الثلاثاء ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم محمد أحمد العدوي

أجسادنا.. تحبنا

«وأن اجعل لهذا البناء بابا مكتوما إلا عن حكماء الحق»

في القاموس: وكل خلْق لا يأكل ولا يشرب من نحو الملائكة والجن مما يعقل فهو جسد. وكان عجل بني إسرائيل «جسدا» لا يأكل ولا يشرب وكان يصيح.

وفي القرآن: "وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ" يعني غير مكتمل أو قيل ميت.

واصطلاحا: هو الهيئة التي يكتمل بها وجود الإنسان، رأس وعنق راسخ يحمله وكتف مستديرة تنبت منها العنق ثم صدر وبطن وخصر وذراعان وساقان. وهو أجوف يكسوه جلد ويقوم به دعائم من عظم.

هذا الوصف الذي سبق يشترك فيه الأموات والأحياء، فإذا زادت الصورة حسا مرهفا وعقلا مدركا ولسانا معبرا تم الجسد إنسانا كاملا.

ولا أظن زهير بن أبي سلمى كان موفقا حين اختصر الإنسان في لسانه وقلبه فقط وهو يقول:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

فصورة «اللحم والدم» هذه مؤثرة في شخصية صاحبها أولا، وفي تلق الناس لها ثانيا. ما يجعل المهتمين بالسلوك الإنساني حريصين على دعم الصورة الجسدية للفرد في برامج بناء السلوك. فالتصالح مع الجسد واعتباره صديق مخلص يساعد في العيش والعطاء وجني متعة الحياة هو أول دعائم النجاح الموزون.

إنها أطول صحبة باقية معنا، وبغيرها لا يكون وجودنا حقيقيا. هذه الصحبة تجعلنا ملزمين بالنظر في المرآة كثيرا لنعرف ماذا يحمل لنا وجهنا من رسائل، ماذا تقول عيوننا حين تبتسم وحين تغضب. ما المكتوب على صفحات خدودنا. لأنه من المضحك أن يقرأ سوانا ذلك قبل أن نقرؤه نحن أولا. والأكثر إضحاكا ألا يمت هذا المكتوب لما نتصوره بصلة. فوجوهنا قد تخبر أخبارا لا ننتبه إليها. لنسم ذلك خيانة أو نسمه حماية، لكنه في النهاية دليل على اغترابنا عن أنفسنا.

ذلك أول التعرف، ثم يأت بعد ذلك التشارك والعلو، فكل درجة تعلو فيها بهذا الجسد فهي علو بك في الحقيقة. إنه يمنحك السعادة مضاعفة حين تمد له طرفها؛ زينة أو متعة يحبها ويقدر عليها. وهو يمنحك الألم مضاعفا حين تمتهنه أو تهمله أو لا تلتفت إليه في سعيك.

الأمر بالزينة في السُّنة جاء في موضعين: «عند كل مسجد» و «نسائكم». وهما موضعان لا يقصران التزين عليهما لكنهما يسلتزما التوقف والنظر.

فالمسجد الذي هو كل موضع للصلاة ولو كان حجرة خالية لا يراك فيها أحد، مع أن الله لا ينظر إلى الصور ولا يعلق الثواب عليها. إن موضع الصلاة هو المكان الذي تتربى فيه النفس، الذي تسمو عنده وتتجدد كل مرة لتظل نضرة قادرة على البقاء في هذه الدنيا والقيام بأعبائها. وعليه كان لزاما أن يكون أول ما تتفتح فيه هذه النفس الجديدة حين تتفتح، جسدا طيبا مزينا تألف به ولا تخشاه.

أما «لنسائكم» فلأن الجسد هو الذي يكتب جملة الحب الكاملة.

الجملة التي لأجلها كانت كل الجمل التي ولدتها اللغة. والجملة التي تتمم كل الجمل التي ولدتها اللغة. وهي التي تظل كل الجمل يتيمة حزينة ناقصة ما لم تنتهي إليها.

فهذين الموضعين بالغي الخصوصية والأثر، وهما صانعي الإنسان بالجملة. ويكفيه التزين فيهما لينسحب تلقائيا إلى كل شيء آخر. والزينة هنا ليست خاصة بالجسد وحده لكنه موضع اهتمام المقال.

مصارين البطن.. أصحاب:

تعلمنا أجسادنا كيف يكون الاقتراب القوي أدعى للمحافظة على الصحبة والبعد عن التشاحن. فلو لم تكن "مصارين البطن" أصحابا مخلصين، لما استطاع هذا البناء البقاء في الدنيا يوما واحدا. ستتعقد وتختنق ثم تنتفخ وتقف عن الحركة فلا هضم ولا امتصاص ولا حياة. هي طويلة معقدة قد تجاورت على غير اختيار، لكن الله منحها الحكمة التي تيسر لها ازدحامها هذا. فحين ينقبض منها جزء يكون الذي يسبقه والذي يليه قد ارتخيا ليسع ما تدفعه إليه. ثم هي في طولها يضمها كلها رداء مسدول عليها كالستار يفصلها فلا تنعقد ويحفظها عن الأغيار من أفراد الجسد وقواه الأخرى. حتى إذا جاورها طفل لا تُضر ولا يُضر.

الحياة بعدكم.. حرام:

من الصور التي أحبها في سلوك الجسد الحي هي سلوكه تجاه الصدمات (shock). وأبسط مثل لذلك هو انخفاض المحتوى السائل في الجهاز الدوري. والجسد إزاء ذلك يمر في ثلاث مراحل: في الأولى يكون قادرا على تعويض المفقود والمحافظة على الاتزان الداخلي دون دعم خارجي. فإذا زاد الفقد عن طاقته أصبح في المرحلة الثانية وفيها يكون التدخل الخارجي مجدٍ وذا قيمة، وتساعد العمليات الحيوية على الاستفادة بهذا الدعم بسرعة وحرفية. لكننا حين نتأخر عن تقديم الدعم حتى يصل الفقد إلى حد معين، فمهما حاولنا بعد ذلك فلن نقدم إلا الإسراع في النهاية.

ستكون كل العمليات التي استفادت بالدعم في المرحلة الثانية وسارعت من عبور الجسد إلى المنطقة الآمنة، هي نفسها بتفاصيلها التي ستستخدم دعمنا في المسارعة بالنهاية. وستكون الدوائر كلها مرتبطة ارتباطا قويا بحث يزيد معدل السير نحو النهاية بزيادة معدل تدخلنا الداعم المتأخر.

والصورة هنا ببساطة هي أن دعمنا تأخر حتى فقدت المراكز الحيوية في الدماغ حياتها، عند ذلك يكون إنقاذ الجسد غير مجد فيسارع إلى النهاية لأنه يعلم أنه لا حياة حقيقية له بغير سيده.

من رسائل الجسد القصيرة:

تعلمنا العين حين نفحصها أن الضوء الساطع قد يحجب الحقائق كما يحجبها الظلام. وأن العلة باتجاه الضوء وإن كان ضعيفا.

والعين كسائر الأعضاء لا تمنح نفسها لمن يقتحمها.

فنحن حين نقتحم عضلة دون أن تأنس إلينا فإنها تنقبض كالجدار، ومهما حاولنا بعد ذلك فلن نفلح. يعرف ذلك أطباء التخدير حين يفاجئون المريض بإبرة التخدير النصفي فتنقبض عضلات الظهر فجأة. محاولة واحدة غشيمة تغلق دونك ما لو أقدمت عليه برفق لانفتح.

الألم علامة مجاوزة الحد، يحفظنا من الخوض فيما ضر. هو العبارة الآمرة بالتوقف والنظر، وهو أيضا علامة الحياة؛ لأن الأموات لا يتألمون.

الألم القوي المستمر.. "لابد" أن ينتهي ولو بالغياب عن الوعي. لأن الألم الطويل يقتل ولو كان منشؤه وهما لا أصل له.

يتغير الجلد مرة كل شهر، تتجدد بطانة المعدة مرة كل مرة كل خمسة أيام والكبد مرة كل ستة أسابيع. ونفوسنا خمس مرات في اليوم. نحن على الدوام مخلوقون من جديد. وتمام الجهل إذا يكون في التمسك بصورة واحدة قديمة بالية.

جعل الله الجسد خاتم السعادة لتكتمل. وجعله أيضا خاتم العذاب ليكتمل. ووعد باستمرار كليهما في الآخرة مع أن ذلك لا يحدث في الدنيا. فكل العمليات الحيوية لها حد تقف بعده. فلا السعادة فيه ممتدة ولا الألم باق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى