السبت ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
بقلم عادل سالم

مدرسون علقوا في الذاكرة

كل المدرسين الذين كان لي شرف أن أكون أحد طلابهم، أنهل العلم منهم يحظون باحترامي وتقديري حتى الذين كنت أشاكسهم.
باستثناء مدرس واحد من عشرات المدرسين الذين علموني فكل من علمني أنحني احتراما له، وأعترف أنني مدين له ما دمت حيا.

فأنا واحد من الذين يقدرون دور المعلم في تنشئة الجيل الجديد، وكنت على الدوام أحترم الذين علموني، وأحاول أن أبني معهم علاقة تقوم على الاحترام المتبادل. وكثير منهم أصبحوا زملاء لي بعد أن أنهيت الدراسة.

كلما مرت السنون يزداد احترامي لهم، ولدورهم في تعليمنا. بعض الأساتذة بلا شك كان لهم الدور الأكبر في حياة الطالب، ربما لأن دورهم تجاوز دور المعلم، إلى المعلم، والمربي، والصديق.

برز في مرحلة الدراسة المدرسية بعض المعلمين الذين تركوا بصماتهم على حياتي ومسيرتي التعليمية فاستحقوا أن أسجل لهم تقديري وعرفاني.

أعترف أنني بذكر من سأذكرهم لا أنفي دور المعلمين الآخرين، لكني أشير إلى البارزين منهم.

 في المرحلة الابتدائية برز الأستاذ وديع خميس، أول معلم علمني فك الحرف، والقراءة، كان كبير السن، أبيض الشعر، يسكن في منطقة وادي حلوة القريب من سور القدس القديمة ومن بوابته المسماة (باب المغاربة) وقد كنت في تلك الفترة (١٩٦٥) أسكن في تلك المنطقة مع أسرتي، في بيت الحاجة حمدة القريبة من مدرسة وكالة الغوث للبنات التي تطل على سلوان. 
كثيرا ما صادفني الأستاذ وديع خميس في الطريق فيسلم علي، وأحيانا يدعوني إلى بيته الذي كان يقيم فيه مع زوجته دون الأولاد، فتقدم لي زوجته بعض الحلويات للأطفال، وتربت على ظهري، فأعود مسرورا نافشا ريشي، فقد كنت في ضيافة الأستاذ وديع خميس، كان أستاذنا وديع مسيحيا، عرفنا ذلك عندما كبرنا، فلم نعرف في بلادنا التحريض العنصري بين المسلمين والمسيحيين إلا عندما أصبحت فلسطين كلها تحت الاحتلال الصهيوني، وعرفناه أكثر هذه الأيام عندما طلت علينا تنظيمات الإرهاب التي باسم الإسلام تكفر الناس، وتقتلهم، وتحرقهم أحياء.

وكان يحظى بمحبة الطلاب كلهم. كان صبورا علينا يبذل جهدا كبيرا في تعليمنا ويشرح الدرس لنا بأسلوب ممتع، فيما أسمع اليوم العجب العجاب عن كثير من معلمي الابتدائي.

عندما كبرت بحثت عن الأستاذ وديع لأشكره على دوره فلم أجده، لقد توفي رحمه الله ولكن موته لم يمنع أن أسجل له عرفاني بمجهوده، ودوره في تعليمنا.

 الأستاذ فهمي الأنصاري ثاني معلم في المرحلة الابتدائية ترك بصماته علي، فرغم أنه اشتهر بعصاه البلاستيكية الموجعة والتي لم أنل منها كثيرا لأنني كنت من المجتهدين في مادته التاريخ، والجغرافيا، لكنه كان يشكل موسوعة تاريخية وجغرافية، وقدم لنا العلم بقالب جديد حبب الطلاب إليه، كان بشوشا، مرحا يلبس نظارة للنظر، لونه أقرب للأسمر وليس الأسود، عرفنا لاحقا أن عائلته (الأنصاري) أصلها من الهند ورحلت إلى فلسطين قبل مئات السنين. كل التحية له أينما كان.

لقد علمني الأستاذ فهمي في الصفين الرابع، والخامس الابتدائيين في المدرسة العمرية بالقدس. أحببت ذلك المدرس، ولم لا فقد كان يبذل جهدا كبيرا في نقل العلم إلى أذهاننا رغم إمكانيات المدرسة المحدودة. ما زلت أحتفظ بشهاداتي التي وقعها وكتبها بخط يده لأنه كان مربي الشعبة التي كنت أحد طلابها.
كان يثور إذا قاطعه أحد من الطلاب، أو انشغل عن الدرس بأمور ثانوية مع جاره. شدته كان مردها حرصه على تعليمنا، كي ننجح بدرجة ممتازة، وكان له ما أراد.

 الأستاذ عبد الجليل النتشة

ابن القدس البار، ولد عام ١٩٣٥ وهو نفس العام الذي ولد فيه والدي رحمه الله، وقد ولد في البلدة القديمة كما ولدت بعده ب ٢٢ عاما.
لهذا المدرس أدين بالكثير، وأسجل شهادتي للتاريخ وللأجيال اللاحقة أن الأستاذ عبد الجليل النتشة كان أكثر مدرس ترك بصماته على شخصيتي فاستحق أن يحتل حيزا هاما في ذاكرتي ومقالاتي ومذكراتي.
فقد حبب لي مادة الرياضيات، حتى عشقتها، وبرعت فيها، فصار يفخر أنني أحد تلاميذه في لقاءاته مع المعلمين ومشرفي التربية، وأنا أفخر أنني أحد طلبته الذين زرع العلم في أذهانهم.

المربي الفاضل الأستاذ عبد الجليل النتشة
المربي الفاضل الأستاذ عبد الجليل النتشة

تتلمذت على يديه ٤ سنوات من السادس الابتدائي حتى الثالث الإعدادي (التاسع) في مدرسة دار الأيتام الإسلامية في القدس القديمة (١٩٧٠ – ١٩٧٣). كان أستاذا مرحا يشرح مادته بأسهاب، يستمع إلى الطلاب، ويرد على أسئلتهم باهتمام. له عصا لونها مزيج من الأحمر، والأبيض يستخدمها عند الحاجة لمعاقبة الطلبة المهملين، كما كان الوضع في تلك الأيام، لكنه لم يكن شديدا في عقابه، وكثيرا ما يكتفي بتوبيخ الطلبة الذين لا يحلون وظائفهم البيتية. لم أكن أتذمر من وظائف الرياضيات لأنني في الغالب كنت أحلها حتى قبل أن ينتهي الدرس نفسه، ولعله يذكر ذلك جيدا.
حصته كان يتخللها المرح، والنكت، والأمثلة التي منها على سبيل المزاح:
لو صعد قصير إلى السماء لأفسد الملائكة
اتق شر من قرب إلى الأرض
لما فرقوا الذوق كنت فوق ما طلع لك نصيب
لذلك كان الأستاذ عبد الجليل النتشة محبوبا من الطلاب، ويحترمونه كوالدهم، وكم تمنيت لو أنه استمر يعلمنا بعد الصف التاسع، لكن هيهات.

 الأستاذ يوسف النجار

درسني اللغة العربية في الصفوف الثانوية من الثاني إلى الثالث الثانويين، وإليه أدين بحبي إلى العربية، لقد كان مدرسا متبحرا في العربية ومعلما ذا خبرة في مجال التدريس، ومحبا هو نفسه للغة. كان مأذونا رسميا ورجل دين بدون ملابس خاصة.

علمنا كيف نقرأ الكلام مع تشكيل أواخر الكلمات، وشرح لنا القواعد من نحو وصرف بطريقة جميلة، وكان يقدم لنا أسئلة الامتحان ويغادر القاعة منذرا الطلاب أنهم لن يستفيدوا من الغش وفتح الكتب لأن الإجابة تستغرق كل الوقت للطالب الملم بها، وكل دقيقة تضيع في الحديث الجانبي لن تفيد الطالب، وكان ما يقوله صحيحا فكل الذين كانوا يحاولون الغش ينتهي الوقت قبل أن يجيبوا على نصف الأسئلة. لهذا المدرس أدين بالكثير ليس لأنه حببني بالعربية، ولكن لأنه علمنا كيف نقرأ بشكل سليم مع تشكيل أواخر الكلمات، ونجح في مهمته. توفي المعلم يوسف النجار بعد سنوات رحمه الله، فاستحق دعوات طلابه بأن يسكنه الله فسيح جناته.

 الأستاذ طاهر النمري

أستاذ التاريخ والجغرافيا في المرحلة الثانوية، صديق العائلة. موسوعة في مادته، ومرجع في مادة التاريخ، والأهم من ذلك كله، حرصه على تعليم طلبته ليس فقط المادة المقررة رسميا بل ما هو أبعد من ذلك بكثير.

 الأستاذ عبد القادر الزماميري

المحامي القدير الذي اضطر بعد حرب ١٩٦٧ أن يتحول إلى مدرس للغة العربية لأنه كان أحد المحامين الذين رفضوا العمل في المحاكم الإسرائيلية وظل على موقفه هذا حتى وفاته. رحمه الله رحمة واسعة.

درسني سنة واحدة في الأول الثانوي، كان معلما ضحوكا، البسمة لا تفارقه، وصاحب نكتة حيث كانت حصته محببة للطلاب.

 الشيخ فارس إدريس

مدرس التربية الدينية طيلة المرحلة الثانوية، مخلص في عطائه، ورغم أنني كنت مشاكسا في مادته، وكثير الأسئلة، إلا أنني كنت أحترمه، وأوفيه حقه.
كان يقال لنا أنه كان من قادة حزب التحرير الإسلامي، ورغم أنني لم أكن من أنصار حزب التحرير، لا سابقا ولا حاليا، إلا أنني أعترف أن هذا المدرس كان رجل مبادئ ، ورجل علم.

في عام ١٩٧٨ عندما ضربت إسرائيل جنوب لبنان، أذكر أنني كنت أخطب في طلاب المدرسة الذين تجمعوا كلهم في الساحة الداخلية أدعوهم للتظاهر تضامنا مع لبنان، والمقاومة.
كان المعلمون ومدير المدرسة نفسه الأستاذ المرحوم نهاد أبو غربية يستمعون لذلك الخطاب الطلابي المرتجل، فهمس رحمه الله لأحد الطلاب من زملائي وقال له: «هذا الطالب سيكون له دور في المستقبل».

لا أدري ماذا تنبأ لي، ليته كان حيا كي يرى أنني ليس سوى صاحب قلم يتذكر الأموات ليعطيهم حقهم، ويشهد أمام التاريخ أنهم أدوا رسالتهم على أكمل وجه.
للشيخ فارس إدريس ألف رحمة على روحه الطاهرة.

 الأستاذ أمين عديلة.

من رأس العامود في القدس درسني في السنة النهائية، مادة الرياضيات في الكلية الإبراهيمية في القدس. كان يعاملنا معاملة الأنداد، ويقدم لنا الدرس بشكل جيد رغم أنه كان حديث العهد في التدريس.
ما زالت كلماته ترن في أذني وهو يقول للطلاب:

أنتم اليوم تنتظرون بفارغ الصبر أن تنتهي السنة الدراسية، سيأتي يوم تتمنون فيه لو عدتم إلى مقاعد الدراسة.

صدق الأستاذ أمين عديلة فكم تمنيت لو عدت تلميذا في المدرسة، ألتقي كل صباح مع أصدقاء فرقتني الأيام عنهم.
كنت من أول الطلبة الذين يصلون المدرسة صباحا، وأحيانا أكون أول من يدخلها رغم أنني كنت أعمل بعد المدرسة حتى منتصف الليل.

بحثت في كل صوري عن صور تجمعني بأحد هؤلاء المعلمين فلم أجدها للأسف الشديد، فلم تكن المدرسة تهتم بتصوير الطلاب مع بعضهم، أو مع مدرسيهم كما تفعل اليوم كثير من المدارس في العالم، ولم أفكر يوما أنني أتمنى لو حظيت بذلك الشرف.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى