الثلاثاء ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم فتحي العابد

أستاذ العربية

في آخر غرفة من الطابق الأول زواياها مربعة، أربعة في أربعة، حيطانها باردة أحيانا ودافئة أحيانا نزولا عند رغبة الطقس وحسب مزاجه.. مصطبتها من خشب الزيتون تفللت وتشققت من كثرة العفس، بيضاء ببقايا التباشير بعد مسح سبورة عرض الحائط تقريبا أكل الدهر عليها وشرب.. تعيش في حماها الهوام والحشرات.. نجتمع في تلك الغرفة مرة في الأسبوع صحبة أستاذنا المسمى الحبيب ونجلس على كراسيها المصففة بشكل جيد لنتدارس اللغة العربية.
أستاذنا في مادة العربية ذو الشوارب الطويلة والوجه المستدير والبشرة السمراء، دائما ما كان يذكرنا بأن طول وطريقة فتل الشوارب تدل على رجولية الرجل، وكان معروفا بانتمائه الشيوعي، بل بتكريس ونشر أفكاره أثناء ومن خلال الحصص الدراسية، له نظارة سوداء يستعملها حتى داخل الفصل ليراقب من وراءها طلابه، أو لكي لانعرف إن كانت عيناه مفتوحة أو مغموضة. يحب الإنضباط، حتى أنه كان يضع يده اليمنى فوق يده اليسرى لايتحرك وكأنه صنم لكامل المدة التي نحرر فيها موضوع الإنشاء لكي لا يحسس ولايشتت أفكارنا.. دائما مايرتدي بدلته السوداء أو الزرقاء الغامقة مع رابطة العنق. يعرف مكنون لغته، لا يخاطبنا إلا بالعربية الفصحى حتى خارج الفصل، صاحب المواهب المتعددة والثقافة العريضة العالية.
كان ملما جيدا بأساليب ترويض الجامحين من تلاميذه، ومحترفا في ترغيب حصة العربية حتى لمن لا يحرص على لغة الضاد، بما أن تلك الحصة تدوم لأربع ساعات متتالية، رغم أن أسلوب تعامله مع التلاميذ يغلب عليه الشد والرد، أشهد له بدرايته الواسعة في تعطيش الطلاب وتشويقهم بل إمتاعهم حتى يسهل عليه تطويعهم.. كان يعرف كيف يقود قطيعه من الخلف لتسير في منهج واحد حتى تصل إلى سهل الكلأ الذي يريده هو، كالراعي المحنك الماهر..
لا أستطيع أن أنكر أن أيام الدارسة الثانوية، واحتكاكي بالأستاذ حبيب وأمثاله ونقاشي المتواصل معه رغم تغلبه علي دائما بغزارة معلوماته التي كنت أوقن أنها مغلوطة، لكني لم أكن أملك الرد المقنع والمحجم، فأنسحب مرددا عليه بأن للباطل جولة وللحق صولة بعدما عرفت أنه يكره سماعها.. كانت تلك محطة مهمة لي ولكثير من أقراني في ترسيخ التوجه العروبي الإسلامي لدينا.
من أيام الأسبوع كان الخميس هو اليوم الذي نلتقي فيه بأستاذنا لتلك الأربع ساعات المتتالية في مادة العربية، والتي بقيت حوادثها محفورة في الذاكرة إلى اليوم، وكانت لكثير منا كمحطة نستريح فيها ونستظل في فيئها.. ويوما مفتوحا تتفتق فيه قريحة محبي اللغة العربية، تقام في كثير من أيامه المسابقات وتحصد فيه الجوائز..

ذات خميس دخل علينا أستاذنا دون سلام ولا كلام كالعادة، وضع حقيبته فوق الطاولة، نظر إلينا ليعرف الغائب من الحاضر، ونحن واقفين وأعيننا متجهة نحو السبورة، عدل رابطة عنقه ثم ارتمى فوق الكرسي الخشبي بعد أن أذن لنا في الجلوس إعلانا عن بدإ الحصة..
أخبرنا أستاذنا بأن موضوع الإنشاء لذلك اليوم مأخوذ من حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أن استهزأ بمعانيه، وهو سلوك غير معروف عليه من قبل، بل يحترم الفكر والمعتقد الآخر، وأول مرة تقع في قسمنا بل في معهدنا من يستهزأ بحديث من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم..

خاطبني بالدارجة، وهي أول مرة كذلك، إذ كنت أجلس في الطاولة الأمامية المقابلة له في قسم متراص بفسيفسائية، وأمرني أن أكتب في السبورة مايمليه علي. ابتللنا جميعا بمياه الدهشة واستشطنا عجبا منه.. خرجت إلى السبورة مستاءا دون أن أبدي له اعتراضا..
كتبت كما أُمرت وعلمني، ثم جلست في أول الصف.. إثر ذلك طفقت أهمس في أذن زميلي الذي بجنبي ما سمعنا وشاهدنا اليوم من العجب العجاب، والذي قام بدوره بنفس ما فعلته أنا مع الذي يليه، واستمر الوضع دواليك مع الجميع حتى وصل إلى محمد، آخر تلميذ في الصف والذي قبل أن يأمرنا الأستاذ بالسكوت جاهره قائلا: نحن لانقبل الدنية في ديننا ياأستاذ، ثم جلس.

قبل منه الأستاذ اعتراضه.. بقينا في الأيام التي تلت تلك الحادثة نتحدث ونتعجب من أمره، وكان محمد الذي لم تخمد نار غضبه يلومنا عدم مغادرتنا الحصة ذلك اليوم احتجاجا على تصرف الأستاذ.. وقبل يومين من حصة العربية أعلمنا زميلنا بأنه يحضر مفاجئة لأستاذنا ردا لجميله.. ولكم التعنا شوقا لنعرف ماهي؟ لكنه رفض الإفصاح عنها.

وحانت لحظة المفاجأة التي لم نتوقعها جميعا وأصابنا الذعر لهولها.. حيث أخبرنا محمد ونحن داخلين القاعة بأنه فكك كرسي الأستاذ وتركه بشكل حيث عندما يجلس عليه يسقط.. أردنا تدارك الأمر لكننا لم ننجح لأن الأستاذ دخل بعدنا مباشرة..

دخل حبيب القاعة بعد أن أغلق الباب خلفه دون كلام ووقف بين الكرسي والطاولة يتفرس في وجوهنا بعدما وضع حقيبته الحمراء أمامه.. أشار علينا بالجلوس وارتمى هو كما تعود بين ذراعي الكرسي، وإذا به يغيب عن أنظارنا مع دوي وغبار أبيض متصاعد بعد أن تحطمت من تحته الأخشاب وعلق بين ألواح المصطبة..

قام.. أبيض الثياب والوجه والشعر وكأنه مطلي بالجير.. لم نضحك ولم يتكلم أحد منا.. نزل من المصطبة.. لم ينفض ثيابه.. أمرني بالخروج إلى السبورة دون أن يرفع نظره..
صعدت المصطبة على يسار طاولته، استدار نحوي وقال لي: قل: أقسم بالله لم أر من نصب هذا الفخ؟

سألته: متى عرفت الإله؟

أجاب: الآن عرفته..

قلت: أقسم بالله لم أر من نصب هذا الفخ..

قال: صدقت إرجع إلى مكانك..

وهكذا مع ستة من أقراني ممن يثق فيهم، نفس السؤال ونفس الجواب.. عندها أقسم بالله أن لايدخل قسمنا بعد ذلك اليوم، وقضينا بقية السنة دون أستاذ راتب..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى