الثلاثاء ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٩
فى قطار باريس (٥)
بقلم محمد متبولي

وجه فى الضباب

كان يوما باردا ممطرا، غادر محطة القطار، وأتجه نحو برج أيفل، ما إن رأى البرج عن بعد حتى أستقبله كمن يستقبل صديقا قديما، ثم أخذ ينزل المدرج المتسع الذى يبعد عن البرج بضعة مئات من الأمتار، وهو محاط بالتماثيل الرومانية القديمة، فأخترق الحديقة التى أمامه وعبر الطريق، ليجد نفسه مباشرة أمام تلك الكتلة الحديدية الشاهقة، ليستقل على التوالى المصعدين القديمين مخترقين قلب البرج إلى القمة، ومعه عشرات البشر من مختلف الجنسيات، كان كل مصعد منهما يشبه قاربا قديما معلقا فى الهواء، والمخاوف والهواجس تتملكه كلما أقترب المصعد من وجهته، فماذا لو تعطل المصعد قبل أن يصل، وماذا لو وصل ولم يستطع المصعد النزول ثانية، لم تستمر الهواجس كثيرا، فقد أنهى المصعد رحلته عند القمة.

حاول أن ينظر للمدينة القديمة من أعلى، لكنه فوجئ بضباب كثيف يحجب الرؤية، فقط وبعد محاولات مضنية، رأى نهر السين، فإذ بشئ غريب يصعد من قلب النهر ويتجه نحوه، قاطعا مسافة ما يقارب المائة طابق، حاول أن يميز ذاك الشئ، فوجده من بعيد وجه شخص مبتسم يبدو عليه الصفاء، لكنه لم يستطع تمييز إن كان وجه رجل أو وجه إمرأة، فحاول أن يقترب منه ليتعرف عليه أو عليها، لكن أسلاك سور البرج الحديدية منعته، لم يفهم لماذا وضعت تلك الأسلاك على السور هنالك، فتساءل فى عقله هل كانت أشباح نهر السين تدعو زوار البرج لملاقاتها فى النهر، فتم منع ذلك بتلك الأسلاك، حفاظا على أرواحهم.

لكنه سرعان ما أنشغل عن الأسلاك بالوجه مرة أخرى، فإذ بالوجه ينظر إليه نظرة عابرة ويكمل رحلة صعوده حتى غاب عن بصره، لم يعرف من أين أتى الوجه وإلى أين ذهب، ولمن كان، وهل كان لشخص يعرفه أم لا، أم لم يكن لأى شخص على الإطلاق، فقد ظهر كبارقة أمل وسط الضباب، ثم أختفى، بعد أن منعته هو الأسلاك من الأقتراب منه أو البحث عنه، لكنه تذكر إنذاك تلك الآلآف من الكيلومترات التى تفصل بينه وبين شرفة منزله فى أرض الوطن، حيث أعتاد أن يفتح شيش الشرفة، ثم يغلق سلك الزجاج ومن بعده الزجاج، ليتابع من خلف الأسلاك العصافير وهى تحلق وتحط بين الحين والآخر على سور الشرفة دون أن يحاول الأقتراب منها، فقد أعتاد دوما أن يتابع الكائنات المحلقة فى السماء من خلف الأسلاك، ثم يتساءل من أين جاءت وإلى أين ذهبت.
تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى