الخميس ١٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم زينب خليل عودة

أفريقيا.. الأسرار والمعجزات

كتاب ـ أفريقيا.. الأسرار والمعجزات ـ الحلقة (1)

إفريقيا.. فقر وحروب وثراء مبدد

أصدر الراصد للتوثيق الاعلامى في نشرته الحالية عرضا مفصلا عن كتاب – إفريقيا.. الأسرار والمعجزات من تأليف ريتشارد داودن وقام بعرضه ومناقشته محمد الخولي وتبلغ عدد الصفحات 577 صفحة للناشر: بابلك افيرز، نيويورك ـ 2009

هذا الكتاب يجمع فيه أسلوب المؤلف بين موهبة السرد الروائي حيث يستعرض تراجيديا إفريقيا بكل ما عانته من مواريث الاستعمار ومن تركة التخلّف والتناحر العرقي.

ويعد أسلوب المؤلف عن قدرة الباحث الدارس على استيعاب أبعاد وأعماق المشهد الأفريقي المعاصر، بما يحفل به من تناقضات اجتماعية ومشكلات اقتصادية، فضلاً عن أشواق مشروعة تراود الأجيال نحو الحوكمة الديمقراطية والعدل الاجتماعي على مهاد من التنمية التي تنجح في استثمار ما تحفل به أفريقيا من موارد زراعية ومعدنية، وما يرتبط بها من مزايا الموقع البري والسواحل. ويستمد الكتاب سماته من أنه لم يكن مجرد نتاج لبحوث أكاديمية، وإنما تجربة ثرية عاشها المؤلف على الأرض الأفريقية منذ شبابه.

وهذه الحلقة يبرر أسباب تركيزه على أفريقيا جنوب الصحراء بعد أن استبعد التعرض للشمال الأفريقي بحكم ثقافتها وعلاقاتها بالعروبة والإسلام والمتوسط.. كما يسجل أول زيارة قام بها للقارة في 1971 حيث استقر به المقام مدرسا في قرية متواضعة في أوغندا وبعدها ارتبط مصيره بأفريقيا كاتبا وصحافيا وخبيرا في تاريخها وحاضرها. ثمة تصدير بليغ لهذا الكتاب بقلم واحد من أعلام الشخصيات الإبداعية على مستوى أفريقيا والعالم كله هو الروائي الأفريقي «شينوا اتشيبي». في سطور التصدير يؤكد «أشيبي» أن أفريقيا هي أولا وقبل كل شيء قارة يعيش فيها البشر وليست مجرد منتجع للسياح ولا هي موقع للطرافة أو الاستغراب. يضيف الروائي الأفريقي موضحا أن القارة السمراء عاشت، بل عانت تاريخا من العذاب، ومازالت ترزح تحت ميراث من الاضطراب السياسي والعقائدي والاجتماعي فضلا عن الصراعات العرقية والقطرية والعشائرية. لهذا يحمد لمؤلف هذا الكتاب أنه اختار أن يتناول أفريقيا من منظور الناس، البشر الذين يعيشون على أرضها.. وليس من منظور الزائر العابر أو السائح الذي لا يهمه سوى متعة ما قد يقضيه بين ربوعها أو أحراشها من أيام.

أكثر من هذا، فقد أحسن المؤلف صنعا لأنه لم يتعامل مع القارة من منظور الوصاية أو مجرد عطف الكبير على الصغير.. بل تعامل مع أفريقيا وأحوالها ومشاكلها من منظور محاولة الفهم ودراسة التاريخ وجدية التعامل النقدي ـ أو الموضوعي ـ مع قضايا القارة في الحاضر وفي المستقبل. ويتألف كتابنا من 18 فصلا ويتضح لأول وهلة، ومن واقع مطالعة عناوين هذه الفصول، أن المؤلف يتناول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ـ وتلك عادة مؤلفي الغرب الذين يطلقون على هذه المنطقة وصف القارة السوداء.. في حين يستبعدون مناطق الشمال الأفريقي على اعتبار أنها تنتمي في الأساس الى العالم العربي.. مغرب العالم العربي على وجه التدقيق فيما تنتمي بنفس المقياس الى حوض البحر المتوسط. وأيا كان الأمر، فنحن نطالع من الإطلالة الأولى على بدايات كتابنا، أسماء أقطار من قبيل أوغندا والصومال وزيمبابوي وأنغولا والسنغال الى الكونغو وجنوب أفريقيا وكينيا..

وإن كان يلفها جميعا ما يشبه الخيط أو العقد الفكري الذي يطوق هذه البلاد بأسرها.. وهو طوق يبدأ مع الفصل الأول من الكتاب بأن يعرض لما يسميه المؤلف بالصور والحقائق.. الى أن يختتم الكتاب في فصله الأخير بما يسميه المؤلف لدى ختام صفحاته التي قاربت الستمائة بنظرة على أفريقيا الجديدة.

الصيت والحقيقة

لأفريقيا صيت شائع يتمثل في الفقر.. المرض.. الحرب. والغريب أن الزائر لأفريقيا قد يفاجأ بمقدار الترحيب والحفاوة اللذين يلقاهما هناك.. حيث الأفارقة يتمتعون بوفرة مما يمكن أن نطلق عليه وصف كرم الضيافة أو هو المهارات الاجتماعية التي لا يتعلمها الناس في مدرسة، ولكنها تشكل جزءا من الأعراف التي يشبّون وينشأون على احترامها وممارستها.

ثم يعرض المؤلف للانطباعات الأولى التي تراود زائري القارة.. القادمين من أقطار الغرب على وجه الخصوص.. يقول: عند وصول الغربيين الى أفريقيا لأول مرة يروعهم ذلك البهاء الساحر وذلك الحجم الكبير.. هناك.. حتى السماء تبدو أعلى من المعتاد.. هنالك يفاجأ الزائرون بأنهم قد تخففوا من أشياء كثيرة وانفتحوا على أمور أكثر.. يتجردون من الكوابح والقيود يشعرون بدفق زائد من الحياة.. بل والصدق مع النفس.. ومنهم من يبدأ في فهم السبب الذي جعله يشعر أنه إنما كان يعيش نصف حياة لا أكثر.

ويروي المؤلف تجربة حوار مع صحافي جاء الى لندن من قارة أفريقيا.. اسمه سوني عمر.. زائر من شمال نيجيريا (حيث الأغلبية من المسلمين ).. سأله المؤلف: ما الذي يروعك في أول زيارة لك الى لندن؟

أجاب: رأيت الناس يسيرون مسرعين لا يلوون على شيء ولا يتكلمون مع بعضهم البعض.. بل لا يتبادلون تحيات الصباح.

ربما يأتي هذا الشغف الذي لا يزال يستبد بمؤلف هذا الكتاب بكل ما تمثله القارة الأفريقية وخاصة في أجزائها وأقطارها الواقعة جنوبي الصحراء الكبرى.

يقول في هذا الصدد: ليس معنى هذا الاستبعاد للشمال الأفريقي أو الجزر الأفريقية أن أفريقيا جنوب الصحراء منطقة واحدة أو متجانسة. العكس هو الصحيح: إن أفريقيا السوداء هي أكثر المناطق تنوعا على سطح كوكبنا: ما بين صحارى ناميبيا المحرومة من المطر الى الثلوج المتقلصة بالانكماش فوق جبل كلمنغارو، ما بين أراضي شجيرات السافانا عند الغرب الى الغايات المتكاثفة الباسقة الأشجار في حوض نهر الكونغو.. كل هذه التنوعات تؤكد أن أفريقيا حباها الله سبحانه بتشكيلات واسعة النطاق من أنواع النبات والحيوان.. فما بالك وهي تضم أكثر من 2000 لغة وثقافة.

بدايات الوعي

بعد هذا العرض الاستهلالي يعود بنا الصحافي البريطاني المخضرم مؤلف الكتاب الى بدايات نشأته وإرهاصات ارتباطه بالقارة. في أوائل خمسينات القرن الماضي ذهب جده الى غانا اذ كانت أيامها مستعمرة بريطانية تحمل اسم «ساحل الذهب».. كانت مهمته هي إحصاء المواليد والزيجات والوفيات بمعنى إجراء أول تعداد للسكان هناك..

عاد الجد في أوائل الستينات وفي جعبته أكثر من حكاية يرويها عن أفريقيا.. خلال تلك السنوات ظل مؤلفنا ـ إذ كان صبيا ـ يصغي الى جهاز الراديو العتيق بلونه البني الغامق في ركن منزل أسرته وقد ترامت منه أنباء عن صراعات وحروب وأسماء وجماعات كلها تتعلق بقارة بعيدة اسمها أفريقيا.. في هذا الإطار تسَامَع الصبي عن الماو ـ ماو وهم الجماعات المطالبة باستقلال كينيا..

وعن مذابح ارتكبت في الكونغو (لم يقل المؤلف ان ارتكبها جنود الاستعمار البلجيكي وأعوانهم الأوروبيون الذين اغتالوا باتريس لومومبا الزعيم الذي تحققت على يديه ملحمة استقلال الكونغو).

في نفس الظروف قُيض للمؤلف.. وكان يخطو الى سنوات المراهقة، أن يطلع أيضا على جانب كان مستترا من جوانب الحياة والتاريخ في أفريقيا.

مع الستينات.. جاءت إلى منطقة «ورسستر» بانجلترا حيث تعيش عائلته موجات من موظفي المستعمرات السابقين.. يطلق عليهم المؤلف الوصف التالي:

المنفيون الكولونياليون

رجال لوحت الشمس وجوههم.. يتسمون بأناقة الملبس إذ يختالون في ستراتهم البليزر الداكنة الزرقاء ذات الأزرار المذهبة اللامعة.. ويدققون كثيرا في اتباع آداب وأعراف الاتيكيت: كانوا يعملون موظفين وضباط شرطة في كينيا وغانا وأوغندا (مستعمرات بريطانيا سابقا) وكانوا يتصرفون بروح من الاستعلاء..

أما النساء (زوجاتهم) فكان يفوح بين صفوفهن أريج العطور النفاذة من ملابسهن القطنية مع لمسات الاستعلاء وترديد الشكوى بغير انقطاع.. كان الرجال بشواربهم الكثة.. والنساء بعطورهن القوية.. لا يفتأون يشيرون في أنفة ملحوظة الى أولئك ال.. الأفارقة.. أو هؤلاء ال.. المحليين أولاد البلد.. فيما ظل المؤلف يستمع باستمرار الى معزوفة لا يمّل القادمون من ترديدها وتلخصها عبارة واحدة هي: إنهم ليسوا مستعدين بعد لنْيل الاستقلال.

بعدها كان الرجال من ذوي السترات الأنيقة الزرقاء والأزرار المذهبة اللامعة يسوقون أحاديث عن.. ثورات تندلع.. وشيوعيين يستولون على مقاليد الأمور.. و خدم من الأفريقيين يسرقون.. السكر من مطابخ السادة (الإنجليز)!

مع هذا كله فلم يفت فتانا (المؤلف) أن يلاحظ أن هذه الأحاديث بما حوته من غرور واستعلاء كان يشوبها نغمة حزن وأسى وشعور بالضياع.. وفي هذا يعلق المؤلف قائلاً: فيما كانت جلودهم تقشعر من برودة «ورسستر» كانت أرواحهم تحترق شوقا إلى أفريقيا.. فردوسهم المفقود.

صيحة الحرية

في غمار هذه السنوات التي شهدت عبور المؤلف الى سنوات المراهقة ومن ثم إلى مدارج الشباب.. كان يتوقف مليا (ص12) عند مفارقة ملحوظة من حيث المعنى والدلالة:

بين سلوك هذا الجيل من قدامى الموظفين والمسئولين الاستعماريين (كانوا بقايا الهيلمان الإمبريالي الذي طالما نعمت به إمبراطورية بريطانيا العظمى).

وبين صيحة فريدوم ـ الحرية التي كانت تتردد أصداؤها عبر برامج ورسائل وتحقيقات إذاعات البي بي سي من أقطار أفريقيا نقلا عن المظاهرات والتجمعات والمؤتمرات التي كانت تعقد في حواضر وأرياف وبوادي وغابات تلك الأقطار المتلهفة وقتها على نيل الاستقلال.

أكثر من هذا

صيحة «الحرية» ما لبثت أن تدعمت وتأصلت في نفوس جيل المؤلف نفسه حين التحق بالجامعة في عام ,1968. هو العام الذي شهد ـ كما هو معروف ـ مظاهرات الشباب في فرنسا لتغيير الأعراف المرعية في التعليم الجامعي كما شهد سلسلة من الانتفاضات والمظاهرات المناهضة لدور أميركا في حرب فيتنام.

لكن وسط هذه الأجواء المشحونة.. كان للمؤلف وهو في تلك السن الشابة آراء أخرى..

يقول: لم أكن لأقتنع بمجرد السير في المظاهرات ورفع اللافتات أو ترديد الشعارات.. كم شعرت أن المظاهرات لن تغيّر الأوضاع وكنت أريد أن أفعل شيئا حقيقيا بشأن ما كنت أسمع عنه من أحوال الفقر وصنوف المعاناة.. آمنت يومها بأنك إذا أردت تغيير العالم يتعين عليك أن تذهب إلى هناك.. أن تعيش مع أفقر الفقراء كي تغير حياتهم.

مدرس في أوغندا

هكذا قرر الفتى ريتشارد داودن أن يمتهن حرفة التدريس.. ولم يتردد بدوره في قبول عرض كي يعمل معلما بمدرسة ريفية في أوغندا و.. هكذا تم أول لقاء بينه وبين القارة التي طالما سمع عنها.. عن أحوالها ومعاناة أهلها وكان ذلك بالتحديد يوم 18 مايو عام 1971.

يقول المؤلف: بيتي الجديد كان منزلا صغيرا على حافة جبل.. من نافذته كنت أستطيع رؤية بحيرة فيكتوريا عبر مزارع شاسعة ينبت فيها الموز وتسودها خضرة مترامية بغير حدود..

و.. هكذا بدأ المؤلف منذ فجر شبابه حياته مدرسا متواضعا في أرياف أفريقيا.. وفي منطقة بحيرة فكتوريا الأوغندية على وجه التحديد.

يواصل توضيح أنماط هذه الحياة قائلاً: فيما يعيش الناس في الوديان، فهم يتركون سفوح الجبال المغطاة بخضرة النبات كي ترعى فيها قطعان الحيوان.. وأهمها البقر ذو القرون الطويلة التي تذكرّك ولاشك بالتصاوير التي اكتشفوها في مدافن قدماء المصريين، تلك التي يرجع عمرها إلى فجر تاريخ البشرية.

كان سعيدا.. لكن مشكلته ـ كما يحكي في أواخر الفصل الثاني من الكتاب ـ أن الأفارقة، وخاصة أجيالهم الطالعة، كانوا يتهيئون للتخلي عن ثقافاتهم الشعبية وعن تراثهم الأصيل الموروث.. كانوا مبهورين بالغرب.. ويتطلعون إلى محاكاة أساليب حياته.

تناقضات خطيرة

كان أشد ما أحزنه هو تلك المفارقة التي عايشها ورصدها: بين أسلوب الحياة البسيط.. المفعم بالنقاء والتصالح مع النفس والطبيعة والتطلع إلى المستقبل.. وبين ما استجد من تطلع إلى الأبهّة المغرورة والرخاء المستورد والإسراف في تبديد الموارد بشكل غير راشد وغير مسئول.

يقول المؤلف في هذا السياق (ص34): وهاائنذا بعد 30 عاما استعيد صور الإسراف المغرور في سلوك عدد من حكام أفريقيا ومسئوليها.. ما بين وزير في غانا اصطنع سريرا من الذهب الخالص كي ينام عليه.. أو بوكاسا الذي بدد موارد جمهورية أفريقيا الوسطى في حفل تتويجه بلقب إمبراطور، أو موبوتو رئيس الكونغو الأسبق الذي استأجر يوما أفخم طائرة من طراز الكونكورد عابرة المحيطات في رحلة مخصوصة مع أسرته من الكونغو إلى نيويورك.. وكان الهدف ببساطة شديدة هو: هواية التسوق ومتعة التبضع من المحلات الأميركية.

المؤلف في سطور

مؤلف الكتاب «ريتشارد داودن» يشغل موقعا غاية في التميز بالنسبة لموضوع الكتاب وهو: مدير الجمعية الملكية الأفريقية ذات السمعة الطويلة تاريخيا والعريضة من حيث الإنجازات، التي تتجلى في طليعتها تلك الإمكانات التي قدمتها الجمعية البريطانية من أجل استكشاف الأصقاع شبه المجهولة من القارة الأفريقية وخاصة منابع ومسارات أنهارها العظمى..

ما بين نهر الكونغو إلى نهر النيل. وقد أمضى المؤلف عقدا كاملا من الزمان مقيما في أفريقيا ومعايشا لمشاكلها وتطلعتها إذ كان هو المحرر المسئول عن القضايا الأفريقية في صحيفة «الاندبندنت البريطانية» وبعدها قضى المؤلف عشر سنوات أخرى حين كان مسئولا عن تحرير مجلة «الايكونومست»..

بهذا استطاع «ريتشارد داودن» أن يجمع بين الخبرة الشخصية المباشرة وبين تجميع وبلورة هذه الخبرات المباشرة بأسلوب الكاتب الصحافي والخبير الإعلامي، سواء في عدد من الأفلام التسجيلية المهمة عن أفريقيا، وقد أذاعتها هيئة البي. بي. سي على شاشات التليفزيون أو في دراسات تجمع بين الرصانة والطلاوة، ومنها هذا الكتاب.

كتاب ـ أفريقيا.. الأسرار والمعجزات ـ الحلقة (2)

القارة العذراء حافلة بالخصوبة والثروة والطغاة

في هذه الحلقة يوضح المؤلف حقيقة، أو أزمة التناقض التي تعيشها افريقيا في رأيه ما بين الأمل والقنوط، وخاصة في مراحل ما بعد الاستقلال. تلك المرحلة التي بدأت مع أوائل عقد الستينات من القرن العشرين.

اتسمت هذه المرحلة بالصراع: ما بين تطلع الأفارقة إلى مزيد من الحرية والتنمية المستقلة، وفي الوقت نفسه لبقائهم مشدودين على مستوى قطاعات شتى من بلدانهم إلى مجتمعات الغرب في محاولة لمحاكاة أساليب حياة وسلوك المستعمر الأوروبي. وتواصل الحلقة استعراض المحطات البارزة في تاريخ افريقيا في العصر الحديث مع التركيز على وقائع مؤتمر برلين المعقود عام 1884 تحت شعار «التسابق على (استعمار) افريقيا». في هذا المؤتمر تم رسم معالم وحدود خارطة القارة تحت الشعارات والأهداف الإمبريالية العتيدة.. وهي التبشير بالمسيحية ونشر المدنية والاستثمار (الاستغلال) الاقتصادي. ميزة هذا الكتاب.. في تصورنا.. هي الصراحة المباشرة، لأن كثيراً من الكتاب والدارسين من الغرب وقعوا في فخ مزدوج وهم يكتبون عن أقطار الشرق في افريقيا أو آسيا.. وهو فخّ يضم في جانب منه مشكلة النظرة الرومانسية إلى أوضاع تلك الأقطار غير الغربية.. نظرة قد لا تخلو من التعاطف، ولكنها تنضح ولاشك بقدر كبير من روح الوصاية أو التعامل بمنطق سياحي مع شعوب وأوضاع تلك الأصقاع الآسيوية أو الافريقية.. وهي نظرة ترى في تلك الشعوب ما يشبه عيّنات أو تمائم أو أيقونات تنتمي إلى عصور غبرت في كتاب التاريخ.

نفس الفخّ يحوي في جانبه الآخر تشاؤم النظرة الرافضة والمتكبّرة أيضا إلى آسيا وأفريقيا لا ترى في أوضاعهما سوى التخلف والفقر والذباب والرطوبة والصراعات الأهلية، فما بالك وقد أضيفت إلى هذا كله آفة مستجدة تبدو اليوم أقرب إلى الموضات الفكرية والسلوكية، وتحمل اسما عاما ومعلنا هو: الإرهاب. ولكنها تخفي، أو تكاد تخفي اسما مستترا يكاد القوم يعلنونه بين حين وحين وهو: الإسلام. في كل حال فقد نحمد لمؤلف هذا الكتاب أنه يطل على افريقيا من منظور نراه موضوعيا.. صحيح أنه لا يخلو من روح التفهم أو حتى التعاطف.. ولكنه لا يتورع عن رصد الأخطاء وإعلان السلبيات.. وهو ما تلخصه عبارة بليغة ومكثّفة المعاني أوردها كتابنا على صفحة 36 وتقول: إن افريقيا تجسد التناقض بين الجمال والشر.. حيث يتعايش الصبر الجميل والروح الإنساني جنبا إلى جنب مع القسوة والعنف. ثم يحاول المؤلف أن يلقي مزيدا من الضوء على هذه الأحكام التي قد تكون انطباعية.. فيوضح أن سنواته الأولى من الحياة على أرض أفريقيا بدأت مع ربيع سنة 1971 حيث كانت أغلب أقطارها حديثة الاستقلال.. ولم يكد يمضي على نيلها هذا الاستقلال عن إمبراطوريات الاستعمار الفرنسي.. الإنجليزي.. البرتغالي أكثر من عقد من الزمان. يقول المؤلف في نفس السياق: في سنتي الثانية من الحياة هناك قمت بجولة سافرت فيها عبر شرق أفريقيا نزولا إلى زامبيا.. (وقد راعني) أن لمست في تلك الأنحاء نفس التسابق (هل نقول التلهف أو التكالب) على (محاكاة) أسلوب الحياة الغربي.. نفس الرفض للثقافة الأفريقية رغم بقاء أنماط السلوك الأفريقي على ما كانت عليه. والمشكلة أن تلك الدول الأفريقية كانت تتبع معدلا في تنمية اقتصاداتها يستغرق منها عشرات السنين لكي تصل إلى ذلك الأسلوب الغربي في الحياة.. على أن يقتصر ذلك الأسلوب (الأوروباوي) على أقلية ضئيلة من شعوبها.

هنا قد نسأل.. وماذا عن الأغلبية إذن؟ هنا أيضا يسارع المؤلف إلى الإجابة قائلا: هذه الأغلبية كان قوامها مزارعي الكفاف ولكن كانت أجيال الشباب من أبنائهم يرون في التعليم طوق الخلاص من ضيق الحياة في الريف.. ولم يكن بوسعهم أن يصلوا إلى شواطئ الغرب سوى في أحلامهم، اللهم باستثناء أقلية محدودة العدد.

نموذج أوغندا

ويواصل المؤلف رسم أبعاد هذه الصورة السلبية موضحا أن عقد السبعينات الذي عاشه في افريقيا شهد تصاعدا في زيادة السكان وتدهورا في مؤسسات الدولة إلى حد الانهيار الاقتصادي ولم يكن أمام الأفارقة العاديين سوى اللجوء إلى وشائجهم العائلية لمجرد البقاء على قيد الحياة.

في غمار هذه الأجواء عاشت أوغندا، البلد الذي عرفه المؤلف جيدا، ديكتاتورية عيدي أمين على مدار عشر سنوات أو نحوها.. وفي غمارها أيضا تحطمت أحلام الوطنيين وانحسر مد التنمية في أوغندا وفي سائر الأقطار الأفريقية جنوبي الصحراء.. فما بالك يستطرد المؤلف - (ص37) وقد أضيف إلى سوء الحالة.. طائف خطير من الرعب الذي كان وقتها في طور التشكيل دون أن يدري أحد كنهه ولا طبيعته.

ثم يزيدنا المؤلف توضيحا في هذا الصدد ليقول: على مسافة بضعة أميال ليس إلا إلى الجنوب من مدرستنا الصغيرة في جنوبي أوغندا، كانت تقبع البيئة الحاضنة لأخطر كارثة نزلت كالصاعقة على رأس البشر من أيام الوباء الأسود الطاعون منذ 600 عام.. وهذه الكارثة حملت اسم «متزامنة نقص المناعة المكتسب» وقد عرفت، ومازالت تعرف، في طول العالم وعرضه باسمها المخيف:

ومرة أخرى يتوقف بنا الكتاب مع الفصل الرابع عند ذلك التناقض الذي كان، وربما لا يزال مائلا في «الحالة الأفريقية» ويلخصه السؤال التالي: أفريقيا تحمل وصف القارة «البكرالعذراء» بمعنى أنها حافلة بأغنى الموارد الزراعية والامكانات النباتية والساحات الشديدة الخصوبة والثروات المعدنية. ومع ذلك فهي تدخل في عداد المناطق الأشد فقرا في العالم.. فلماذا؟

يقول المؤلف: هي كلمات ثلاث ترد فورا على الخاطر حين نحاول تفسير فشل الجيل الأفريقي الأول لمرحلة ما بعد الاستقلال.. وهذه الكلمات هي: القيادة.. القبلية.. الموارد.

بالنسبة للقيادة.. يؤكد المؤلف أننا لا نستطيع القول بأن زعماء أفريقيا بعد الاستقلال كانوا جميعا من الطغاة الفاسدين.. ولا كان فشلهم معناه انحرافاتهم في مضمار الحكم أو مجال السلوك: ثمة أسباب أكثر عمقا وموضوعية: أن رؤساء أفريقيا الجدد ورثوا بعد الاستقلال سلطات مطلقة كانت تتمتع بها القوى الكولونيالية ولكن الدول التي حكموها كانت تسيطر على المجتمعات القديمة بكل مواريثها ومشكلاتها المتجذرة والمنحدرة من ممارسات تجاوزها زمن التطور بكثير.

هكذا وجد حكام أفريقيا أنفسهم بُعيد الاستقلال وهم يستخدمون أدوات الأسلوب الغربي في إدارة الدولة كي يسيطروا أو يديروا عجلة الحياة والنشاط في مجتمعات تنتمي عقودا طويلة إلى الوراء.. كانوا في رأي المؤلف (ص51) كمن يحاول تدريب قطاعات من الماشية باستخدام كتيبات ترشد إلى تدريب قطاعات من الذئاب.

المواطنة في إفريقيا

ومرة أخرى، فمن أجل تقريب صورة الإشكالية التي تجسدها افريقيا.. يدعو المؤلف قارئيه إلى أن يتخيلوا مثلا.. أوروبا القبلية، بمعنى أوروبا وقد انقسمت إلى قبائل وعشائر وبالطبع إلى أفخاذ وبطون.. تلك هي صورة «المواطنة» في افريقيا. وعلى خلفية هذه الصورة يمضي المؤلف ليقول: إن الاتحاد الأوروبي يضم 23 لغة فقط، ولكن افريقيا (وهي الكيان.. النظير في هذا التشبيه) تضم ,2000. نعم ألفي لغة على أقل تقدير.. فيما تضم أيضا ما بين ستة آلاف وعشرة آلاف كيان اجتماعي، لكل منها أسلوب حكمه وإدارته ونظامه القانوني ونوعية قيادته وأعرافه وثقافته.. فما بالك يضيف الكتاب..

وقد حرمت افريقيا من أن تلعب دورا ملموسا في قيام الدول القومية التي تحكمها اليوم؟ لقد تم تخطيط الحدود الفاصلة بين تلك الدول وفق خرائط مرسومة في أوروبا وبأيدي أوروبيين لم يتح لهم قط أن يتواجدوا لحظة في أفريقيا، ولم يلقوا بالا والحالة هذه إلى النظم السياسية أو الحدود القائمة على أرضها.. بعدها بحوالي نصف قرن..

جاء من يسّلم الافريقيين أعلاما للاستقلال ومن يعزف على مسامعهم الأناشيد الوطنية، ومن يشجع على تأسيس خطوط طيران تحمل اسم بلدانهم وشعاراتها.. فضلا عن جيوش أسسوها ثم قالوا لهم: أنتم الآن مستقلون يستوي في ذلك الكينيون.. أو النيجيريون أو التشاديون... الخ

وبديهي إن لم يكن الاستقلال في حد ذاته أمرا سلبيا.. لكن كان بديهيا بنفس القدر أن يلتفت الحكام الجدد من حولهم.. فيحاول الواحد منهم تجميع التأييد وترسيخ قاعدة السلطة والنفوذ.. فلا يجد سوى الأرومة الاثنية التي انحدر من أصلابها أو الأنساق القبلية التي ينتمي إليها أو الجماعات العرقية ؟ الثقافية التي يدين لها.. وتدين له بالإخلاص والولاء. مع ذلك..

علينا أن أن نوضح مع مؤلف هذا الكتاب أن الأمور لم تكن على هذا النحو من البساطة: إن حكام أفريقيا الجدد في حقبة ما بعد الاستقلال كانوا يصدرون حتى مع إخلاصهم واستقامة مقاصدهم عن تاريخ افريقي ؟ أوروبي بالغ التعقيد. هنا يتوقف بنا الكتاب عند ميراث الاستعمار والسيطرة الأوروبية وآثارهما الوبيلة على أوضاع افريقيا قبل الاستقلال وبعد الاستقلال.

أخطر مؤتمر

في عام ,1884.انعقد أخطر مؤتمر حافل وحاشد لقوى الاستعمار الأوروبي.. ولأنه عقد في عاصمة القيصر الألماني في ذلك الزمان.. فقد حمل المؤتمر اسمه الشهير في حوليات التاريخ الحديث وهو: مؤتمر برلين. وهناك من مؤرخي الحقبة الإمبريالية من تاريخ العالم من يطلق عليه الوصف البليغ التالي: مؤتمر التسابق (هل نقول التكالب) على (استعمار) افريقيا.

وفي كل حال.. يوضح المؤلف أن كان الغرض الأساسي من «مؤتمر برلين» هو نوع من تقسيم الغنيمة التي تحمل اسم قارة أفريقيا ويقول أن الأطراف الأوروبية كانت ترمي إلى تجنب الدخول في صراعات فيما بينها بل تستهدف تقسيم السيطرة على أفريقيا بأسلوب تسوده المودة(!) بين الفرقاء وأيضا دون خوض معارك من المواجهة فيما بين أطراف أوروبا على مرأى ومسمع من أبناء القارة الأمر الذي يمكن أن يشعر معه الأفارقة بأن الرجل الأبيض القادم من أصقاع الشمال كائن له مواطن ضعفه ومن ثم يمكن التصدي له في يوم من الأيام.

تقسيم الغنائم

على مائدة مؤتمر برلين لتقسيم الغنائم الإفريقية.. طرحت خارطة افريقيا فكان أن شارك الجمع الأوروبي في رسم خرائطها وتعيين حدودها واقتسام مساحاتها ولم يكن لديهم في هذا كله سوى معلومات كان قد توصل إليها المغامرون والمبشرون والمستكشفون والتجار البحريون..

ومن ثم جاء تشكيل كثير من الكيانات السياسية الإدارية في أفريقيا حول المواني والثغور والمراكز التجارية.. على السواحل البحرية والنهرية، وبما من شأنه خدمة الهدف الأساسي للزحف الأوروبي. ثم جاء هذا كله في تجاهل تام للمجتمع الأفريقي ذاته.. من حيث تركيبته العرقية وهياكله الثقافية وأعرافه الموروثة ناهيك عن الآمال التي تجيش في صدور أبنائه. و.. هكذا تم استعمار افريقيا.

علامات في التاريخ

في سنة 1405 تم أول اتصال بين آسيا وافريقيا وتم ذلك من خلال زيارة الأسطول الصيني إلى سواحل شرق افريقيا. وفي سنة 1505 جاءت أولى جحافل الأوروبيين إلى افريقيا جنوبي الصحراء. ويعترف المؤلف بأن الأوروبيين كانوا أكثر عدوانية وأشد عنفا وعجرفة من نظرائهم الصينيين.. ويكفي أن الأوروبيين جاءوا في موجات بشرية متدفقة من المغامرين..

وجاءوا من أجل أن يستوطنوا أوطان الافريقيين. وعلى هذا يعلق المؤلف قائلا: من الأيام الأولى للتبادل التجاري، ثم المرحلة التي شهدت تجارة العبيد وبعدها، جاءت السيطرة الاستعمارية في نهاية القرن التاسع عشر.. وحتى يومنا هذا.. ظلت أوروبا تفرض مقاليد الهيمنة على افريقيا. لقد غزاها الأوروبيون باسم المسيحية تارة وباسم الحضارة تارة وباسم التجارة تارة أخرى..

ونحن نتصور أن رسالة الدين وحكاية نشر الحضارة والمدنية إنما كانت ذرائع ليس إلا.. ساقتها قوى الاستعمار بعد وصول النظام الرأسمالي في الغرب إلى مرحلة حاسمة كان لابد وأن تشهد التطلع نحو أمرين أساسيين بالنسبة لتطور هذا النظام الرأسمالي: الأمر الأول هو التماس الخامات ؟ المواد الأولية اللازمة لدوران عجلة الصناعة التي أصبحت محور الحياة في أوروبا الغربية على وجه الخصوص. أما الأمر الثاني كان يتمثل في الأسواق المفتوحة التي تستقبل وتستهلك هذه المنتجات الغربية ويحصد من ثم منتجوها ومحتكروها ثروات طالة من فائض القيمة الناجم عن هذه المبادلات.

كتاب ـ أفريقيا.. الأسرار والمعجزات ـ الحلقة: (3)

المعونة الغربية لإفريقيا ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب

هذه الحلقة.. تعرض لتناقض الأحوال في الصومال بين طبيعة تقسو بالجفاف ثم تجود بالمطر والكلأ والنماء.. وترسم الحلقة لمحات شخصية من تجربة المؤلف حين التقى في لندن بعدد من القيادات الإفريقية من بينهم روبرت موغابي رئيس زمبابوي. كما يلمح الكتاب إلى دور الاستعمار الإنجليزي في إذكاء الخلافات في بلدان من إفريقيا مترامية المساحة ومتعددة اللغات والجذور العرقية مثل السودان الذي تتوقف سطور الكتاب مليا سواء عند ثراء موارده الزراعية والمائية والمعدنية أو عند واقع الاختلافات السياسية أو الاجتماعية التي ما برحت تحول دون انطلاقة عجلة التنمية. وفي عرضه النقدي للكتاب يوضح الناقد الأميركي «نيكولاس كريستوف» أن الهدف الأساسي للمؤلف هو العمل على تصحيح الصورة المقولبة الجامدة عن إفريقيا بوصفها قارة الحروب والأوبئة واللامستقبل. ويرى أن هذه الصورة النمطية.. «ستريوتايب» كما يسميها علماء الاتصال تستمد جذورها من ذلك الحرص الغريب من جانب ميديا الإعلام على تغطية مشاكل إفريقيا مع تجاهل جهودها وطموحاتها واحتمالات المستقبل على أرضها.

يقول مؤلف الكتاب «ريتشارد داودن»: إن صناعة المعونة (يقصد بها الجهات والدوائر الدولية التي «احترفت» تقديم المعونة إلى إفريقيا)، أصبح لها مصلحة أكيدة في الحفاظ على تلك الصورة الجامدة عن إفريقيا وعن سكانها الأفارقة بوصفهم ضحايا يائسين بغير أمل ولا مستقبل سقطوا في براثن حروب لا تنتهي وصراعات بغير نهاية، ومجاعات مزمنة. وقد نحمد للمؤلف الإنجليزي، وهو صحافي محنك وباحث مخضرم، أن أصدر كتابه في محاولة المحنا إليها لتبديد هذه الصورة النمطية لا من خلال فرض وصاية أبوية أو كاردينالية كما قد نسميها على الأفارقة.. ولا من خلال نظرة أوهام رومانسية لا ترى في القارة سوى مضمار لرحلات السفاري وصيد الوعول بين أحراش الغابات، دع عنك السلوكيات المرفوضة تاريخيا.

تلك التي تصدر عن موقف الاستعمار القديم وهو موقف إمبريالي في الأساس، دفع بجحافل المغامرين والجواسيس المكتشفين والطامعين والمستغلين إلى أصقاع القارة كي يستوطنوا أفضل بقاعها.. الأرض العالية كما كانوا يسمونها في كينيا.. أو يمارسوا أسوأ أنواع استغلال موارد القارة على نحو ما يحفل به تراث الاستعماري العتيد «سيسيل رودس» (1853-1902) أو يكرسوا آفة الفصل العنصري (الأبارتهايد) التي كانت شعار وآليات نظام البوير الوافدين في أصولهم من أوروبا الغربية بعد أن أقاموا نظامهم العنصري للمستوطنين البيض على حساب الأفارقة السود وهم أهل البلاد الأصليون في جنوب إفريقيا على وجه الخصوص. إن هذه النظرة الواقعية إلى حد البرغماتية، الممعنة في معانقة حقائق الحياة على أرض إفريقيا هي التي دفعت المؤلف، لا إلى إصدار أحكام كلية أو معمّمة على أحوال القارة السمراء.. ولكنها حدت به إلى أن يُفرد فصلا مخصصا للحديث بالتفصيل عن كل قطر مهم من أقطارها.

مأساة الصومال

ومن عجب أن يختار المؤلف بداية أحاديثه عن بلد إفريقي.. مسلم وتكاد أخباره تحتل مساحات الصدارة يومياً في ميديا الصحافة والإعلام.. وإن تكن أخبارا لا تسر أحدا من قريب أو بعيد.

يتكلم المؤلف عن: الصومال.

هذا بلد يستمد طابع سكانه من طبيعة تضاريسه: إن الصومال كما يوضح المؤلف صحراء من الصخور والأحجار والرمال.. تراه مسطحا مثل انبساط البحر ثم يروعك انفجار مفاجئ لسلاسل من الجبال التي تكاد تطاول عنان السماء.. معظم مواسم السنة تشهد سطوع الشمس التي لا تسمح لنبات أو زرع اللهم إلا الشوك والصبّار.. لكن ما أن يحّل موسم المطر.. حتى تتحول السفوح والسهول إلى ساحات مغطاة بالخضرة والزهور..

هنالك ترعى قطعان الإبل والماعز والضأن إلى حد أن تشبع حتى الامتلاء حلوقها بصنوف الحشائش النضرة.. هنالك أيضاً تطالع الوجه الآخر من طبيعة الصوماليين رقة الحاشية.. قصائد الشعر المفعمات بمشاعر الحب.. الموّجه إلى الناقة الأثيرة أو إلى المرأة الجميلة على السواء. لكن هذه الطبيعة ما بين الجدْب والاحتفال بالحياة لا تدوم.. الصومال مازال بلدا تنهشه الصراعات العنيفة التي تسبب يومياً بخسائر فادحة في أرواح الناس..

حكومته لم تجد مناصا من التحصن داخل القلاع في العاصمة مقديشو.. حواضره مازالت تشهد قوات من إثيوبيا وأوغندا وغيرهما من هذه القوات من يحمل شعار «حفظة السلام».. ولكن لا أمن ولا سلام.. بل هناك في الصومال من ينظر إلى هؤلاء «الحفظة» نظرته إلى الغزاة القادمين من خارج الحدود. ويختم مؤلفنا سطور الفصل الخامس من كتابه قائلا:

في أوائل عام 2008 كانت شوارع مقديشو قد بلغت من الخطورة على نحو ما كانت عليه أيام الصراع الداخلي في عام ,1992. لهذا لم ير السكان المدنيون بدّا من الفرار للنجاة بحياتهم إلى المناطق المحيطة حيث عانت جموعهم صنوف الحرمان إلى حد الجوع الفعلي. ومع انتصاف عام ,2008. زادت معاناة الصوماليين بصورة مأساوية لم يسبق لها مثيل.. (والمشكلة) أنها مأساة من صنع البشر.. وقد أفضت وقتها إلى تدمير بلد ومصرع الآلاف من البشر الذين انتموا إليه وعاشوا على أراضيه.

ذكريات في لندن

ومن ذكريات عام 2008 إلى ذكريات أسبق في دفتر الزمن المعاصر.. بالتحديد في يوم شتوي قارس البرودة من أيام يناير عام ,1976. في هذا اليوم البارد شق مؤلفنا طريقه وسط الضاحية الإنجليزية المتواضعة «نوتنغ هِاْل» تحت وابل من الأمطار يبحث عن عنوان بيت أشد تواضعا: استقبلته سيدة إفريقية أدخلته دون كثير من ترحيب إلى غرفة جلوس تتوسطها مدفأة قديمة ويجتمع فيها أربعة رجال إفريقيين..

كان أحدهم يرتدي معطفا يبدو أكبر من مقاسه الدقيق ويطل على زائره من خلال عوينات عتيقة جعلته يبدو أقرب إلى موظف متقاعد من خدمة البنوك.. لم يضيع المضيف وقتا في حفاوة الترحيب بل أبدى حرصا على بدء اللقاء.. وكان لقاء مهما إذ قدموه إلى الصحفي الزائر قائلين: هذا هو مستر موغابي.

وكان ذلك أول لقاء تم بين مؤلف كتابنا وبين روبرت موغابي زعيم حركة التحرير، ومن ثم رئيس الجمهورية في زمبابوي. يقول المؤلف عن أول انطباعاته عن موغابي: على غير عادة الشخص الإفريقي، لم يكن لديه وقت لأي مجاملات.. والحق أن كان في عجلة من أمره.. كانوا قد أفرجوا عنه وقتها من أشد السجون صرامة في (روديسيا الجنوبية).

كما كانت تعرف وقتها، وفور الإفراج عمد موغابي إلى شن حملته لقيادة حزب «زانو» وهو اختصار شعار الاتحاد الوطني الإفريقي في زمبابوي.. وهو الفصيل الوطني الذي قاد معركة تحرير روديسيا من سلطة حكم المستوطنين البيض لتصبح زمبابوي تحت سلطة الحكم الإفريقي وبدعم يؤكد المؤلف من جانب الصين، وقد كان من حسن حظ موغابي..

زعامته ونضالاته أن تلقت حركة التحرير الإفريقية دفعة أمل إلى الأمام بعد أن سقط حكم الاستعمار البرتغالي في موزامبيق المجاورة وتولى أمرها حركة فربليمو الإفريقية مما أتاح لجماعة زانو بقيادة موغابي أن تفتح جبهة تحريرية ضد حكم المستوطنين إلى جهة الشرق.

ويوضح المؤلف أن موغابي ما برح التعامل معه صعبا بعد كل هذه السنوات التي تزيد حاليا على الثلاثين عاما كي تستغرق عمر جيل كامل من البشر.. المشكلة في رأي المؤلف أن هذه الزعامة في زمبابوي لم تعمل قط على التكيف مع ضرورات الانتقال السلمي للسلطة.. خصوصاً بعد أن أصبح «نيلسون مانديلا» رمزا لهذه التحولات الديمقراطية بل أصبح تجسيدا للزعيم التاريخي الذي يسلم بيده مقاليد السلطة إلى جيل يأتي من بعده ويتحول من ثم من رئيس للدولة إلى رمز للأمة..

في نفس السياق يتوقف المؤلف ملياً (ص155) عند ميزة لا يملك سوى الاعتراف بها للرئيس موغابي.. وهي مهارة هذا الزعيم الإفريقي في تجنب سهام الانتقاد التي ما برحت توجه إليه من مصادر شتى.. وتجسدت هذه المهارة بالذات؟ على نحو ما يرصد المؤلف في ما أبداه «الاتحاد الإفريقي» من تضامن ومساندة مع زمبابوي موغابي.. لكن هناك من يروا أن مشكلة زمبابوي أن مضى على تاريخها أكثر من 40 سنة ولم يتول مقاليدها سوى اثنين من الحكام اللذين فرضا سطوتهما على أمور ذلك البلد الإفريقي ومقاليده..

ومن عجب أيضاً أن يرى المؤلف الإنجليزي وهذا رأيه بالطبع أن كلا منهما يمثل وجها لنفس العملة الواحدة.. الأول كان اسمه «ايان سميث» زعيم المستوطنين البيض (رئيس الوزراء حين كان البلد يحمل اسم روديسيا الجنوبية).. والثاني هو السيد موغابي زعيم الأفارقة السود.

أوضاع السودان

وحين ننتقل مع الصفحات إلى الفصل السابع من كتابنا يطالعنا حديث المؤلف الإنجليزي عن بلد شقيق هو: السودان.. ويلاحظ المؤلف للوهلة الأولى والعهدة عليه بطبيعة الحال أن السودان وهو بلد إفريقي كبير حقا يضم 134 لغة يتكلمها أبناؤه على اختلاف المناطق التي يعيشون فيها ولكن هناك لغة بعينها يصفها المؤلف بأنها تتميز بكونها لغة النخبة الحاكمة في السودان وهذه اللغة هي: العربية.

وعلى مهاد العربية يلاحظ المؤلف توصيف هذه الطلائع للسودان بأنه بلد عربي مسلم. في نفس السياق يشير (ص160) إلى أن مشاكل انقسامات السودان إنما ترجع في جذورها إلى موجات الاستعمار المختلفة التي وفدت على أراضيه من أيام العثمانيين إلى أيام الإنجليز.. وفي هذا السياق يعمد إلى استعراض تاريخ السودان الحديث.. ما بين مد الاستعمار البريطاني..

إلى حركة المهدية المعادية للإنجليز إلى تكريس روح الانقسام القبلي والعشائري على يد المستعمرين القادمين من بريطانيا.. إلى شرارة التمرد الأولى في جنوب السودان على يد حركة «الانيانا» المنادية بالانفصال منذ عام 1955 وقد انتهت هذه الحركة بعد الاتفاق في عام 1972 على منح الجنوب السوداني مزيدا من الحكم الذاتي ومزيدا من الموارد الاقتصادية.

ثم يتحول المؤلف إلى انطباعاته عن أزمة دارفور في غرب السودان.. يعرض للتعقيدات ذات الجذور التاريخية التي تكتنف هذه المنطقة ولاسيما من حيث الخلافات بين عناصر تحمل صفة «عربية» وأخرى تحمل صفة «إفريقية».. لكن لا يفوته أن يلاحظ (ص195) أن الأزمات الاقتصادية الخانقة كان لها دور في تفاقم مثل هذه الخلافات ومن ثم تأجيج وطأتها.

في هذا الإطار نقرأ سطوره في توصيف الحالة على النحو التالي: جاءت كوارث الجفاف الرهيبة في عقد الثمانينات لتجعل الحياة من الصعوبة بمكان.. أصبح الحصول على الأرض أو المياه أمرا تحفه القيود وتطلعت قبائل البدو الرحل من حولها فإذا بالطرق والمواقع التقليدية التي تعودت على أن تغشاها وقد أصبحت محاطة بأسوار وإذا بقطعان مواشيها وقد صدّوها عن بلوغ مصادر المياه، وإذا بولاة الأمور يقصّرون عن تقديم الخدمات الأساسية فضلا عن الفشل في تسوية ما نشب من نزاعات محلية.. ثم تفاقم هذا الوضع في مجمله حين شهدت تلك المناطق تدفقا في كميات السلاح من كل صنف ونوع.

في كل حال نلاحظ في سطور المؤلف بقايا التوجهات الإمبريالية التي تجاوزها زمن القرن الحادي والعشرين. المؤلف يحذّر من مزيد من الانقسامات في رقعة السودان الوطنية.. يحذر أيضاً من تعميق ذلك الصدع الذي يطل بسحنته الكئيبة منذرا بعواقب وخيمة.. الصدع الذي يهدد القارة في مجملها وليس السودان وحده بين «عربي» و.. «إفريقي»..

كما يؤكد أهمية العمل على تلافي هذا الصدع وبما قد يفضي إليه من سلبيات على حياة الأجيال القادمة في إفريقيا. يشير المؤلف أيضاً ولو من غير قصد إلى أن السودان لم تعد تنقصه الموارد السخية التي يمكن بها في تصورنا أن يرأب مثل هذه التصدعات في الغرب أو الجنوب من خلال استراتيجية إنمائية قومية وشاملة..

يقول المؤلف في ختام هذا الفصل السابع من الكتاب (ص198): إن الإنتاج في السودان في ارتفاع متزايد وفي عام 2006 وصلت عائدات النفط السوداني إلى 9 مليارات من الدولارات. ولقد توقف المؤلف عند جانب بعينه من موارد السودان.. وهي موارد أكثر من ثرية وأكثر من واعدة ومن شأن سياسة الحوكمة الرشيدة أن تترجم هذه الموارد إلى ما يجعل السودان أرضا للمستقبل.. رغم تلك التحديات.

كتاب ـ أفريقيا.. الأسرار والمعجزات ـ الحلقة (4)

الصراعات العرقية.. مذابح ودماء تغرق فرص التنمية

هذه الحلقة تعرض للسنغال ذات الأغلبية المسلمة مع التركيز على مؤسس طريقة الصوفية هناك أحمدو مامبا الذي تسامع مريدوه بكراماته بوصفه من أقطاب طريق العارفين. تراث هذا القطب حفل بالتعاليم التي دفعت أتباعه إلى عبادة الله وحب العمل وحسن التعامل مع الناس وهو ما أدى إلى نجاحهم في مضمار التجارة.

وتعرض الحلقة أيضا إلى مواريث الاستعمار البرتغالي في أنغولا ومنها وجود عناصر المولدّين من حالات التزاوج بين مواطنيها ومستعمريها حيث يصل الأمر إلى ازدواج الولاءات، فيما تعرض لميراث الاستعمار الألماني في روانداالذي أدى إلى صراعات دموية بين التوتسي والهوتو ومصرع مليون. وينتقل المؤلف بين دول أفريقية طالما تسامع العالم بأخبارها سواء بالإعجاب حين كانت تخوض حربها التحريرية (أنغولا نموذجا) أو بالأسف والصدمة حين تحولت مياه أنهارها إلى لون الدم بفعل مذابح (رواندا ؟ بوروندي) أو بفعل ما شهدته وكابدته من حروب أهلية راح ضحيتها الآلاف ولم يتورع قادتها لا عن تجنيد الأطفال ولا عن نهب الثروات الوطنية (سيراليون نموذجا).

في أنغولا يلاحظ المؤلف في زيارة قام بها مطلع عقد الثمانينات.. أن عاصمة البلاد لواندا كانت تضم النخبة من الساسة الحاكمين والمثقفين وأعضاء حركات التحرير التي سبق وأن تصدرت نضالات ذلك البلد الأفريقي ضد عقود طويلة من الاستعمار البرتغالي. هنالك لاحظ المؤلف أن معظم أفراد هذه النخبة كانوا يحملون أسماء برتغالية.. ولكن لاحظ أيضا أن كلا منهم كان يعمد إلى حمل اسم أفريقي وطني بعيد عما كان مسجلا بالبرتغالي في السجلات الرسمية التي كانت ترجع إلى حقبة الاستعمار. أصبح السيد «البروتو روبيرو» هو نفسه السيد «كابولا».

ورغم ذلك كانت مطاعم النخبة تقدم أصنافا برتغالية من الطعام وكانت صالاتها الأنيقة تزينها الزهور البلاستيكية وارد أوروبا.. فيما كان كبار المسؤولين الأفارقة في أنغولا يحرصون على ارتداء أكثر البدلات أناقة وأغلاها سعرا ولا ينسون الأزرار الذهبية في القمصان ولا تزيين المعاصم بأغلى الساعات المصنوعة خصيصا من الذهب النفيس! ويلاحظ المؤلف عمق التأثير السلبي الذي خلّفته الفترة الطويلة للاستعمار البرتغالي.. لقد طبع البرتغاليون بصماتهم الثقيلة على مجرى الحياة اليومية. وعلى مجالات الثقافة والسلوك في أنغولا..

خاصة وقد اتسم استعمارهم بطابع الاستيطان الذي حرم أهل البلاد الأصليين والشرعيين أيضا من أجود الأراضي.

أكثر من هذا: لقد خلفت عصور السطوة الامبريالية البرتغالية.. وغيرها.. فئات أو شرائح وربما طبقات من سكان تلك الأقطار الأفريقية كان علماء الأنثروبولوجيا السياسية والاجتماع يعرفونها باسم «المولاتو» أو هم «المولّدون» نتيجة حالات زواج بين الأوروبيين الوافدين مع موجات الاستعمار وبين البعض من أبناء البلاد.. هنا يشير المؤلف إلى أن هؤلاء «المولّدين» أو هم فئة النصف نصف.

كما قد نسميهم.. كانوا أقرب إلى الطبقة التي تتمتع بقدر ما من الحقوق والامتيازات.. تعلوهم بالطبع طبقة أو فئة السادة الاستعماريين من حكام أو مستوطنين.. وتدنو منهم طبقات الأفارقة الذين لم يتمتعوا بحقوق.. أي حقوق لا من قريب ولا من بعيد.

بهذا شهدت أفريقيا منذ الربع الأخير من القرن التاسع.. ومع السنوات الأولى من القرن العشرين.. تطورات ديموغرافية وطبقية وثقافية تمثلت بالذات في نمو طبقات وفئات تعيش على أرض القارة السوداء وبالطبع تقتات من خيراتها وتنعم بأفضل مواردها، ولكن يظل ولاؤها، إما مشدودا إلى أقطار بعيدة خارج أفريقيا ذاتها، أو يظل مزدوجا يميل إلى أفريقيا تارة ويجنح إلى أقطار وثقافات خارج حدودها تارات أخرى.

خلل التوازن

ربما يتجسد النموذج من هذا القبيل في بلدين أولهما سيراليون الذي وضعوا في مواقع الحكم فيه عناصر من العبيد السابقين الذين أعتقوهم في انجلترا.. إضافة إلى ليبريا التي أعادوا إليها ذرية من العبيد السابقين من أميركا.

يقول المؤلف: تمثل ليبريا نموذجا استثنائيا لاستيطان العبيد الذين تم تحريرهم من أميركا.. وحتى الآونة الأخيرة كانوا يعيشون بمعزل عن أهل البلاد الأصليين.. بل وكثيرا ما استخدموا هؤلاء الأصليين.. عبيدا!

وها هو دستور ليبريا الذي شهد مرحلة إنشاء الدولة في عام 1864 تقول سطوره بالنص ما يلي: نحن شعب جمهورية ليبريا: كنا في الأصل من ساكني الولايات المتحدة في أميركا الشمالية.. وبين وقت وآخر زاد عددنا بفعل الهجرة من أميركا وبسبب حالات الانضمام إلينا من جانب قبائل المتوطنة..

وقد قمنا بتوسيع حدودنا من خلال حيازة الأرض التي اشتريناها بنزاهة من أهل البلد الأصليين. على هذا النص الدستوري يعلق المؤلف في سطر واحد يقول فيه: هذه الوثيقة لا تمنح أي حقوق سياسية لمن تصفهم بأنهم «أهل البلاد الأصليين«.

في السياق نفسه يتوقف مؤلف الكتاب عند هذه الفئات شبه الأفريقية وشبه الأوروبية.. وقد نبتت جذورها تحت جناح الوجود والنفوذ الاستعماري. ويلاحظ تكاثف وجود هذه الفئات في مناطق السواحل من القارة وهذا أمر طبيعي باعتبار أن دواخل القارة.. أريافها وأدغالها إنما تسكنها قبائل أهل البلاد الأصليين.

لهذا يضيف قائلا: على طول تلك السواحل الأفريقية كنت تصادف هذه المجتمعات الجديدة المخلوطة التي أصبح أفرادها أقرب إلى الوسطاء الذين اختاروا حياة الانفصال عن سائر الأفارقة وأصبحوا يحترفون الوساطة التجارية بين أوروبا وأفريقيا.

وعندما زاد خلل التوازن بين هذه الفئات وبين شعوب تلك الأقطار، تعقدت النظرة إلى الوسطاء المنعزلين (والمتكبرين أيضا) كانوا أقرب إلى دود العّلّق الطفيلي الذي يتغذى على مصّ دماء العبيد والاستحواذ على موارد الذهب والمطاط وزيت النخيل. وفي مقابل ذلك كانوا يكتفون باستيراد السلع المصنعة من أوروبا.

وهكذا فلم يتح للأقطار الأفريقية أي فرص معقولة للتنمية أو التطور.. وكان الاستثناء الوحيد من ذلك هو حالتا مصر (في الشمال) وجنوب أفريقيا (الى الجنوب) ولا أتيح لتلك الأقطار أن تنشئ صناعات تحويلية تتولى تجهيز وتصنيع موادها الأولية ومن ثم تحقيق تنمية حقيقية..

وفي أغلب الأحوال.. كان هذا كله يتم بمعرفة قوى الاستعمار. وقد نطرح السؤال الحائر يقول: فماذا كانت إذن مهمة تلك الجماعات من أنصاف الأفارقة.. المولدين.. من سلالات العبيد الذين أعتقهم الاستعمار الإنجليزي أو الأميركاني وأعاد «شحنهم» إلى أفريقيا؟

يجيب المؤلف عن السؤال.. يقول:

كانوا وسطاء يتخذون مقارهم في مدن ومرافئ السواحل من أفريقيا.. ويكادون يقصرون تعاملهم مع الملوك ورؤساء القبائل المقيمين في دواخل تلك البلاد، ويعملون بالتالي وكلاء عن مصالح الشركات الأوروبية.

ولأن أفريقيا قارة شائعة.. ومساحات مترامية الأطراف.. ولأن هذه المساحات لم يجد معظمها بعد من يمعن في دراسة ولا رسم خرائطها ولا تحقيق تواريخها.. ولا التدقيق المبالي والحادب في أحوال سكانها..

فقد تروعنا انطباعات مؤلف هذا الكتاب.. مع سطور الفصل التاسع التي يبلورها في عبارات يصوغ بها وقائع جولته في التلال المحدقة بمدينة «بوجمبورا» عاصمة بوروندي.. الناس هناك قالوا لزائرهم الكاتب الإنجليزي: إن مذبحة رهيبة وقعت في هذه الأنحاء. أين.. بالضبط؟

هنا.. لا إجابة.. فلم يكن أحد يعرف، وربما لا يريد أن يحدد.. في أي موقع حدثت المذبحة ولا حجم خسائر الأرواح التي راحت ضحيتها. وكل ما ناله مؤلفنا من هذه الملابسات هو ما أصاب سائق سيارته ذات الدفع الرباعي من حالة هلع دفعت السائق إلى مواصلة القيادة بسرعة جنونية دون أن يصغي إلى تحذيرات الزائر الأوروبي فما بالك وقد سمع الزائر والسائق أن «الأشرار» يعيثون في أرجاء المنطقة فسادا، وأنهم هاجموا السيارات طيلة أسبوع مضى وذبحوا ركابها..

مرقت السيارة كالسهم وسط الأحراش.. فجأة لمح مؤلف كتابنا جماعة من أطفال بوروندي وهم يحملون الرماح والسهام.. اقتربت السيارة منهم وحدق راكبوها في ملامحهم.. لم يكونوا أطفالا ولكنهم كانوا جماعة من شعوب الأقزام في أفريقيا كانت في طريقها إلى رحلة صيد..

وحين مضت السيارة على مهاد الطريق لمح المؤلف أيضا جماعة مختلفة هذه المرة.. كانوا عمالا من الصين يرتدون بدلات الشغل الزرقاء ويعملون في دأب صامت.. ويقومون بأعمال التشييد وفي مقدمتها تعبيد الطريق.

كان مشهدا يتناقض تماما مع ما كانت عليه أحوال رواندا وبالذات في عام ,1994. حين اشتعلت نيران الصراع العرقي.. الدموي بين جماعات الهوتو والتوتسي.. وكان هذا الاشتعال بتدبير متواطئ من جانب المؤامرات السياسية على نحو ما يوضح المؤلف (ص224)..

وظلت حرائق هذا الصراع مشتعلة اللهيب إلى أن أودت بحياة ما تقدره الأوساط الدولية بنحو مليون من البشر. وقد يساورنا العجب تاريخ العلاقة بين جماعتي الهوتو والتوتسي. كانت علاقة يسودها حالة من الوئام والتعايش السلمي بينهما وذلك قبل أن يستولي الاستعماريون الألمان على مملكتي رواندا وبوروندي في القرن التاسع عشر.

والأغرب، أن هناك من لا يزال يلقي بتبعة تلك المذابح التي عانتها المنطقة على عاتق تلك القوى الإمبريالية. والمهم أن تلك التراجيديا الإنسانية أفضت رغم ثمنها الفادح إلى محاولة تخطي أبعاد تلك المأساة.

حيث أصبح تركيز الأوضاع الجديدة في المنطقة على مداواة الجراح وعلى إنزال القصاص العادل بمن تسبب في المذابح (يوجد في السجون أكثر من 100 ألف معتقل بانتظار المحاكمة).. فيما تتطلع الأجيال الجديدة إلى أمل في حياة ربما تكون أفضل أو أقل عنفا.. تحت شعار يحاولون العمل من أجله وهو: «رواندا الجديدة«..

زعيم المتصوفة المسلمين

بعد هذا يعمد مؤلفنا إلى نقلة واسعة،ربما ترتاح فيها نفس القارئ من حديث المجازر إلى حديث الروح والتصوف في السنغال. في الفصل العاشر.. حديث مفعم بالاحترام عن «أحمدو بامبا» الذي لايزال تاريخ الإسلام في ذلك البلد الإسلامي يتعامل مع سيرته بقدر لا يخفى من المحبة والإكبار.

في عام 1853 كان مولد الشيخ «أحمدو بامبا مباكي«.. وفي عام 1895 بدأ الناس يتحادثون عن كراماته بوصفه وليا متصوفا وشاعرا يبدع أناشيد الحب الإلهي ويبشر بالمحبة بين الناس..

هذا الزاهد الافريقي المسلم.. استقل قاربا بسيطا ليعبر النهر منفيا من السنغال إلى جارتها الغابون. تقول الحكايات.. الكرامات.. أن أحمدو بامبا مد خطواته وسط النهر وخطا من القارب.. انبسط أمامه بساط من حصير.. تطلع إلى السماء يحمد الله على نعمته ويدعو ربه أن يوفق خطاه..

ثم سار على صفحة الماء عائدا إلى أرض السنغال حيث أسس تجارة باركتها تعاليم الإسلام الحنيف. والذين يعملون في سلك هذه التجارة (العالمية) يحملون صفة «المريد» وهم أتباع أحمدو بامبا.

وينتشر المريديون في كل أنحاء المعمورة، ما بين باريس إلى لوس أنجليس (في أميركا)، ومن هونغ كونغ إلى ضفاف الخليج في شرقي جزيرة العرب.. وإذا صادفوك هنا أو هناك، فهم يعرضون عليك تجارتهم.. من الجواهر النفيسة أو الأحزمة أو الحقائب الجلدية الثمينة.

هؤلاء المريدين بعبارات موجزة يمتلكون القدر الوافر من سلعة تفتقر إليها كثيرا.. وهي: الثقة. ولم يكن الاستعمار الفرنسي في السنغال ليرتاح إلى تعاليم هذا الزعيم الصوفي الزاهد المسلم. من هنا قرر الفرنسيون إرساله إلى المنفى مرة إلى الغابون ومرة إلى موريتانيا. ولكن سخط الجماهير حمل الاستعمار الفرنسي على السماح له بالعودة..

فكانت عودته رسميا إلى السنغال منتصرا في عام 1907 وهناك قد يحدثك القوم بأنها كانت عودة مشى فيها الشيخ الجليل على صفحة الماء!

والقطب الأفريقي جليل حقا.. لماذا؟ لأن دعوته الصوفية لم تقم على أساس اعتزال الدنيا أو اتخاذ السلبية سلوكا في الحياة بل كانت دعوته تقوم على دعائم ثلاث هي: طاعة الله سبحانه، إتقان العمل، مسالمة الناس.

كان أحمدو بامبا السنغالي المتصوف يؤمن بأن الصلاة والطاعة والدرس والفقه ثم العمل والجهد أمور كفيلة بحماية الناس من الوقوع في غواية الفساد أو في الانجذاب إلى الثقافة والأعراف التي جاء بها المستعمرون الفرنسيون إلى أرض السنغال في غرب أفريقيا. لهذا كتب لدعوته القيّمة أن تنتشر في زوايا حفلت بها ارض السنغال.. وحين رحل إلى عالم البقاء في عام 1927 بلغ أتباعه 70 ألف مريد ولكن يقدر عددهم الآن بأكثر من 3 ملايين.

عرض ومناقشة: محمد الخولي

كتاب ـ أفريقيا.. الأسرار والمعجزات ـ الحلقة: (5)

ضعف الثقة والازمات والفساد انهكت إنسان إفريقيا

يتابع المؤلف في هذه الحلقة ظاهرة التوسع التي دفعت أتباع الطريقة الصوفية السنغالية إلى الهجرة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى