأمر المسئول بنقل الطفل المتهم احد ابني عدنان في هذه المجموعة من الأصدقاء إلى غرفة الحجز.. هناك حيث يقبع الموقوفين على خلفيات جنائية، من تجار المخدرات و اللصوص.. بينما كانوا يقتادونه إلى أسفل، وإذا بوالد الطفل المصاب مع أبنائه يحضرون مستهجنين الأمر! مستنكرين ما يحدث وقد قال ابنه الأكبر على مسمع الجميع: نحن لم نبلغ الشرطة! ولم ولن نقدم اى ادعاء أو تهم..وأردف الأب: نحن هنا للتنازل الفوري عن اى قضية.. فالأطفال أبرياء.. حيث وصلنا قبل قليل بان الزجاج يلقى يوميا في ملعب النادي من خارج الأسوار!!

وقعت أقوالهم كالمفاجئة على مسمع مسئول القسم.. مما أصابته بإحباط وامتعاض شديدين؟ هكذا كان تحليل عدنان من حالة الاستياء التي تراءت على وجهه.. فالأحداث للاحقة؟ وتصرفاته الغير مسئولة ستعكس وتؤكد صحة وصدق هذا الإحساس الذي لم يتولد من فراغ.. وإنما نتيجة لشواهد عينية ماثلة أمامه.. مما اضطر مسئول القسم على أثرها بان يخلى سبيل الفتية فقد أسقطت القضية ولم تعد قائمة...

في هذه الأثناء يبدأ البحث عن شيء ما؟ فالأوضاع أصبحت محرجة لهم.. فالعبث بأطفال على ذاك النحو وهم أبرياء لا يجد منطقا أو مبررا فلابد من إيجاد شيء ما؟ يلتقط احد الحراس جوال احدهم..كان جوال الابن الثاني لعدنان.. يبحث ويعبث بمحتوياته..أرقام..صور..أغنيات.. يتظاهر بالانفعال! ثم ينظر إلى المتواجدين متشفيا يكاد الغل يتطاير من عينيه؟ يقترب إلى مسئوله هامسا له أمرا؟ يمثلان على الفور حالة من الذهول والشماتة.. يصيبا الجميع بالصمت والريبة؟..وتضرب عدنان حالة من الإحباط والوجوم والترقب!!

لاذ عدنان بصمته وهواجسه التي أخذت تدك رأسه.. وتسارعت تساؤلات كثيرة هطلت كزخات المطر تغرق فكره المشتت..تساؤلات انهمرت في عقله الباطني، وهذيان ليس بالاعتيادي؟ فهو مزيج من تصديق ما يسمعه، وتكذيب ما يراه من همزاتهم ونظراتهم المتشفية..وبين الصورة البريئة والثقة الزائدة التي منحها لولده البكر.. فما الذي اكتشفه هذا الشرطي المحنك؟ ثم تخيل تكريما وحفاوة و مكافئة له، وتعميم اسمه في المناسبات الوطنية بما قام به من اكتشاف.. وان كانت الصدفة قد لعبت دورها، إلا أن نباهته وحرصه الكبير على مصالح القاصرين وعائلاتهم، وأسرهم، وعلى مصلحة الأجيال الواعدة.. تفرض نفسها بأن لا تمر هذه الجهود الرائعة مرور الكرام، دون اى حوافز أو جوائز حتى تخيلهم يقلدونه الأوسمة التي يستحقها...

ما يزال الصمت يستحوذ على كيان عدنان.. يصيبه بإحباط شديد..تهتز ثقته بابنه.. يستمر بهذيانه الباطني: هذا ولدى البكر،المجتهد و المتفوق في دراسته..المؤدب، صاحب الخلق الطيب، لم يجلب لنا اى مشاكل طوال سنين عمره.. كيف يحدث هذا؟ كيف؟ قطع المسئول الصمت السائد.. وهذيان عدنان المتواصل.. بمهاتفة رئيس قسم المباحث بالحضور قائلا: تم اكتشاف شبكة تروج لأفلام وصور إباحية!!وما يزال التحقيق جاريا...

انتقل عدنان وخال الطفل وابن عمهم إلى مكتب مسئول المباحث بعد قدومه..ثم ما لبث أن احضروا الطفل الذي بدا شاحبا، ممزق المعنويات..لكنه لم ينهار ولم يبك.. لأنه كان يعلم حتما بأنه في كابوس، لابد أن ينتهي بمجرد استيقاظه من نومه..فهو لا يعلم كيف ولماذا يحدث هذا؟؟

الوالد في حالة ذهول.. يكاد يغمى عليه بسبب فقدانه للثقة في أذكى وأعقل أولاده..إنها مفاجأة لم يتصورها أن تأتى منه.. ابنه يروج لأفلام وصور إباحية!!

الساعة تشير إلى ما بعد منتصف الليل.. عندما حضر رئيس شعبة المباحث المخول لاستكمال التحقيق..كان شابا مهذبا يختلف عن كل الوجوه التي تفرسها عدنان.. والتصقت بذهن الأطفال حتى قيام الساعة.. شكره الأب على سرعة وصوله لإظهار الصور والأفلام التي ذكروها لهم.. وتأكيد التهمة وتوثيقها، قبل ترحيله إلى النيابة في الصباح...

يفتح مسئول المباحث المحمول.. يبحث عن تلك الصور والأفلام.. يسود صمت..تشرأب العيون نحو انفجار المفاجأة..يكاد عدنان أن يتلاشى من الوجود.. فقد شعر بان لا وزن له ولا ثقل يحمله على الأرض..وكم تمنى أن يتبخر أو أن يختفي عن العيون قبل أن تُعرض عليه أدلة الاتهامات الموجهة لابنه البكر.. الذي خيب آماله وثقته ومحبته، وحطم الأسرة بفعلته الشائنة التي لا يقبلها أب لابنه.

يستمر رئيس المباحث في البحث بين صور أطفال وصبية لأصدقاء المتهم وإخوته.. يلتفت نحونا.. يتلعثم؟ يرتبك؟ يعيد البحث من جديد.. ينطق: وجدتها.. يبتسم للحظات ثم يخفى ابتسامته سريعا؟؟ يبدو أنها هذه.. لقد وجدتها..ننظر إلى الصور.. يبتسم والد الطفل المتهم وكأن صخرة قد أزيلت عن صدره..تدب في عروقه الحياة من جديد..يستعيد توازنه قليلا ويتساءل: أين الأفلام؟؟ فما زال عدنان يصدق ما قيل له قبل ساعتين..

 لا تواجد أفلام ولا صور إباحية.. ولا حتى شئ خادش للحياء..كانت إجابة مسئول المباحث!

 فتش أرجوك جيدا.. قالها عدنان بصوت حزين..لابد وان هناك صور عارية.. لقد كان حديث المسئول قبل ساعتين يوحى بوجودها مع أفلام إباحية أيضا..

 قلت لكم لا يوجد أفلام..ولا توجد صور إباحية هنا..سوى هذه الصور؟

ينظر إليها خاله: يبتسم يحرك يديه غير مقتنع ويطالب برؤية غيرها..يردد هذه صور أراها على التلفاز يوميا..وتنتشر في الصحف اليومية...

ينظر عدنان..إنها صور.. يكرر الجملة المبتورة ثانية،يطبق كفيه على بعضهما.. يااااه... انه موقف لا يباع بكنوز الأرض كلها؟ انه إحساس بالنجاة من جحيم مهول..انه شعور بحياة بعد موت..يحمد الله ويكرر حمده لله حتى دمعت عيناه...

ثم بدأ في هذيان مختلف.. مر بمخيلته شريطا بلمح البصر.. كانوا مقاتلين كثر يعتمرون الكوفيات، عتاد حربي، دخان وطائرات..ثم تبدل المشهد إلى انهر وبحيرات وخضراء.. ووجوه متناقضة كثيرة.. حسناوات من كل الألوان كأنها ملائكة هبطت على سطح الأرض...

في هذه اللحظات كان يريد أن يضرب الأرض فتبتلع الجميع..يتمنى شيئا بيده؟؟ كي يتنفس الحرية الحقيقية، ويخرج من توابيت الموت ورائحة الأموات الأحياء!! يريد أن يضحك فلا تخرج الضحكات..كان همه أن يخرج طفله من دوامة تبتلع الصالح والطالح..تعبث بكل القيم والتسامح والرحمة لبنى البشر.. عبث ساوى البراءة باللصوص وتجار المخدرات ومروجي الأفلام الإباحية.. اللذين انتشروا كالطاعون في بلاد مقدسة قد تلوث هوائها بالمفسدين في الأرض..يضع كفه على جبهته ثم ينظر إليهم: أنى اعرف هذه الصور لمن تكون.. إنها صورة نانسي عجرم واليسا والثالثة لا اعرفها بالاسم..عرف لاحقا إنها لمريم فارس...

إنها صور وجوه لمغنيات حسناوات تغزو المواقع والصحف والفضائيات دون استثناء بشكل يومي..وضعها في تليفونه المحمول طفل يشق مراهقته في الحياة.. لم تكن أبدا صور عارية، أو إباحية كما وجهت الاتهامات جزافا، من ذاك المستهتر بالطفولة وكل القيم الاجتماعية والإنسانية.. والضارب بعرض الحائط كل القوانين التي تحمى وتصون حقوق الأطفال..واحترام العائلات والأسر النظيفة والشريفة..

خرج الوالد من مقر " الجيستابو " بصحبة طفله البريء.. والوقت قد تعدى الواحدة بعد منتصف الليل..وثقته بابنه قد عادت كما كانت وأكثر.. لأنه كان يرى طفله قد أصبح رجلا بتصرفاته، ورباطة جأشه.. وان كان واجما شارد الذهن.. وهذا من حقه أن يُصدم بما يرى ويسمع من اتهامات ملفقة يجهلها، وضربهم واهانتهم بأشكال ووسائل عدة.. بلا مبررات أصلا...

بينما كانوا جميعا يشقون طريقهم خارج مبنى "الجيستابو"..يضربون يد على يد مكررين القول: كل ما حدث من اجل صورة لنانسي عجرم واليسا.. في هذه الأثناء.. كان عدنان يوجه حديثه إلى طفله الذي أصبح رجلا: انتهت المحنة يا صغيري.. ولم تنته الحكاية بعد!!

 انتهت -

إلى اللقاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى