الثلاثاء ١٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم أسماء الطناني

أبي.. أريد أن أرسمك

نظرت إليه.. نظر إليها.. ابتسمت له.. ابتسم لها.. كانت تملك شمساً وسماءاً وسط أكوان عينها.. شمس خضراء وسماء بيضاء.. جعلت شمس عينها تشرق علي وجهه.. تدور بين أجوائه وأركانه المتعددة.. بدأت رحلة شروقها من أعلي فهي شمس خاصة جدا لا تخضع لقوانين الشموس الكونية الأخري.. أشرقت علي أغصان الشجيرات المتدلية من زراعات شعره.. مرت علي حدائق جبهته البيضاء.. ومنها إلي العين اليمني وهنا التقت بشمس صديقة خضراء اللون أيضاً ألقت السلام عليها بلغة مشفرة لا تعرفها سوي الشموس.. تفحصتها بدقة وكأنها تدرس أبعادها الشمالية والشرقية والجنوبية والغربية.. قالت.. "أبي أريد أن أرسمك"، تعجب قاسم من هذا الطلب الغريب لكنه قال لها.. تفضلي.. ظن أنها سوف تذهب وترسم مباشرة لكنها وقفت تتفحص باقي وجهه وهو لا يدري ماذا تفعل.. يعلم شيئاً واحداً أنها ستفعل ما قالت.. نظرت إلي العين اليسري غربت شمسها حزناً عليها فلا شمس في عين والدها اليسري ولا سماء بها.. بها ليل فقط عليها آثار عملية جراحية نتيجة طلقة غادرة أصابتها فأعلنت إغلاقها مدي الحياة.. وسط الأحزان وسحب المواساة وسرادقات الشهداء.. دلفت زهرة إلي حجرتها الصغيرة التي كانت تعتبرها حياة أخري مليئة بالحب والحنان والابداع.. علي الأرض كانت هناك الفرشة والألوان.. فدائما ما كنت تحب أن ترسم زهرة وهي جالسة أرضاً قرباً من أرض وطنها المسلوبة كانت تشعر أنها بهذه الطريقة تحمي جزءا من أرض وطنها ولو أمتار بسيطة منه.. جلبت زهرة ورقة رسمها البيضاء.. كانت من عاداتها الدائمة أن تشاهد آخر ما رسمت قبل البداية في أي عمل جديدة.. كان ذلك يقوي روح الحماس بداخلها ويقوي من شكيمتها والتعبير عما يجول في خاطرها.. الرسمة الأولي طفل يبكي بجوار بيته المتهدم.. ينعي رفاته وبقايا جدرانه.. الرسمة الثانية.. جندي من العدو يقذف وابلاً من طلقات غادرة علي أطفال يحاربون بالحجارة.. الرسمة الثالثة.. سيدة تقف بجوار بقايا عائلتها الشهيدة ترفع يدها للسماء تدعو رب الكون للانتقام من الأعداء.. اكتفت زهرة بهذا القدر.. شعرت بشيء ما يقول لها ارسمي.. عبري عن غضبك.. عن اعتراضك.. كانت تشعر أن الرسم هو طريقها الأوحد للتعبير عن كل هذا.. وبدأت زهرة في رسم والدها قاسم.. بأحاسيس الابنة الصامدة الغاضبة الثائرة رسمت زهرة وجه والدها شيء ما بداخلها جعل يتصارع.. تشعر أن الشكل غير متكامل من الناحية المعنوية.. عينه اليسري سعيدة في اللوحة لكنها في الحقيقة حزينة باكية.. صراع في داخلها.. هل تبقي عليها بلا دموع أم بدموع.. وسط هذا الصراع.. استسلمت زهرة للنوم..

مر الليل.. أوله.. منتصفه.. آخره.. أتي الصباح بدون زقزقة عصافير.. فقد هربت بعيداً عن النيران والقنابل.. لا شمس مشرقة.. فقد غطت سحب الطغيان علي نورها وحجبته.. استيقظت زهرة.. اللوحة كانت في يدها.. خرجت لتريها لأبيها.. وجدته نائماً علي الأريكة في الشرفة.. اقتربت منه.. بدأت تقارن ملام ح وجهه بلوحتها.. تحسست وجهه وعيناه.. قالت له.. انظر يا أبي لقد رسمت.. هلا أعطيت لي رأيك.. لا تحزن مني أرجوك إذا وجدت عينك اليسري تبكي.. أنا أعتقد أنها حزينة.. أليس كذلك؟.. لماذا لا ترد.. هل أنت نائم لهذه الدرجة.. تحسست وجهه ثانية.. انه بارد للغاية علي غير العادة.. قالت له.. هل أنت مريض.. ولا تجد اجابة لما يجول علي أطراف لسانها.. بحثت عن أحد بالبيت.. لا أحد.. أين ذهب الجميع.. جلست بجواره.. تنظر له وللوحه.. بعد دقائق أتي الجميع.. دموع فرحة في عين أمها.. حزن علي وجه أخيها.. ألم علي وجه أختها.. اتجهوا ناحيته.. انزوت زهرة جانباً وفي يدها اللوحة تنظر لما يحدث.. غطي أخوها والدها بعلم بلادها.. حمله مع أصدقائه.. انطلقت زغرودة من أمها وسط صديقاتها وهن يربتن علي كتفها.. تجمع الجميع خلف الباب ومنهم من نظر من النافذة للمشهد.. أبي يبتعد.. يبتعد.. يبتعد.. أدركت أنه لن يعود.. لن تراه ثانية.. سمعت بقايا كلمات تقول.. " لا تحزني انه شهيد".. " لقد خرج في الصباح وعاد بالمجد والشرف والشهادة"..

لم يتبق لها سوي لوحتها التي تحمل ملامح وجه أبيها.. نظرت إليها.. قالت وهي تعلم أن لا اجابة.. أن الاجابة سيصمت الصمت أمامها.. هل سأراك ثانية؟.. هل سأرسمك ثانية؟.. هل ستقبلني ثانية وتحتضنني في الليالي العصيبة وتقول لي.. لا تخافي؟.. ألن تسهر معي علي ضوء شمعة منزلنا الوحيدة وتحكي لي قصص كفاح الشهداء.. أين أنت؟.. هل يمكنك أن تأخذني معك؟..

صمت الصمت.. وسكتت الاجابات الغير موجودة.. وانضم الليل مع النهار في لوحتها.. اجتمعت الدموع مع الابتسام.. رسمته ثانية.. وسط الحدائق.. بين الأنهار.. وهذه المرة كانت عينه اليسري بلا دموع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى