الخميس ١٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم محيي الدين الجابري

أقطعُ العاشرَ منحنياً في بهائِهِ

أقطعُه،حافياً، عارياً، مُنْبَتَّاً في الأزمنةِ، ومُنْبَتَّاً في الأمكنة،
أُشَدِّدُ خيباتِه مقطعاً.. مقطعاً، وأُشَدِّدُ فواصلَه الموجعة،
وما هو أكثرُ فجيعةً من الموتِ وعطاياه، أشددهُ قائلاً: أيها الأكثرُ فجيعةً من الموتِ وعطاياه،تقدمْ في بياضِكْ، وتقدمْ في شراهتِكْ، مرنحاً،ومتجهاً، على أرضٍ مرنحة

أقول: تقدمْ،لتأخذَ هذا الْمَيَدَ إلى شراستِه، والضيعةَ إلى مدياتِها، والهاماتِ إلى الأسنة، ليبقى لنا الظلُّ، شاقاً ومهدداً، يكنسُ لعبَنا وصباحاتِنا، ومثلُه النقاءُ رسولياً،نندبُ كارثيتَهُ في الهجائن

عنيفاً أضربُ الأرضَ، وأنا أقطعُ العاشرَ جريحاً.. جريحاً، أصيحُ: أيتها المواكَبَاتُ،صَعِّدِي أجراسَك إلى رنينِها الفتيّ، صَعِّدِي القرعَ إلى طبولِه الفتيّة، وأنتَ أيها الحجرُ صَعِّدْ البقاءَ بزهراتٍ شاحبة، صَعِّدْ البقاءَ بطفولةِ العشبِ الذي ينمو باهتاً في السكون، وعليَّ أنا أنْ أقطعَ هذي العرصةَ،جريحاً، وأنْ أُصَعِّدَ القهرَ إلى حوافِّهِ، قابضاً على الفجيعةِ،أَصُبُّها رماداً في آنيةِ المفجوعين، أمَّا العطشُ فهو قميصُ جرأتي الذي تكومَ في رثاثتِهِ، وهوَ الآخرُ الذي لا يزالُ على النَّوْل، وهذا اللهاثُ المتسارعُ،أكرِرِّهُ ضارعاً أمامَ لزوجةِ المراثي، مُحْتضناً برودةَ الدَبَقِ الذي يتبقّى لي في حِنّائِي، بعد أن تُشالَ الرؤوسُ إلى مجدِها في الأعالي، وينظرَ الربُّ العظيمُ إلى بهائِهِ ساطعاً أمامَ الركب، والى بَتولاتِه السبيّات، وفِلِزِّ تَرَمُّلِهِنَّ المشِعِّ في مثاراتِ الغبار، ودَوّاراتِ الرنينِ الملتفةِ على الموتِ وأثلامِهِ

وما هو أكثر فجيعةً من الموتِ وعطاياه، ثَمَّةَ هذا اللهبُ الراكضُ في بريةِ ظَمَأي، وأنا أجَرْجِرُ البروقَ إلى سماواتِي أمنيةً.. أمنية، وأُرَتِّقُ رثاثةَ النهارِ بعينين غائمتين، مُقايِضَاً فحمةَ النَّكالِ هذه بفضةِ الحقيقة، وَمُدَلِّياً الأسلابَ والرؤوسَ المقطوعة، من سقفِ هذهِ الحكاية، وهي تُضِيءُ،بأقراطِ طفولةٍ مرتعشةٍ تتدحرجُ على أرضيةِ دمائِها، وما عليَّ سوى أنْ أَرُجَّ سكونَ النهايةِ، لأجمعَ أقراصَ المياهِ الناضجةِ قرصاً.. قرصاً، وأنْ أصيحَ بالأسدياتِ: طِيْنَكُنَّ.. طِيْنَكُنَّ، إلى حفلاتِ ندبٍ ممتدةٍ في الأبد، وإلى زقوراتٍ مسوّدةٍ بالقار، طِيْنَكُنَّ أيَّتُها المَجْدَلِيات، يا بناتِ أَدَدَ وإبراهيمَ وأُوْر، النائحاتِ على غيرِ قَتيلِهن، هذه الفجيعةُ إصبعٌ تتفقدُ مثيلاتِها، وهذا الألمُ وعَاجُهُ ضَرْعَانِ مُكْتَنِزَان، فيما أنا، أحرّضُ الْمَيَدَ على أشباهِهِ، وأشَدِّدُ اليَبَسَ في خلايا النَهارات، لأُعِيدَ طِيْنَتِي إلى كَرْبَلَتِهَا، وَأَعْضَائِي إلى حاشيةِ الظهيرةِ في بابل، عاقاً أُبُوَةَ مُكَرَّراتي من أجلِ هذهِ الفِيْوض، وَمُنْهَمِكَاً بِرُسُوبِيَتِي أُقَشِّرُ خَرابَها، وَبَعَناقِيْدِي أجمعُ إليها الألَقَ والسكون، وما هو لي بعدَ كلّ موتٍ وعطاياه، ثَمَّةَ حشدُ غضاراتِ اليُتْمِ وَأَحْرَازِهِ، وثَمَّةَ بلاهاتُ الفناءِ المكدّسةُ

أمامَ رنيني،
وثَمَّةَ أناقةُ الحنظل !،
وما أُشَرِّدُهُ منَ المعنى في براءةِ القُرنفلات، عندما أدْعَكُ اليقينَ بمجاوراتِهِ من الملحِ والسَاجْ، لأُرَتِّبَ البياضَ والبريقَ معاً على أريكةِ ذُهولي،
ها... ياقوتةُ جسدي مهشمةٌ على الجذع،
وها... صمغُ أحشائي سائلاً،
يا أسرابَ الحمام،
ويا أيتها الطيرُ هذهِ سنبلاتي،

أفرّطُ أمامَهنَّ بما يتبقّى لديّ من الليونة، هذه سنبلاتي، كلما أتكلمُ صادقاً ولجوجاً عن الحبِّ وإطراقاتِهِ المكرَّسة، هذه سنبلاتي ووشاياتُها المهذبةُ أمامَ الريحِ وأقمارِها المدورةِ في النَسرين، وغواياتِ الماء، عندما أتكلمُ طويلاً عن الحب، عندما أتكلمُ قائلاً عشيةِ احتفاءِ البراغيثِ بقريناتِها:
 في الكوفةِ خاصمْتُ !
وفي التَمّارِينَ أشرتُ إلى نخلتي،
وقبل أنْ تنفضَ الحراثاتُ الجديدةُ نعاسَها، قبل أن يصعدَ العبيدُ إلى الرشواتِ وأسيجَتِها نائمين، قبل أن يصيحَ الديكُ ثلاثاً في باديةِ نينوى وعلى تخومِ أور، نزلتُ وحيداً... وحيداً... أيتها المجدلياتُ عن النخلةِ إلى الأرض، نزلتُ وحيداً... وحيداً إلى مَغَاوِرِي، أصيحُ:
 أيتها السِكَاك
في سوقِ الكوفةِ خاصمتُ
وفي التمّارينَ... آه... في التمّارينَ تعرفتُ إلى نخلتي !
عالقاً مثلَ بقايا العَراجِينِ في سماواتي أُرَتّبُ أهِلَّتَها، هكذا أبدا في التمّارينَ أخبرتُ صبيةَ الطرائقِ عن الحب، هكذا أيتها الطيرُ تعرفتُ إلى الكَناسةِ وفاخِتاتِها الرمادية، وهكذا أيتها الطيرُ، فركتُ حاشيةَ اليواقيتِ وبريقَها، نازلاً... صاعداً إلى خشباتِي أمامَ المياهِ ودوّاماتِها، نازلاً... صاعداً بفحمةِ هذا الظمأِ أمامَ فراتي ولؤلوئاتِه، ومن الحراثاتِ القديمةِ إلى جديداتِها، هكذا... أيتها الطيرُ أرفعُ سنبلاتي، خادشاً حنظلةَ يقيني، من أجلِ هذهِ الأصْمَاغِ السائلةِ في أحشائي، ملتصقاً بخلاياي، مثل سعفتينِ لهما الغوايةُ المجرّبةُ بأعسالِ آبْ، وبِأَتْرِبَتِي هذه التي أُرَقّدُ عليها عجينةَ ربّاتِ الألمِ وسيداتِه المُبَهْرَجات، قبل أن يبدأَ احتفالُ العاقول، أَتْرِبَتِي هذه وطينةُ اليقينِ المكتظةِ بالزخرفِ وأبَّهاتِه، عندما تلتمعُ في الحراثاتِ الجديدةِ جلودُ العظاياتِ الراكضةِ في لهبِ الكَناسةِ وعَقِيقَاتِهِ، أتذكَّرُ ماراً من الغبارِ إلى الغبار، شراساتِ العنبرِ وقُبَّراتِهِ، ماراً من الغبارِ الى عنفوانِ أرديةِ الغبار، ما يتبقى لي من عناقيد الرمادِ الباهتِ في طياتِهِ، ماراً من الغبارِ الذي أجمعه علي ّ، إلى الغبارِ الذي هو لي، رماداً... رماداً لا تعرفُهُ شهوةُ المياهِ الطافحةِ بأعسالِ آبْ، ساعةَ أعطّلُ هشاشةَ الدخانِ من المشهدِ الى المشهدِ بفضّةِ بَخُورِي، حاضراً ومكدساً في الموجةِ وأعراسِها، عندما أُفَتَّتُ مَذْرُواً مثلَ نداءاتِي:
 آه... في الكوفةِ رأيتُ الماء
وفي الكَناسةِ جَرَحَتْنِي رهافةُ الريح،
وفي الذُّبالاتِ وفوانيسِها المرَتَّبةِ أمامَ شراراتي، في الأقمارِ المعطَّلةِ بما أُشَتِّتُهُ من الضياءِ وأعذاقِهِ، في عباءةِ العتمةِ المرقَّعَةِ بدهشةِ العَسَسِ وإيماءاتِهم، في كل ما يشهدُ هذه الدقيقةَ، وما يشهدُ عظاياتِها الهاربةَ في اللهبِ... رأيت:، في الكَناسةِ كلما التمعَ الصهيلُ أمامَ عتمةِ الغوايةِ،رأيت:، في نينوى عندما جررتُ عرباتِ آشورَ الى حقولِهِ الذهبيةِ،رأيت:،وفي أورْ الكلدانيينَ جمعتُ قطيعي...،
أما في الغاضرياتِ فلم أركِّبْ اللهبَ على اللهب، من أجل هذه الكَناسةِ التي تعرفني،
 آه... في الكوفةِ أطلقتُ خيولي،
وفي الكناسةِ احترقتُ...
احترقتُ،

رافعاً في شمالِ الفجيعةِ عصارةَ الراكضِ منْ أراجيحِ الخيبةِ الى بياضِ الماء، ومعنياً أمامَ خيمةِ النهارِ بما أَصُفُّهُ من اليقظةِ في حوافِّها، ومنَ الغضاراتِ الهاربةِ في الغضارات، عندما أهدمُ اللهبَ بأجراسِهِ، وأخيطُ أذيالَ الهيبةِ بجلدةِ رنيني، وحيداً... حثوتُ شراسةَ الْمَيَدِ على أُجَاجَاتِهِ، واتكأتُ على قربةِ حكاياي، عاداً بين الثَنْيَةِ الى الثَنْيَةِ هذه الْمُرمّدَاتِ من أشباهِ اللحظة، ومُفَرّقاً بينَ فَخَارٍ أُكَسّرُهُ في أرجائي، وفَخَارٍ أُرَكِّبُ عليهِ تمائمَ الرقيمِ ومجاهراتِهِ في صباحاتِي، خارجاً من فَقاعةِ الرغيفِ العاطلِ الى هُزالاتِي، ومُشَدِّدَاً الغيابَ الشائخَ وعُبُوسَاتِهِ، بِما يَتَبَقّى لي من الطَيّةِ وهَلْهَلاتِها، آناً... آناً، أكررُ الخضرةَ وظلَّها، في البريةِ وظلِّها، حينما ألفّقُ صلابتي، وأرممُ فجاجةَ الألمِ في أحشائِي، ومن الفجيعةِ الى الفجيعةِ، أراني مأخوذاً بما يتقافزُ من الغزلانِ الفضيةِ في عتمةِ مساءاتي، صائحاً بين التيهِ ومجليّاتِهِ، وبين رغوةِ الحنينِ وفقاعاتِ أرغفتِهِ المعطَّلةِ:
 هذه نجمتي التي أحب،
وهذه كلماتي في السماواتِ التي أفتشها عن الحب، وربما أقدارِهِ، سماواتٍ من الفضةِ ورنينِها، وسماواتٍ من البياضِ وشراهاتِهِ، وسماواتٍ... ترتّبُ أرجاءَهَا المرنَّحةِ في صراخي الممتدِّ من الأفقِ الى براءةِ الأخضر،
 هذه نجمتي أيتها العَرّافات،
نجمتي التي أجمعُ بها القطيعَ الى حظائرِهِ... أيها العرّافون، لا خرافةَ لي، ولا مواسمَ أقشّرُ بها برتقالةَ الضوء، ليس سوى هذه البداهةِ التي أمشّطُ بها ضفيرةَ النواعيرِ كأساً... كأساً، ولي بعد ذلك مصاهراتِي المؤجلةِ مع العاقول، ومطارداتي مع الموجةِ وألوانِ الغِرْيَن في فراتٍ أصدّقُهُ، وفي ظلالٍ تتعرَّفُ إليّ، ساعةَ أسقطُ يَدِي مقطوعةً في المكان، وأسقطُ يَدِي مقطوعةً في المكان الآخر، لأحتضنَ هذي العرصةَ من النخلةِ الى النخلةِ دمَّلاً...دملاً، وأضعَ راحتيَّ على خاصرةِ الفلزّ، عابراً دهشةَ الفراغِ بما أمرّره من أنامِلي على فجاجةِ الدمِ وليونةِ المعدن، عندَ نهاياتٍ أرجُّها،

أنا الراكضُ
الراجزُ
الراكزُ،رايتي من الغيابِ الى الغياب،
وأنا المراقُ من قربةِ حكاياي،
أَسِيْلُ شربةً... شربةً أمامَ ملائكةٍ يتراكضونَ الى فجيعتي،
وملائكةٍ يحصونَ ما هو أكثر فجيعة من قمرٍ يتفقَّدُ أثلامَهُ، أو ربما نهارٍ يعلّقُ أحشاءَه على شجرِ الفولاذ، كلما اتكأتْ الفضةُ على البريق، وتلفّتَ الذهبُ الى عرقِ الأحصنة، آه...
هذا النعاسُ الهاطلُ في غيرِ أوانِهِ،
وهذا الثلجُ وأجنحتُهُ... وهذا البياض،
آه...
هذا الغيابُ وأَفْنِيَتُهُ المؤطرةُ بالحدوات،
آه... أخي،
ذلكَ هو الموتُ الباذخُ كما نعرفُهُ،
معلقاً مثلَ ثمرةٍ ناضجةٍ على شجرِ الفولاذ،
أما بقاياي... فللفراتِ وعطشِهِ،
وأما سلامُ يديَّ المقطوعتين... فللأطفالِ الراكضينَ في حدائقِ الفجيعةِ... يَلْهُوْنَ بأصابعي، بينما أمهاتُ أور، يؤجِّلنَ الحليبَ الى نواحٍ آخر، وبناتُ بابلَ، يؤجِّلنَ الأمنيات... أربعيناً أخرى، فيما هنَّ يركِّبن مصابيحَ رنينِهِنَّ في الفناءات،
حزنِهِنَّ الذي يبقى،
وفرحِهِنَّ القليل... القليل،
آه... أورُ التي هي لي،
وآه... بابلُ فراشةُ قلقي،
ربَّةُ الْمَثّالينَ،
وربَّةُ البَازِلْتْ.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى