الأربعاء ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم عبد الكريم الزيباري

متقابلات السرد الاستفهامي في -وطنٌ من زجاج

بين الوطن وحق المُواطنة بين الموت قتلاً أو كمداً أو حزناً، بين المستقبل المجهول والماضي المهيمن بين الليل والظلام بين معلم القرية(المثقف)وإقطاعي القرية(غير المثقف)بين الحضارة(المعلم والسارد الحفيد)وبين العصبية(الجد) يتأرجح نص ياسمينة الصالح.

 نحنُ العرب نريد أن نبدو ولا نريد أن نكون- قالت الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، والمحلات التجارية في السوق أيضاً تريد أن تبدو، فتتخذ جدراناً وواجهات زجاجية كي تبدو جميلة، وإعلانات ضوئية، ولا يهمها إذا كانت بضاعتها فاسدة، كعجوزٍ جاوزت السبعين ووضعت في وجهِها كل أنواع المكياج فلن يزيدها ذاك إلا قبحاً، ولم يصلح العطار يوماً ما أفسد الدهر، وكذلك الأوطان الزجاجية، والسلطات الحاكمة بالظلم والجور، والمعتقلات، هي التي استدعت الإرهاب كمارد استيقظ من سباتٍ عريق، ولم تقدر على صرفه. ذكرني عنوان الرواية برواية كولن ولسن(القفص الزجاجي)، فأوطاننا أقفاص زجاجية، ورغم ذلك لا نقدر على مغادرتها. كما نوهت ياسمينة صالح(لا يحق لهم أن يموتوا دون أن يكتب الحارس العام للبلدية تقريراً عن الميت وتاريخه وخطاياه السياسية بالخصوص، هل كان ينتمي إلى حزب أم إلى الدولة؟ هل كان يمجد الزعيم أم كان يكفر به- ياسمينة صالح-وطنٌ من زجاج-ص5.) .

السؤال الأول: يطرحه العنوان(وطن من زجاج)عنوان للروائية الجزائرية ياسمينة صالح، وفي إحدى فقرات إهدائها تقول: (إلى الوطن الذي نحبه برغم كل شيء..ونعيش فيه برغم كل شيء). استوقفني العنوان لأنني كنتُ أظنُّ أنَّ وطني أيضاً كان من زجاج لكنَّه تهشم، ومن يرى الموت تهون عليه الحُمَّى، فصرتُ اليوم أبكي الزجاج، ولذا سقطت جبراً في دائرة انتظار غودو لأطَّلِعَ إلى سؤال يطرحه العنوان فهل سيتهشم هذا الوطن الزجاجي كوطني؟

ولكن وبعد تأمل قصير استنتجتُ أنَّها ربما تقصد دولة من زجاج، وإذا كان هذا ما تقصده، فإنَّ جميع الدول من زجاج، وبحسب ابن خلدون فإن للدول خمس مراحل كما لأي إنسان(ولادة-طفولة-شباب-رجولة-شيخوخة وهرم وفناء)والدولة الزجاجية هي في مرحلتها الأخيرة، وكان ساسة أوربا يسمون الإمبراطورية العثمانية التي كانت تدكُّ أسوار أوربا بين فينةٍ وأخرى، بالرجل المريض في مرحلتها الأخيرة، وأعتقد أنَّ جميع الأنظمة السياسية هي في الأصل من زجاج، ولكن سمك وقوة الزجاج يختلف، فمنها من يتحطم بحجرة صغيرة، ومنها من يبني سورا بالأحجار التي ترمى بها، ومن يقاوم الرصاص، ومنها يقاوم القنابل، ولكن ليس منها من يقاوم الزمن.

السؤال الثاني: عتبة البداية أول سطر من الرواية تقول(كيف نحب وطناً يكرهنا؟)وهذا مجاز يذكرني بقوله تعالى(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا)-82-يوسف، ولكن كيف سنسأل القرية؟ نسأل جدرانها أم بيوتها؟ بالطبع المقصود بأهل القرية، لكن حذف أهل وكذلك بالنسبة للعير، إذن فهي تقصد مواطني الوطن، ولكن لماذا قد يكرهها مواطنو الوطن؟ وإذا ما كرهونا فماذا بيدنا أن نفعل؟ فهي تقصد إذن السلطة الحاكمة، التي بيدها الأمر والنهي، لكن في الوطن الزجاجي، توجد سلطات عديدة، شرعية أو غير شرعية، لا يهم بقدر بما تمارسه من سيطرة ونفوذ على الشارع.

من هو السارد؟

لم تمنح قارئها فرصة البقاء في مراقبة أول ظهور في أفق انتظاره، فهي تسرد بضمير المتكلم(أنا)ولكن كان السؤال الذي سرعان ما أجابت عنه في أول الصفحة في السطر قبل الأخير، أنَّ السارد رجل رغم إني توقعته امرأة، لأنَّ معظم الروائيات يستخدمنَ الرجل في سردهنَ(لم أكن أدري نوع الشيء أو نوع الخدمة التي يحتاجها رجلٌ مثلي من رجلٍ مثله)ومع تحفظي الشخصي على لفظة الرجل، حيث برأيي أنَّ ظلال الرجال بدأت بالانحسار، فلم يعد على الساحة إلا ذكور، إلا أنَّ ليس من مصلحة النص، كشف ما اكتنفه من غموض بهذه السرعة، لأنَّنا سنعدم عنصر التشويق إلى معرفة السارد، فلوما حذفنا كلمة رجل لصارت العبارة((لم أكن أدري نوع الشيء أو نوع الخدمة التي يحتاجها مثلي من مثله)ولبقي السارد مختفياً، ولو انتهى النص دونما أن يكشفه لكان أفضل فنياً برأيي، كما حدث في رائعة جيمس جويس يقظة فنيغان، فلا زال النقاد يتساءلون: من الذي حلم الحلم؟ من هو السارد؟.

ولكن سرعان ما يظهر السارد الثاني، في محاولة لتقمص الرواية داخل الرواية، والسارد الضمني، اسمه العربي، ولا سمه دلالة كبيرة لأنَّه سيقاتل الفرنسي، وكل من يمد له يد العون(عمي العربي يحكي عن نفسه،...عن قصة حب قديمة وحميمة...الحكاية بدأت معه في الرابع عشر من شهر أكتوبر الجزائري من عام 1944 أيام أشعلت المظاهرات...في العشرين من العمر وجدَ نفسه يتحول من مجرد شاب إلى مقاوم..وفي الواحد والعشرين وجدَ نفسه مسئولاً في خلية سرية تابعة لجبهة التحرير الوطني..للقيام بمهمة دقيقة وخطيرة، مهمة تطهير الوطن من العملاء والخونة...وليجد متعة في قول تلك الجملة التي عاش لقولها:حكمت عليك الجبهة بالموت ياكلب! ثم يطلق الرصاص من مسدسه ويمضي نحو خائنٍ آخر-ص8-9-وطن من زجاج)وفي سلسلة قتل يصادف العربي عميلاً يسبقه بإطلاق الرصاص، وينقلب السحر على الساحر، في الجاهلية قيل(الغزو أخرق)وقال تعالى(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيةً أَفْسَدُوهَا)النمل-34-وتقول ياسمينة (هنا فقط تختلط الأمور والمفاهيم بين مجاهد وخائن وعميل-ص13)وهؤلاء كلهم يملكون السلطة المطلقة في إلغاء الآخر، ويقول ميشيل فوكو (السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة) وقد جاء في الحديث(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا. وإني أحب لك ما أحب لنفسي. لا تأمرن على اثنين. ولا تولين مال يتيم) وللمجاهد وللعميل صلاحية الحكم على أيِّ مواطنٍ بالموت، فالعميل ينزعج من أحدهم لا لسبب ما، فيهرع إلى الاحتلال ليقول لهم أنَّه إرهابي ومقاوم كبير ليأتوا ويقتلوه مع أهله كافة ويقصفوا بيته، والبعض ممن يحب ان يتسمى بالمجاهد يكفي أن ينظر إليك ليحكم أنَّك عميل، والويل كل الويل لمن ضايقه، وكذلك من يعمل معهم، ولقد سمعت أن مترجماً اسمه نشوان أحمد في بداية عام 2004 ضايقه أحدهم بسيارته، فترجل غاضباً وقال مهددا(احذر مني لأنني ربما أرسلك إلى ما وراء الشمس)وتنتهي حكاية العربي بنصيحة يوجهها للسارد الرئيسي(اسمعني يا بني لا يمكننا أن نكره الوطن بسبب كرهنا للرجال الذين يحكمونه، الوطن أكبر من هذا بكثير-ص14).

يدخل السارد إلى شخصية الجد الإقطاعي اعتباراً من ص 18 مع رفض تسميته بالإقطاعي رغم كثرة الدلائل المشيرة إلى ذلك، وينتقل السارد بمهارة راقص الباليه على رأس أصابعه بحركة خفيفة حول العمة الكسيحة وصولاً إلى المعلم الجريء والذي كان الجد معجباً به رغم وقاحته-ص23. وطرد بسبب خطبة ألقاها بمناسبة انتهاء العام وأغضب فيها رئيس البلدية والحاج عبدالله(الجد)فنقل من القرية(ص25)إلى العاصمة ثم فصل من التعليم فتحول إلى بائع ثم إلى حمال في الميناء ثم مات، ومسألة طرد قائل الحق من البَطَلة واردة كثيرة، فهارولد بنتر الكاتب المسرحي الحاصل على نوبل عام 2005 وفي عام 1985 كان مع المسرحي الأمريكي آرثر ميللر في زيارة إلى تركيا، وهناك تعرّف على أنواع التعذيب والقمع التي يتعرض لها المعارضون للنظام الحاكم، وفي حفل رسمي في السفارة الأمريكية أقيم على شرف ميللر، تقدم بنتر ليلقي كلمة عن أنواع التعذيب والإذلال الجسدي التي يتعرض لها المعارضون للنظام التركي الذي كانت الحكومة الأمريكية تدعمه، وأدى الأمر إلى طرده من الحفل وخرج ميللر متضامنا معه من الحفل الذي أقيم على شرفه، وظهر أثر زيارته لتركيا في مسرحية لغة الجبل 1988، وتقول ياسمينة (يصطحبني جدي معه في نزهاته اليومية متباهياً بالأرض ومنتقداً أبي الذي كان يصفه بالغبي لأنَّه ظلَّ حزيناً ووفيا لامرأة أحبها عن واجب الحب، امرأة ماتت وهي تضعني للحياة-ص20)ولدي اعترض هنا على كلمة تضعني فلو قالت تخرجني للحياة، أو تضعني في الحياة، ما أكثر ما نقرأ من قصص ونشاهد من دراما عن الجد الصارم الذي يحكي للحفيد عن غباء أبيه الذي وقع فريسة سهلة للوحش. وبالتالي يطرده الجد، لكن ياسمينة آثرت أن تجعله يهرب من ضغوط محاولة تزويجه، وإن عملية تلقيب السارد/البطل وتفسير اللقب في نفس اللحظة فوت علينا فرصةً كبيرة في المشاركة ولو قليلاً في إعادة كتابة النص(صار الناس يطلقون عليَّ لقبا غريباً لاكامورا، شيئاً فشيئاً فهمت أن لا كامورا تعني ببساطة من لا حق له بالموت براحة)واعترض هنا على كلمة براحة، فلو قالت بصورة طبيعية، فليس في موتةٍ راحة مهما كان نوعها، وللموت سَكَرات، وعذابات كباقة شوك تسحبها بقوة من قطن يلفها، فما يبقي الشوك من القطن، وقد حاول النص الابتعاد عن التشرنق داخل السيرة الذاتية والاعترافات والمذكرات التي يصفها رولان بارت بأنَّها جنس أدبي كريه.

وهناك متقابلات كثيرة في النص منها ما يخص صورة المثقف:

1- مثقف + السلطة = مثقف السلطة –مقابلة المضاف للمضاف إليه. ثقافة السلطة-
أي مثقف يضاف إلى السلطة عنوةً أو باختياره يرغب بالإضافة، كإضافة القليل إلى الكثير، الضعيف إلى القوي، وما يحصل بينهما من جذب.

2- السلطة + مثقف = سلطة المثقف - مقابلة المضاف للمضاف إليه. وإنْ كانت نادرة لكنها موجودة وأعز وأندر أندر من اليورانيوم على وجه الأرض وتشير الإحصاءات أنه منذ عام 1900 إلى عام 1963، كانت الكمية المستخرجة منه لا تتجاوز 80 غراماً فقط.

3- الخير + الشر = سلطة المثقف + مثقف السلطة / مقابلة الضد للضد

4- مثقف + غير مثقف = مقابلة العدم للمَلَكة / الأعمى + البصير.

والروائية إذ تطرح في نصها شخصيات مثقفة مبدئية وتكاد تكون معزولة، لكن هذه الشخصيات موجودة في الواقع أو في حكايات خرافية أو في نصوص روائية لتستحضر حاجة الإنسان المضطهد إلى رفض سيادة الظلم في المجتمع، هذا المجتمع ليس فيه إلا سادة وعبيد، وتنحدر هذه الشخصيات في كل النصوص تقريباً من الطبقة المتوسطة، لأنَّ مثقفي السلطة سرعان ما ينتقلون إلى طبقة أعلى، أو يحلمون ويأملون بالنقلة، وهم بهذا لا يرفضون الظلم الذي ينتظرون منه أن يسعدهم، ويظهر النص مأساة المثقف المتمسك بمبادئه، المعلم الذي يفقد وظيفته ثم يعيش ذليلاً ثم يفقد حياته، لا لسبب كبير إلا أنَّه وقف ضد فساد إقطاعي في قرية صغيرة، فكيف سيكون حال من يقف في وجه السلطة المركزية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى