الجمعة ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
بقلم مصطفى منير مصطفى محمد

أُمّي لا تعرف روبيرتو كارلوس

«هل حان دورنا يا جلال؟»
تسألني أمّي، بَدر الصباح، بائعةُ الخُبز، عاشقةُ الحياة وابنائها، المريضة بفيروس الالتهاب الكبدي، كل يومٍ حين تستيقظ، وإجابتي واحدة مكررة مملة: "لمّا يهاتفني سيّد الممرض يا قمر".

عَرفَنا بمحضِ صدفةٍ عجيبة، إنَّ أُمّي أصابها هذا المرض، وعَرفَنا من طبيبٍ شاب، أنَّ العلاجَ متوفرٌ، أمّا عن الصدفة; وهذا ما حكته أمّي، فقد سقطتْ بدر الصباح فجأةً، منذ سنة، وهي تداعبُ بنتًا صغيرة، تشتري منها الخبزَ، تتألم، تقبضُ على جانبِها الأيمن، تصرُخ، لم يتحرك نحوها أحدٌ، إلا كلب شارعٍ ترعاه، ظل ينبح لعل رجلًا يساعدُها، الصدفة كانتْ مقدّرةً، لمّا مرَّ شابٌ، نظر حوله، في البداية ظنَّ أنّها خدعة، وهذه السيدة سارقة، أو تفعل فعلتها ليُحسن إليها مارٌ، ثم لاحظ العَرقَ الذي كان أحن عليها منهم، يمر على جبينها، كأنّه يربت عليها، حتى تمتد يد الله، من السماء، لتضع ثلجةً على جبينها، فتهدأ وتقوم من جديد.

ركض نحوها الشاب، ساعدها على النهوض، قالتْ له: "ورب الكعبة لا تتركني، إذا وقعتُ ثانيةً لن أقوم! وحياة حبيبك النبي!"، أقسمَ لها بشرفه وشرفِ مهنته، أنّه سيقوم باللازم، وبعد التحاليل والفحوصات، التي دفع ثمنَها لأمي، عرفنا أن "فيروس سي"، يستعمر كبد أمّي، والموت قادمٌ لا مفر، قالتْ لي يومها، عندما رجعتْ من عنده: "نهر أمّك سيجف يا جلال، إذا لما تعالجني من سايرس في"، أمّي تجهل النطقَ الصحيح للمرض، أضافتْ بعدها: "خذ يا ابن بطني، هذا الرقم ستهاتفه، الطبيب ابن الحلال، الذي أنقذني من الموت، سيخبرك بما علينا فعله، أنا لن أموت يا جلال قبل أن أراك بجانب بنت الحلال!"

هاتفتُه وفي مكالمته وجدتُ الجزعَ والفرح، الأخير لأنَّ العلاجَ موجود، والجزع بسبب سياسة الدولة: "يا جلال، بالدور، اذهب إليهم، مشفى الكبد المصري بالمنصورة، يتوافد النّاس من كل مكانٍ في العالم، لتعالجهم، أنا واثق من قرب دورها، فلنقل شهرًا كأقصى مدة!"

اليوم التالي من مكالمته، ذهبنا وحجزنا، كتبنا اسمها وكل البياناتِ المطلوبة، في برود قاتلٍ، قالتْ الموظفة: "سيّد الجبّاس، احفظ هذا الاسم، هو من سيتصل بك، ويخبرك بحضور الحاجّة، لنباشر معاها رحلةَ العلاج، ستجد بين الأوراق ورقةً مهمةً، بها مجموعة من الأدوية، والجرعة اليومية، لنخفف الألم عنها، تعرفي يا ست بدر؟ بالصدفة يكتشف النّاس مرضَهم! أثناء فحص أو تحليل لشيء آخر! إلا أنتِ! الوحيدة التي أعطاكِ الله إشارةً! والله العظيم رب السماء يحبُّكِ، يا ليته يحبنا مثلك، ويا ليت ملكَ الموتِ يمهلنا وقتًا مثلك!" وضحكتْ بعدما أنهت كلامها البجح مثلها.

لعامٍ كامل، بدر الصباح تسألني، لعامٍ كامل، يكون سيّد إجابتي الوحيدة، أنا، جلال الدين محمد الشبراوي، موظف أمنٍ لمحل بيع هواتف، القاطن بنزلة أبو سليم، محافظة بني سويف، يقول كل صباح، لأمّه بدر الصباح، ثلاث كلماتٍ فقط: "سيد، سلام، أنا هنا" ولأنَّ الإنسانَ كنودٌ; طلبتُ من أمّي اليوم، تجاهل المشفى، لن يتصل بنا أحد، ولأنَّ اللهَ يحبُّ بدرَ الصباح; رنَّ هاتفي القديم قِدمَ ضحكةِ أمّي، قال المتصل: "يا جلال يا ابني، هات الحاجّة بدر غدًا، ضروري جدًا، ضيفٌ مهم سيجيء، من السادسة صباحًا أريدُك! وقُل للحاجّة إن وجودَ قفصِ العيش معها غدًا، سيخدمها كثيرًا!"

لم نستضف النومَ في منزل عيوننا، أجبرتْ أمّي الليلَ على الرحيل مبكرًا، ذهبنا كما قالوا، نجلس في ردهة المشفى، الكل يبتسم لنا، اللهمَّ لك الحمد كله، وفي تمام التّاسعة,،جاء طبيبٌ ومعه شخصياتٌ هامة، يا رب! أسيعالج أمّي كل هؤلاء؟ بدأ الطبيب العجوز، هذا الذي يظهر إنه صاحب المشفى، التحدث بالإنجليزية، ثم ظهر من بينهم، رجلٌ قصير حليق، يبتسم لنا، على رقبته وذراعيه الكثير من الوشوم، يرتدي سلسلةً من الذهب، قميصًا أبيض، بنطالًا أحمر، ويشير إلى أمّي، تقول لي: "ها؟ ماذا يريد يا جلال؟ من هذا يا جلال أصلًا؟"، تحدّث شابٌ على الفور: "يا أم جلال، يا حاجّة بدرية أم بدر؟ لا يهم، هذا اللاعب العالمي روبرتو كارلوس، من البرازيل، وهو يدعم حملتنا لمواجهة مرض فيروس سي، تعال يا جلال، قف هنا بجانب العالمي، ابتسم أرجوك، وأنتِ يا حاجّة، من فضلكِ، ارفعي قفصَ الخبز، سنلتقط لكم صورةً، هذه أفضل دعاية لنا! روبرتو كارلوس وبائعة الخبز!"

بعد الصورة رحل الجميع، جاء رجلٌ إلينا، لا نعرفه ويعرفنا، صافحني وصافح أمّي: "أنا سيّد الجبّاس يا جلال، لقد زارنا النبي يا حاجّة، أهلًا وسهلًا، إن شاء الله يا حاجّة في أقربِ وقت، سنعالجُكِ، أنا آسف يا جلال، طلبوا منّي حضورَكما، أمّك فقيرة وتبيع العيش وملامحها هادئة، تليق بالظهور مع نجمٍ بحجم البرازيلي ريكاردو كارلوس"، صحّحتُ له الاسم: "روبيرتو يا سيّد"، لم يمهلني وقتًا لأعاتبه أو أتشاجر معه، هروّلَ مسرعًا تجاه اللاعب البرازيلي، ليأخذ معه صورةً، قرفصتْ أمّي وظهرها يسنده الحائط برفق، نظراتُها التائهة، سكوتُها الذليل، ضعفُها الظاهر، كل ملامحِها تبكي، والله العظيم تبكي، قالتْ وهي تبتسم: "هل نعطي له رغيفًا يا جلال؟ ليعرف خيرَ الفقراء؟ جلال، إيّاك حين أموت، تسرد لهم حكايتي، سيقولون أمّك جاهلةً، لا تعرف روبا فالوص"، صحّحتُ لها: "روبيرتو كارلوس يا بدر الصباح".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى