الخميس ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم محمد غريب جودة

أولجا تتحدى أم جبر

كعادتها فى عصر كل يوم جلست سارة دانيال وسط حديقة منزلها الصغير

الأنيق وأمامها جهاز التليفزيون وراحت تقلب القنوات بجهاز التحكم. .

استقرت لبعض الوقت على مسلسل أمريكى تعرضه قناة إسرائيلية،

ومضت تشاهد المسلسل لبرهة من الوقت لكنها مالبثت أن سئمت ما

يحفل به المسلسل من تفاهة واستهانـة بالعقول. . عادت تقلب القنوات

مرة أخرى، وأخيرا استقرت على فضائية المنار اللبنانية وكانت تعرض لقاء

عبر القمـر الصنـاعى بين الأســير المحـرر سـمير القنطــار والمناضلــــــة

الفلسـطينيـة أم جبر. .ســارة تعرف أم جـبر من خـلال ماقرأتـه عنهـا فى

الصحـف العربيـة، وتعرف علاقتهـا بـسـمير وكيف تبنتـه ودأبت على زيارتـه

فى السجن لسنـوات طوال حتى منعها الإسرائيليون. . مضت سارة تتابع

الحـوار بشـغـف وتتمعن فى قسـمـات وجـه أم جـبر ونظرات عينيـها وهى

تتحدث، وراحت تبتسم كلما أطلقت أم جـبر دعابة أو تعبيرًا ينم عن حالة

المرح والسعادة التى تغمر كيان تلك المرأة العربية العجوز قوية الشكيمة

. . وفجأة انتبهت سارة إلى صوت يقول: ــ مســاء الخير ياعزيزتى. . ماذا

تشاهدين اليوم؟

رفعت عينيـها لتـجد جارتهـا أولجـا كامينسكـا قد وصلت كعادتها كل عصر

واتجهت إلى السيـاج الخـشبى المنخفض الغاصـل بين حديقتيهما لترفع

الكرسى الذى أعدته سلفا وتنقله إلى داخل حديقة سـارة. .

وضعت أولجا الكرسى إلى جانب كرسى سـارة وقالت وهى تجلس:

 من هؤلاء؟. . هذه المرأة عربية بالطبع. . لكن لماذا تضحك؟

شرحت لها سـارة الموقف باختصار فاستاءت أولجا وقالت:ــ ماذا ياعزيزتى؟

ألا تكفين عن مشاهدة هؤلاء الإرهابيين العرب؟. . ألا تتقززين من تعبيرات

وجوههم النامة عن الشراسة وسوء الطبع؟

أجابت سـارة فى امتعاض واضـح: ــ عزيزتى. . أنا أكره المَلَل وأحب

مشاهدة كل شىء والتعرف على كل الآراء. . وأؤكد لك أن الإحاطة

بوجهة النظر الأخرى إذا لم تنفع، فعلى الأقل لن تضر!

ونظرت إلى أولجـا مبتسمة وقالت: خذى الأمر ببسـاطة يا أولجـا. .

خذيــه حتى من جـانب الطرافـة والغرابـة. . تـسـل معى واتركينى

استوعب الحوار. .

سكتت أولجـا متبرمة وراحت تتابع اللقطات البادية على الشـاشــة

دون أن تعى حـرفـا من الحـوار لكونـها لا تعرف العربية. . وكانت كلما

ظهرت أم جبر فى لقطة كبيرة بدت على قسمات أولجا أمارات الضيق

وكلما ابتسمت أم جبر قطبت هى جبينها ولاح الإنزعاج على محياها. .

ولم يطل بها الصبر على السكوت كثيرا فقالت: ــ أنا لا أحب هذه المرأة

. .لا أطيق رؤيتها!!. . لا أحب كل هؤلاء العرب ولا أعرف لماذا لا تنفرين

منهم مثلى ومثل كل إسرائيلى مخلص! هل ذلك لمجرد أنك ولدت فى

مصر ونشأت فيها. . هل ذلك لمجرد أنك حُبلى ببعض ذكريات شبابك. .

ذكريات لعب التنس فى الإسماعيلية وصيد السمك فى قناة السويس. .

إننى أرثى لحالك ياعزيزتى!

تفرست فيها سـارة وزمت شفتيها إعلانا عن تأجيل الرد وظلت تتابع الحوار

فى شغـف واهتمام، لكن أولجـا التى سـكتت على مضض بـرهة، عـادت

لتقول فى عصبية:

 هؤلاء إرهابيـون جميعـا. . فلماذا نتفرج عليهم؟. . وهذه المرأة شريـرة

وداهية. . أنا متأكدة أنها شريرة!. .انظرى إلى بريق عينيها. . انظرى إلى

ابتسامتها الساخرة. . انظرى إلى قسمات وجهها التى تنبىء بالشراسة

والميل إلى العنف. . أنا متأكدة أنها مخربة ولا أستبعد أن تكون قاتلة. .

أصـاب الحنـق سـارة فزجـرتهــا بحـدة قائلـة:

 دعينى الآن أتـابع البرنـامج وقولى ماشئت بعدما ينتهى!

سكتت أولجا مرة أخرى دون أن تكف عن إطلاق الزفرات الحارة تعبيرا عن

شدة الغيظ، ثم هدأت بعض الشىء وراحت تتابع المَشاهد فى صمت تام

بعد أن انتوت أمرا ما وتكتمت عليه لبعض الوقت!

* * * * *

عقب نهاية البرنامج خفضت سـارة صوت الجهاز وتوجهت إلى أولجا قائلة:

 والآن ماذا تريدين أن تقولى ياعزيزتى؟. . تكلمى يا قرة العيون!

فأجابت أولجا فى صوت متضرع:ــ سااااااارررة. . أنت تجيدين العربية، فهل

تسدين إلى خدمة؟

حدقت سـارة فى جارتها دون أن تتورط بكلمة قبل أن تعرف ماهية الخدمة

المطلوبة. . وعادت أولجا لتقول بنفس الصوت الخفيض الناضح بالرجاء:

 لا أريد الكثير. . فقط صورة كبيرة لهذه المرأة تحصلين عليها من شبكة

الإنترنت وتطبعينها على طابعتك. . هل هذا ممكن؟

فابتسمت سـارة وأجـابت:ــ هذا أمـر يسـير لو كان للصـورة وجـود على

الشبكة. . أعدك ياعزيزتى بالبحث عنها وطباعتـها متى وجدتـها. . لكن

قولى لى لماذا تريدين صورة أم جبر وقد لاحظت أنك غير راضية عنها؟

قالت أولجا فى حدة: ــ غير راضية عنها؟. . هذا ليس التعبير المناسب،

أنا أمقتها. . لقد كرهتـها من أول نظرة وكانت كل لقطـة لها تظهر على

الشاشة تعمق فى قلبى هذا الإحساس!

قالت سـارة فى استغراب:ــ لماذا إذن تريدين صورتها مادامت كراهيتها

تملأ قلبك الملائكى الحنون؟

ردت أولجا فى خبث:ــ إذا عرفت السبب أفلا تتراجعين عن وعدك بطباعة

الصورة؟

أجابت سـار ة مبتسمة:ــ لا. . أعدك بأننى لن أتراجع. .

صاحت أولجـا وهى تطرق مسندى الكرسى بقبضتيـها: ــ لأنتـقم منها. .

لأسقى هذه المخـربـة كأس المرار. . لكى تعرف هذه العربيـة كيـف تقف

عند حدها. .

والتمعت عيناها ببريق ربما ينم عن شىء من الجنون وهى تقول:

 ولكى تعرف من هى أولجا فتدرك هذه ال "أم جبر" حقيقة نفسها وتعى

أنها لاتساوى شيئا فتكف عن هذا الهراء. .

 أى هراء؟

 الظهور على الشاشة والتحدث إلى الناس. . لا أريد أن أرى صورتها ثانية!

 وهل تستطيعين منعها من الظهور؟

 أستطيع أن أجعلها تحجم عن ذلك من تلقاء نفسها. .

 وكيف ذلك؟

 سترين. . وكل ماعليك إحضار الصورة. .

قالت سارة وهى تضغط على مقاطع الكلام: سأحاول قدر استطاعتى. .

لكن دعينى الآن أرد على ماقلت فى حقى. . فأنا أيضا أرثى لحالك يا أولجا

العزيزة. . أنت تعيشين دائما فى صفحات التلمود ، أو هى تعيش داخلك. .

أنت تسكنين مملكة المحرقة، أو هى تسكنك. . وطنك الأصلى ليس بولندا

التى قضيت فيها سنوات عمرك الأولى، بل وطنك ملفات الاضطهاد وروايات

التعذيب، وروحك تهيم فى أوشفيتز وشتوتهوف. . أما أنا. . أما أنا فوطنى

مصر التى عرفت فيها معنى الأمان والحب ومرح الشباب، ولم أغادرها إلا

رغما عن أنفى، استجابة لرغبة الأسرة وتحت ضغط الظروف. .

وسكتت قليلا ثم قالت:ــ غدا سأحضر الصورة لأرى ماذا أنت فاعلة بها أيتها

الأشكنازية العنيدة!

وأتبعت قولها بضحكة ترطب بها الموقف!

* * * * *

عصر اليوم التالى خرجت سارة إلى حديقتها لتجد أولجا قد بكرت بالخروج

وراحت بفرشاتـها وألوانـها تعالج مسطح لوحـة جـديدة مثبتـة على حامل

خشبى، وغير بعيـد عنها كان ينتصب حاملان آخران أحدهما يحمل صورة

كبيرة لأم جبر كانت سارة قدمتـها لأولجـا صبـاح ذلك اليوم، والآخر يحمل

صورة لشاب فى مقتبل العمر يضع على مفرقه غطاء رأس القوات الجوية

الإسرائيلية. . ألقت سارة بالتحية وقالت:

 ماذا ترسمين ياأولجا؟ ولماذا تعرضين صورة يائير وصورة أم جبر هكذا فى

الحديقة؟. . هل هو معرض فى الهواء الطلق؟

ردت أولجا التحية وسارعت تقول: سأشرح لك ياعزيزتى. . أضع صورة هذه

المرأة أم جبر للأسباب التى ذكرتها لك بالأمس. . وأضع صورة يائير لترى أم

جبر بعينيها كيف كان ابنى رائعا بوسامته وزيه العسكرى. . لتعرف أنى أم

بطل عظيم قاتل دفاعـا عن إسرائيل واستشهد على جبـهة الجولان وهـو

يُصْلِى السـوريين بحممـه، بينما هى أم لمخـرب. . دعيـها تـشعر بالفارق

بين إبنى وابنـها!!!

ابتسمـت سـارة وهى تغالب الضحـك وقالت: لكن ياعزيـزتى أنت تعرفين

أن طائـرة يائير سقـطت لأسباب فنيـة وقبل أن تطلق طلقة واحـدة فى

حـرب يوم الغفران. . وهى حتى قد سقـطت فى الجـليـل قبل أن وصولها

إلى المواقع السورية!!!

استشاطت أولجـا غضبـا وصرخـت قائلة: لا ياعزيزتى. . كيـف تقولين ذلك

عن يائير الذى كان يحبك ويدعوك "خالتى سارة"؟. . يائيـر يا عزيزتى بطل

عظيم قاتــل بشراسة، لكن تقريـر سقـوط الطائرة كتبـه قائد السرب وهـو

ضابط يمنى الأصـل يكره الأشكنازيين. . هذه هى الحقيقـة التى يجب أن

تعرفيها. . لقد زارتنى روح ابنى وأخبرتنى بكل شىء. .

قالت سارة وهى ماتزال تغالب الضحك:ــ حسنا. . لكن ماذا ترسمين؟

هدأت اولجا قليلا وقالت:ــ لماذا لا تنتظرين حتى تكتمل ملامح اللوحة؟. .

لكن سأقول لك. . إننى أرسم صورة يائير، لتعرف أم جبر أنى امرأة مثقفة

وفنانـة من طراز رفيـع. . هاأنا أمارس هوايـة راقيـة تعـارف عليـها العـالـم

المتحضر. . أما هى فماذا تفعل؟ تجلس وتثرثر وتحيى المخربين؟!!

ردت سارة مستـدركة:ــ لا ياأولجا. . عزيزتى لا تجعلى مشاعر الكراهيــة

تعميـك عن الحقائق المؤكـدة . .فالفلسطينيات فنانات بالفطرة. . ربما لا

يرسمن، لكنهن بالتأكيد يبرعن فى فنون التطريز والزينة وهى أصعب وأكثر

تعقيدا من ضربات الفرشاة. .

رمقت أولجا جارتها بنظرة حادة تنم عن الإمتعاض الشـديد دون أن تنبـس

ببنت شفـة. . ومضت تعالج اللوحة بفرشاتـها وسارة ترقبها فى هدوء ولا

تحول عينيـها عنـها. . لكن اللوحة كلمـا استبانت معالمها استبانت معهـا

معالم ابتسامة ساخـرة تتشكل على ثغـر سارة. . وأخيرا اكتملت اللوحة

وارتدت أولجا بضع خطوات للخلف لتنظر إليها من بعيد وهى تقول:

 مارأيك عزيزتى سـارة؟. . كيف تريـن هذا الأمير الجميل؟. . أليـس رائعـا

أخــاذًا؟!. . ألا يبهر عينيك؟

قالت سارة فى تؤدة:ــ أقول لك الحق؟. . اللوحة لا تشبه يائير البتة. .

ثم أن التناسب بين ملامـح الوجـه مفتقـد تماما. . انظرى لقد جعلت الأنف

صغيرا للغايـة والعينين واسعتين أكثر مما يجـب. . والأذن أيضا أعلى كثيرا

عن موضعها. . لقد جعلتها أشبه بأذن الفأر!!

ثارت ثائرة أولجـا وألقت بالفرشاة على الأرض وصرخـت:ــ ماذا تقولين؟. .

هكذا أنت دائما تحطمين مجاديفى حتى فى وجود هذه المرأة، ألا تريدين

لى أن أهزمها؟. . أتقفين فى صف الأعداء؟. . طابور خامس أنت؟!!!

قالت ذلك وهرولت إلى داخل الدار غاضبة وتركت سارة معقودة الحاجبين

لفرط دهشتها من مسلك هذه الجارة حادة الطبع!

* * * *

بكرت سـارة بالخـروج إلى الحديـقة عصـر اليـوم التـالى لتـجـد أولـجـا أعدت

مجلسها ككل يوم ونصبت الحامل الخشبى وعليه صورة أم جبر، لكن أولجا

نفسهـا لم تكن مـوجـودة فى الحـديـقـة. . ظنت سارة أن جارتـها مشغولـة

بشىء ما داخـل دارهـا ولن تلبث أن تخـرج. .حـانت منـها نـظرة أخـرى إلى

الحـامل والصـورة المثبتـة عليه ولاحظت أنهما موضوعان فى وسط الحديقة

تماما، بينمـا المنضـدة التى كانت تحتل عادة وسـط الحديقة قد نقلت إلى

ركنهـا الملاصق للسـور الفاصـل بين الدارين. . أدركت أن المرأة الأشكنازيـة

مقبلة على إحدى ألاعيبها فجلست معتمدة رأسها بين كفيها وهى تجهد

نفسها فى تصور ما يمكن أن يقع، دون أن تصل إلى استنتاج معقول. .

أبحـرت سـارة بأفكارهـا فى بحـار شتى ونسيت تمـامـا أمر جارتهـا، لكنهـا

أفاقت على صوت محرك يهدر. . نظرت حولها لترى جرارا زراعيا يقترب

مسرعا، وتمعنت فى سائق الجرار فإذا به لا أحد سوى جارتها أولجا. .

لوحت أولجا بيدها لسارة ثم اندفعت عبر بوابة دارها وراحت تدور بالجرار

حول الحامل الخشبى الذى استقرت عليه صورة أم جبر. . نهضت سارة

من جلستها وراحت تحملق فى أولجا فى ذهول واضح، وهتفت بأعلى

صوتها :ــ أولجا. . ماذا دهاك؟. . لماذا أحضرت الجرار من المزرعة؟. . أُف

ياله من جرار قديم ويالهديره المزعج!!

واصلت أولجـا الدوران حـول الصـورة وارتفع صوتـها يردد فى مرح: إننى. .

إننى ألقن هذه المـرأة. . أم مـاذا؟. . آه تذكرت، أم جبر. . ألقنهـا درسـا

لن تنساه. . انظرى إليها، إنها تشعر بالخزى وهى ترانى أقود الجرار بهذه

المهارة. . قولى لها بالعربية أن الإسرائيليات لهن مهارة الرجال، أبلغيـها

عنى أننى لو عدت شابة لقدت طائرة وقصفت عواصـم الإرهاب. . قولى

لها هاهى أولجا البارعة تـــ . . .

لم تكمل جملتها لأن العجلة الأمامية اليسرى اصطدمت أثناء الدوران

السريع بأحدالقوالب المحيـطة بحـوض الأزهارفمال الجرار على جانبـه

الأيمن وسقط على الأرض بسائقته ، وزحف بها نحو السياج الخشبى

الفاصل بين الدارين فكسر بعض ألواحه ثم توقف. .

أسرعت سارة تجتاز السياج وراحت تعاون جارتها على النهوض. . وبالفعل

نهضت أولجا متثاقلة وهى تتأوه من الألم. .استندت إلى كتفى سارة التى

قادتـهـا إلى مخـدعهـا وأرقدتـها على سريـرها وقالت بعد أن تأكدت أنـها لم

تُصَبْ سـوى ببعـض الكدمات البسيــطة:ــ إيـاك أيتـها العجـوز المخـبـولة أن

تـعودى إلى تـلك الألاعيب الحـمقـاء. . كفى عن ذلك أيتـهــا البـلهـاء، كنت

ستدقين عنقك!!

لكن أولجـا قالت فى تـحـد واضـح وعنـاد البـغل الحرون: فى المـرة القادمة

سأقهر تلك المرأة. . أعدك بذلك وسوف ترين. .

* * * *
فى عصـر اليـوم التـالى سارعت سـارة بعيادة أولجـا ومنعتـهـا من الخـروج،

لكنـهـا بعد يوم آخـر استـعادت قـواهـا وخرجت عصـرا إلى الحـديقـة ومعهـا

الحامل وصـورة أم جـبر. . وشعـرت بها سـارة فخرجت هى الأخـرى وألقت

بالتحية ثم قالت: ماذا؟ الصـورة مرة أخـرى؟. . أرجو ألا تكون هنـاك ألاعيب

مؤذية هذه المرة أيضـا. . وأتمنى ألا أندم على تقديم الصورة . . هيـه ماذا

فى جعبتك أيتها الحمقاء؟!!

نظرت إليها أولجا شزرا وقالت: سترين. . سترين كل شىء. . .

دلفت أولجــا إلى داخل الدار وعادت تحمل قوس رماية وجعبة سهام، ممـا

أثار استغراب سارة وجعلها تترقب الحركة التالية لجارتها بمسحة من القلق

تكسو قسماتها. . وضعت أولجا الجعبـة على المقعـد وسحبت منها سهمـا

والتفتت إلى سارة وقالت ضاحكة فى جذل: الآن سيبدأ الانتقام الرهيب. .

سترين ياعزيزتى كيف تكون الهزيمة الفاصلة للإرهاب. . الهزيمة الساحقة

. . انظرى. . وأوترت قوسها وارتدت للخلف بضع خطوات وصوبت السهم نحو

صورة أم جبر. . أخذت شهيقا عميقا أتبعته بزفير أحكمت بعده التصويب ثم

أطلقـت السهـم ، وعلى الفـور أطلقـت ســارة ضـحـكة مجـلجـلة حين رأت

السهم يطيـش تماما ويتجنب حامل الصورة برمته ويرشق فى لوحة صغيرة

إلى جـانب باب الدار تحمل اسم أولجــا كامينسكا. . أصاب الحنـق الشديـد

أولجــا ووقفت حائـرة تبـحث عن شماعة تعلق عليـهـا الفشل، لكن هبـات

الهواء القوية التى راحت تعبث بشعرها جعلت بحثها لا يطول فقالت:

 هذه الريح الملعونة تتواطأ مع هذه المرأة!. . لقد أطاشت سهمى برغم

دقة التسديد!

قالت سارة ساخرة:ــ باستثناء سليمان الحكيـم لم نسمع يوما أن الريـح

تخضع لإرادة إنسان فان أو تتواطأ معه!!!. . إنه تسديدك غير الدقيق الذى

أطاش السهم. . أنت حتى لا تمسكيـن القوس بالطريقـة الصحيحة، أيـن

تعلمت الرماية أيتها البارعة؟

قالت أولجا فى غيظ: إنها قوس يائير أحتفظ بها مع أشيائه، وسوف أرمى

بهـا هذه المرأة وأقتـص منـها. . انتظرى قليلا ولا تتعجلى الأمر. . فالحرب

سجال والنصر دائما لجنـود رب الجنـود. .

إلتمعت عينا سارة وحدقت فى جارتها مبتـسمـة دون أن تنطق بالمزيــد،

فى حين أوترت أولجا قوسها بسهم آخر وراحت تتطلع إلى اللوحة وتتحرك

خطوة للأمام وخطوة للخلف كأنما لتضبط وضعها أمام الهدف. . أخيرا رفعت

القوس وصوبت وقد ارتسمت على محياها أمارات العزم والتصميم. .

وأطلقت بعد أنـاة وطول تريث فطار السهم وأصـاب الهـدف هذه المرة، لكن

رأس السهم اصـطدمت على نحـو يدعـو للدهشـة بالرأس البلاستيــكيــة

لدبوس التعليق الذى يثبت الصورة إلى الحامل الخشبى فتفتت هذا وتناثر

فى ذات الوقت الذى انقضت فيه هبة ريح قوية لتنزع الصـورة وتحررهـا من

عقال الحامل وتدفع بـهـا إلى الجـو بضـعـة أمتار كانت كافيـة لتعليـقها بين

أغصان شجرة التفاح الواقعة فى ركن الحديقة. . تنقلت أولجا ببصرها بين

الصــورة المعلقـة وبين وجـه جـارتهـا الحـافل بنـظرات التـرقب وعلامـات

الإستفهام وبدا عليها أنها تزن أمرا ما داخل رأسهـا. . ثم بدا أنها حسمت

الأمر أخيرا، إذ انطلقت نحـو الشجـرة تتسلقهـا فى غير خفـة ولا مهـارة،

بينما هبت سارة واقفة وقالت فى انزعاج واضح:ــ ماذا. . ماذا تفعلين أيتها

التعسة؟. . هل أصابك الجنون لتتسلقى الأشجار وأنت فى هذا العمر؟. .

لكن أولجــا واصلت الزحف لأعلى فى عنـاد وامتدت يـدها نحو الصـورة دون

أن تصلهـا. . زحفت بضعـة سنتيـمترات أخرى كادت أن تجعل الصورة فى

متناولها دون أن تنتبه إلى الإنذار الصوتى الصارم الدال على تكسر الغصن،

وفجأة وقبل أن تطبق أناملها على طرف الصورة انهار الغصن وسقطت أولجا

واصطدم رأسها بالأرض فتمددت مغشيا عليها بلا حراك، بينما تحررت

الصورة ودفعت بهـا هبـات ريح متلاحقـة إلى الجـو فراحـت ترتـفع حـرة

فى سمــاء فلسطين. .عبرت سارة السيـاج وأسرعت تتحـسس أنفاس

أولجــا ونبضهـا. . أخرجت تليفونها المحمول من جيبها وراحت تستدعى

سيـارة الإسعاف وهى لا تكف عن النـظر إلى صـورة أم جـبر التى كانت

تـواصل الارتفاع فى الجو كأنها منطاد إنطلق لتوه إلى الأعالى السامقة!!

* * * *

تناهى إلى سمع سارة صوت سيارة الإسعاف القادمة من بعيد يعلو ويعلو

وهى تقترب من الدار،لكن المرأة لم يتحول بصرها عن متابعة صورة أم جبر

فى رحلتها إلى الأعالى حتى بلغت السيارة البوابة وتوقفت، فعندئذ فقط

إلتفتت سـارة لتـرى رجلى اسـعاف يهبطان من السيـارة بحركات سريـعة

وأحدهما يحمل محفـة والآخر يحمل حقيبة. . حَيَّت سارة الرجلين وأشارت

إلى حيث ترقـد أولجــا. . إختلست نظرة أخـرى إلى الصـورة المنـدفعة فى

الجو بينما كان حامل الحقيبة يتقدم نحو أولجا ويركع إلى جوارها يتفحصها،

فى نفس اللحظة التى بدأت فيها العجوز تفيق وتطلق آهات خافتة تنم عن

حالة من الضعف الشديـد والألم البالـغ. . أتم المسعف الفحـص وأشـار إلى

زميله ليتقدم نحوه. . تعاون الرجلان فى وضع أولجــا على المحفة وحملاها

متجهين إلى السيارة. .خطت سارة نحو أولجـا ومسحت على رأسها برفق

وسألت المسعف:ــ هل حالتها خطيرة؟

أجاب المسعف فى نبرات تشى بعدم التأكد:ــ لا أعتقد ذلك. . لكن قولى

لى بربك. . ماالذى حدث للسيدة بالضبط؟

حانت من سـارة إلتفاتة أخيرة إلى الصـورة وهى تندفع فى رحلتـهـا نحـو

الجنوب الغربى وتبدأ فى الاختفاء شيئا فشيئا، وأجابت بجد شديد:

 كانت تشارك فى مباراة عنيفة للملاكمة. . فسقطت بالضربة القاضيـة

فى الجولة الثالثة!!!

رمـق رجـل الإسعـاف سـارة بنظرة تنم عن الحيرة والاستـغراب، ثم سـارع

مع زميـله بنقل المرأة المصابـة إلى السيــارة. . قفزت سـارة لتـجلس إلى

جوار محفة جارتها المصابة، وانطلقت السيارة بالجميع تنهب الأرض وأبواقها

تـدوى دويــا يصـم الآذان. . .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى