الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم فخر الدين فياض

أبو محلوقة

لم يكن يدري من أين أتاه هذا اللقب (أبو محلوقة)!!

هو يحب مدينته وحجارتها السوداء حتى العظم..

وفي لحيته الكثة يختزن أحزان فقراء تلك المدينة الريفية وهمومهم.. يختزن غبار الأرصفة الحبيبة ورائحة خبزها ودوابها.

قرأ أشياء عن (الثورة ال! عالمية) وأشياء عن (البروليتاريا)..

أحب كوبا وموسكو حتى العبادة.. وانتظر مهللاً لأفق أحمر.. ومناجل ومطارق وغدٍ يحمل له خبزاً وحرية.

لكن لقب (أبو محلوقة) يعكر عليه حبه للأشياء الحمراء.. والحلم الأحمر!!

وأغلب الظن أن لقب (أبو محلوقة) كان يتعلق بلحية أبيه.. الذي لم يكن يضبط (البارومتر) الحراري داخل سراويله، فيردعه (المشايخ) بتقليم لحيته عقاباً له على زلاته و (ولدنته)!!.

طالما رفض الهجرة.. وعاند، مثل صخور بلاده أية فكرة للرحيل يوسوس له بها أحد (البرجوازيين الصغار) هؤلاء (الشياطين الجبناء) و(الحشرات الطفيلية على الثورة) كما يحب أن يسميهم.. ويردف باعتزاز: (هل سمعت يوماً أن صخرة قد هاجرت من منبتها.. فقط الحساسين الضعيفة هي التي تهاجر)!!.

لم يكن يأبه لفقر وغلاء معيشة وانعدام فرص العمل.. وفرص الحياة.

إن الزخم النضالي والقطاع العام والمنظمات الشعبية و(التحولات الثورية!!) نحو (التقدم والاشتراكية!!) كل ذلك كان يشعره بنشوة النصر والارتياح.. ويعانق الجنرالات العظام بنياشينهم وأوسمتهم، وتتحول المدن الرثة الثياب إلى (بطرسبورغ) و(سايغون) و(هافانا) وغالباً ما كانت يده تمتد إلى لحيته باعتزاز فيلامس فيها لحية "كاسترو" الفدائي.. وينبع! ث من طياتها الكثيفة رائحة "الفكر المناضل" عند لينين وستالين.. المشكلة فقط آنذاك هو "أبو محلوقة" حين يخطر في باله هذا اللقب البغيض "الذي لا حول به ولا قوة " ترتجف أصابعه وتبتعد عن ذقنه هاربة!!.

لم يكن لديه مشكلة إلا بهذا اللقب (اللعين)!!

فطالعه البرجي يتعلق بالمشتري.. كوكب الانتصارات وتحقيق الآمال والطموحات.. وهذا سر من أسرار "أبو محلوقة" كان يملؤه ثقة بالمستقبل الثوري للبلاد.. رغم أن ضميره كان يبكته من هذا الإيمان بالأبراج وبعض الغيبيات ويجعله يشعر وكأنه يرتكب خيانة للمجلدات الحمراء والزرقاء المصفوفة على رفوف غرفته الفقيرة..

وحين يقرأ شيئاً عن الأبراج كان ينظر إلى تلك المجلدات البراقة نظرة خجل واستحياء من تلك اللحى المفكرة التي تركت هذه النصوص "الخالدة"!!، ولا يلبث أن يخفي تلك النسخ القديمة من (الأبراج واعرف بختك وتنبؤات فلكية وغيرها) داخل كرتونة قديمة قريبة من الأحذية.. ويرفع نظره آنذاك إلى المجلدات التي زالت عنها تكشيرتها وغضبها منه وعادت منشرحة القسمات والثنايا.

وحين تزوج "أبو محلوقة" كان (المشتري) يرقد بكل ثقله في بيت أحلامه.. لم يقبل إلا زواجاً بروليتاريا (على سن ورمح) إنها تلميذته النجيبة، كتلة حماس وثورة، مليئة بالرفض والعناد لكل ما يسميه عادات وتقاليد موروثة. إنها "روزا" العرب بقامتها القصيرة، ووجهها الدائري وعينيها اللتين تدوران بمحجريهما مثل عيون الصقر!!

(هكذا الرجل المبدئي.. لا يفصل بين حياته العامة والخاصة).

كعادته حدث نفسه منتشياً بهذا الإنجاز الأحمر.. رغماً عن الهمسات (البرجوازية الصغيرة) حول سيقانها المربعة و(عنطزتها) عليه. ولسانها السليط.

لكنها كما يقول الأعشاكوف بن قيسخوف:

هركولة فنق درم مرافقها كأن أخمصها بالشوك ينتعل

أحب قامتها القصيرة كما أحب سراويل "لينين" المنكمشة على الغسي! ل.. أما (عنطزتها) ولسانها السليط فهو سوط يلهب ظهر الإمبريالية والطبقات الرجعية..!! وبئساً لسقراط حين قال (لا يُظلمُ قصير..).

كل الأشياء كانت تترك وقعاً طيباً في نفسه.. حياة منظمة وثورية (اللبن غذاء كامل!!) واللعنة على كل الرفاه الغذائي طبقياً (الحمراء الطويلة، أشرف من مارلبورو شيكاغو.. سيجارة!!).

(روزا العرب.. أحلى من ستين مادونا)

النضال.. الحس الشعبي.. التحرك الجماهيري.. البروليتاريا الوطنية.. القطاع العام.. الإرشاد الزراعي.. الارتباط بالثورة العالمية..).

هكذا الحياة وإلا فإنها لا تستحق أن تعاش!!

صحيح أن (زحل) يقترب من برجه وقريباً سيدخل بكل متاعبه وتعقيداته وهزائمه ليرقد في بيته.. ولكن (كذب المنجمون ولو صدقوا).. وصحيح أن لقبه اللعين يؤرقه.. فيترك في اللبن طعماً غير مستساغ.. وتغدو الحمراء الطويلة رثة الصنع يتبعثر رمادها ذات اليمين وذات الشمال.. ومع روزا، يترك هذا اللقب نشازاً عاطفياً وجمالياً، تصبح سيقانها قصيرة جداً.. وجسدها مدعبلاً مثل (القفة) فضلاً عن أنها يحن ينتابها (العصبي) وتترك للسانها حرية (الإنمغاط) فإنها تتحول بقدرة قادر من روزا العرب إلى (براقش) العرب والعياذ بالله، ويهمهم قولاً ماثوراً (شرّكم أقربكم إلى الأرض) إن زُحل بدأ يفعل فعله!!.

وأولى الرؤى السوداء كانت حين حطموا له جدار برلين (هؤلاء المنحرفون قومياً).. حطموا له قلبه وهو يرى الجدار يتهاوى على شاشات التلفزيون.. صرخ من أعماقه (خونة.. شوفينيون)!! جدار برلين.. أين منه جدار الصين!! وتحطم!!.

وحين دب التفكك والضعضعة داخل (المنظومة) المدللة والمحببة إلى قلبه. استعاذ بكل الآلهة من كوكب زحل (الله يجيرنا منه.. آه لو كان زحل رجلاً لانتزعت قلبه بأظافري.. إنه يخرب العالم)!!.

وحين بدأ الجنرالات العظام يتحدثون بلهجة أممهم ومصالحها القومية شعر بالخيانة أيضاً (إن الجنرالات يخضعون لتأثير زحل.. أمر لا شك فيه.. ويخونون أسلافهم العظام إنهم يخونون (أبو محلوقة) شخصياً!!.

(إن الثورة في حالة ارتداد) هكذا همهم بعد أن لعن أخت وأم (زحل).. أين آماله العريضة؟! أين التغيير الذي يحلم به.. بل أين القطاع العام.. والمنظمات الشعبية.. ولماذا يرى الشارع جائعاً تعلوه قيم الانتهازية والاستهلاك والرغبة في النوم؟!..

إن (زحل) يجعل من التخلف كائناً عملاقاً يتقدم نحو العصر والحضارة والثورة.. يتقدم وهو يحمل معه كل (عفنة القديم) بقمعه وجهله ومحاكم التفتيش القيصرية.. ويسحق في طريقه كل (اليوتوبيات) التي تكوّنت تاريخياً منارات للتقدم والتغيير.. فضلاً عن "روزا" التي أصبحت متطلبة مع تأثيرات (زحل) اللئيمة..

أصبحت تنتهره كثيراً حتى أنها بدأت تسخر من مبادئه (المشرشحة) وأفكاره (المرقعة) ونضالاته (النورية) وحين ضاقت بإيجار البيت المتراكم ومشكلة أصحاب (الدكاكين) الذين وحدوا جهودهم وركزوا مراقبتهم على الطرق الملتوية التي يسلكها "أبو محلوقة" و"روزا" للوصول إلى منزلهما بعيداً عن عيونهم، وحين لم تعد تجدي معها كل الحيل التي يستخدمها "أبو محلوقة" لتزجية الوقت من (طرنيب كبة) وأحلام بكنز دفين.. فضلاً عن (البروليتاريا) والثورة التي (تهل) بشائرها!! كل ذلك لم يعد يجدي مع "روزا".. إن نجمها الخفيف يجعل منها لقمة سهلة بي فكي (زحل) هكذا همس لنفسه معزياً.

ولكن (الجوع أبو الكفار) فحين أضحت معدتها خاوية.. تحولت آنذاك إلى قطة تعض وتخمش.

كان "أبو محلوقة" يرى كل ذلك ويعض على جرحه.. لكنه ما زال يلعن الإمبريالية والارتداد الثوري وبالطبع! (الطامة الكبرى) زحل.. وحين أتاها بكيس (اللبن) على أنه الغذاء الكامل..

لم تتورع عن (بصقه) واسعة من فمها الفضفاض ملأت له ذقنه.. امتدت يده إلى لحيته مذعوراً.. تلك اللحية التي لم تعد تشبه لحية (كاسترو) أبداً.. مسحها بقلبه.. وانهمرت دمعة كبيرة من عينيه.. هو الذي لم يهزمه الفقر ولا العوز.. لم يركع لمركز شرطة أو غيره.. هو الذي قضى سنين عمره مكافحاً، يأتي عليه اليوم الذي لم يعد يعرف فيه نفسه.. أفكاره.. مبادئه.. الناس الذين أحبهم.. روزا تبصق عليه!!

إذاً ماذا ستفعل معه الإمبريالية؟!.. إن زحل عميل إمبريالي.. مؤامرة فلكية إمبريالية.. تتعلق بخلو المسار لتضرب الإمبريالية آنذاك البلدان الضعيفة وتقضي على أي مخاض ثوري اشتراكي.. (آه.. وألف آه من زحل!!).

القصة الفائزة بالمركز الأول في مهرجان المزرعة الأدبي والفني في سوريا _2002


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى