الأحد ١١ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم أمل الجمل

"إخوة" الدانماركي.. وسلطان قانون الوجود

عندما يُخير الإنسان بين الحياة والموت، عندما يتوقف وجوده في ذلك العالم على فعل واحد فقط، هل يتصرف بنُبل أم أنه سيُعيد اكتشاف إنساناً آخر بداخله ـ وربما حيواناً ـ لم يكن يعلم عنه شيئاً ؟ هل التدريب على الإحساس بالألم، وعلى مواجهة الموت يحمي من الضعف والجبن والإنتهازية، من ارتكاب الأفعال الدنيئة واللاإنسانية؟ هل الإنسان إما خير أو شرير، إما صح أو خطأ ؟؟. هل يوجد في الحياة شيء واحد حقيقي يقيني؟.. وإذا فقد الإنسان الثقة في نفسه كيف يثق في الناس وفي الأشياء من حوله؟. تساؤلات ربما نعثر على إجابات لها عند مشاهدة الفيلم الدّانماركي "أخوة" للمخرجة "سوزان بير" التي قدمت للسينما العديد من الأعمال المتميزة من بينها "فرويد يترك المنـزل" 1990 ـ شئون عائلية 1993 ـ كما لم تكن من قبل 1995 ـ عقيدة 1997 ـ الأول والوحيد 1999 ـ مرة في العمر 2000 ـ قلوب مفتوحة 2002 ، ثم "أخوة" 2004 الذي أكدت به "بير" على نجاحها كإمرأة مبدعة قادرة على الإبحار تحت جلود البشر، وعلى كشف خباياهم العظيمة.

يحكي الفيلم عن أثنين من الأخوة يتبادلان الأدوار فيتغيّر كل منهما إلى الأبد.. "ميشيل" الأخ الأكبر هو ضابط في الجيشِ الدّانماركيِ. يعيش حياة سعيدة مع زوجته "ساره" وابنتيهما. كان في نظر عائلته ـ الصغيرة والكبيرة ـ نموذج للإنسان القوي الناجح المثابر الذي لا يستسلم ولا يضعف. "جانيك" هو الأخ الأصغر الذي لم ينجح في شيء، متهور، دائماً في حالة سكر، خرج مؤخراً من السّجنِ بعد سرقته أحد البنوك والإعتداء على إحدى النساء العاملات به.
يتم إرسال "ميشيل" وفِرَقته العسكرية ـ عقب انهيار مركز التجارة العالمي ـ إِلى أفغانستان ضمن قوات حفظ السلام الدولي. مع ذلك فالفيلم لا يدور حول أخطاءِ الحربِ في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، لكنه يتخذ من هذه الواقعة مجرد ذريعة لكشف الإرهاب الحقيقي الكامن في نفوس البشر، والمختبيء في العالم الصغير للأسر العادية وربما السعيدة.

يقع التحول المأسوي في شخصية "ميشيل"، بعد ذهابه إلى أفغانستان. هناك تنفجر طائرته فيُعلنوا وفاته. لكن الحقيقة أنه لم يمت، أنه هو وأحد أفراد فرقته وقعا أسيرين في أيدي المجاهدين الأفغان. تجمع فجيعة فقدان "ميشيل" بين الزوجة والأخ فيَنْمو العطف المتبادل بينهما. نكتشف أن "جانيك" كان يُخبيء حباً دفيناً لأخيه، وإكراماً لذكراه يسعى لرعاية أسرته، وتحقيق كل أمنياته قبل فقدانه، لذلك يذهب إلى تلك المرأة التي اعتدى عليها أثناء سرقة البنك ويعتذر لها، ويُطمئنها أنه لن يُؤذيها ولن ينتقم منها لأنها تسببت في القبض عليه. يتحول "جانيك" إلى شخص آخر، شخص قادر على تحمل مسئولية نفسه ورعاية عائلة أخيه. يُقلع عن الخمر ويُصبح مرحاً يقضي وقتاً طويلاً مع الطفلتين فيقترب أكثر من الزوجة "ساره".

في حين يخضع "ميشيل" ـ المُدرب ذهنياً ونفسياً على الأعمال التخريبية والوحشية للحرب ـ لمساومة الأفغان على حياته، فيُوافق على تدريبهم على استخدام السلاح الجديد الذي وقع في أيديهم، ثم يُخيرونه بين أن يقتل هو زميله الذي رفض تدريبهم وبين أن يتم قتلهما ـ هما الأثنين ـ على أيدي الأفغان. هل حقاً خيروه أم أنهم أرغموه؟! أمام خيار الحياة أو الموت هل يفعل "ميشيل" ما كَانَ سيفعله أي إنسان آخر في مثل تلك الظروف؟. وأيهما ينتصر النُبل أم غريزة البقاء وسلطان قانون الوجود؟.

يعود "ميشيل" إلى دياره. لكنه لا يستطيع أن يغفر لنفسه، فالندم أصبح مُستحوذاً عليه. يشعر أن لاشيء له قيمة. يُصبح غير قادر على الحكي. يَحْفظُ سره المؤلم في أعماقه. يعجز أن يُشرك أحدِاً فيه حتى زوجته. وسرعان ما ينتابه الشك في وجود علاقة بين "ساره" و"جانيك" خصوصاً بعد رؤية التحول الإيجابي في شخصية الأخير. يُصبح العائد من الموت صامتاً كئيباً مُراقباً لكل إشارة تصدر عن الآخرين خصوصاً الزوجة والأخ. يطاردهما ليعرف الحقيقة.. هل كان "ميشيل" يفعل ذلك هرباً من الماضي القريب الذي يُنغص عليه حياته ويقوده إلى حافة الهاوية؟ ربما. لكن توتره المتزايد يُصبح مُنذراً بتدمير سعادة أسرته. يتصرف كالمجنونِ، يُعامل بناته بقسوة. وطفلتاه لا تُدركان سبباً لذلك التحول في شخصيته فتكرهانه وتنبذانه، تُفضلان لو لم يعد من الحرب، لو أنه ظل ميتاً للأبد. ذلك ما تُعلنه الطفلة الكبرى له أمام جميع أفراد الأسرة، وتُفصح عن رغبتها في أن يُصبح "جانيك" هو والدها.

هل يعد ما سبق إرهاباً من وجهة نظر "الأطباء النفسيين" ؟. وماذا يتوقعون إزاء إنسان كان عاشقاً ثم قَتل زميله ليُنقذ حياته، ففقد الثقة في نفسه. وعندما عاد إلى بيته شعر أن عالمه الحميمي يلفظه، أن أسرته تُفضل عليه شخصاً آخر كان فاشلاً. هل يُصبح من المستبعد أن يتحول المُحب إلى مجرم قاتل لزوجته، وبناته ؟.

السيناريو

حصد الفيلم عدداً من الجوائز الأوروبية. لم يأتي ذلك من فراغ. فلا شيء في الشريط السينمائي لـ " إخوة" يرجع إلى الصدفة. كل شيء محسوب بدقة، فالموسيقي أسهمت، بقوة، في التعبير عن سير البطل حثيثاً إلى حتفه وقدره المحتوم، والطفلتين نجحتا في تقديم أداء تلقائي وصادق، ومثلهما أصحاب الأدوار الرئيسية: " كوني نيلسن" في دور "ساره" ـ "أورليش تومسن" في دور "ميشيل" ـ "نيكولاي لي كاس" في دور "جانيك". وقبل كل ذلك السيناريو المتُقن في حبكته والذي كتبه " أندريس توماس جينسن".

يرصد السيناريو التحول التدريجي للأخوين بشكل تلقائي، بدءاً من خروج الأخ الأصغر من السجن، وانتهاءً بدخول الأكبر إليه، مروراً بـ "جانيك" وتحوله من إنسان فاشل إلى آخر مسئول، وصولاً إلى محنة "ميشيل" المروّعةُ في الصّحراءِ التي جعلته يَخُونُ كل شيءَ كان يعتقد فيه. هناك أسباب قوية وراء الإنقلاب في شخصية الأخوين. مع ذلك فإن شخصية "جانيك" لم يحدث لها تحول جوهري بقدر ما نالت فرصة كافية لإظهار الجانب الإنساني فيها. ربما يكون الفقدان، وربما يكون الحب لعباً دوراً رئيسياً في إضاءة ذلك الجانب المُظلم من شخصية "جانيك". لاشيء يأتي من فراغ، فالأكيد أن الغياب المستمر للدعم النفسي من المحيطين بـه، وأن المقارنة المجحفة والمستمرة بينه وبين أخيه المتفوق ساهمت إلى حد بعيد في انحراف سلوكه، ألم يكن ذلك نوعاً آخر من الإرهاب النفسي؟.


أسلوب السرد

يبدأ الفيلم وينتهي بلقطة مكبرة لعينين تنظران من خلف الجدران، ولقطات متنوعة لعدد من أغصان النبات وأوراقها تتمايل بفعل الرياح، ومن خارج الكادر نسمع كلمات ـ نفهم ضمناً أنها من "ميشيل" إلى زوجته ـ تقول: "سأظل أُحبك دائماً، إنها الحقيقة الوحيدة الباقية.. الحياة ليست صح وليست خطأ.. ليست خير وليست شر.. لكني أحبك، هذا كل ما أعرفه."

على مدار 110 دقيقة ـ هى مدة الفيلم ـ نتابع الأحداث كأننا نتلصص من خلف جدار، كأننا نسترق النظر إلى الأعماق الدفينة للأبطال، فنرى الإرهاب الكامن في أعماقهم جميعاً دون استثناء. يعتمد الفيلم على أسلوب "الفلاش باك" ـ العودة للماضي ـ لكن بشكل غير واضح، من خلال استعادة البطل لمسار أزمته، وقدرته في نهاية الفيلم على أن يبوح بسره إلى زوجته. كانت عيونه ـ منذ بداية الفيلم وحتى نهايته ـ كأنها تخترق جدار الزمن الماضي، فنرى من خلالها كل ما حدث له، وتُثير فينا علامات الاستفهام: هل حقاً أصحاب المباديء والقيم الحرة قادرين علي التمسك بمزاعمهم على أرض الواقع؟. أم سيسقط ذلك القناع في ظل مواجهة أول اختبار، فيُعري زيف إداعاءتهم، كاشفاً عن صورتهم الحقيقية، مُعلناً عن فشلهم في مواصلة دور أتقنوا أدائه في تلك المأساة؟. يُؤكد الفيلم بوضوح أن المحن والأزمات التي يفوت فيها الإنسان تقضي على البعض وتُدمر حياتهم، لكنها ربما تصنع حياة ومجد إناس آخرين. مع ذلك يبقى تساؤل. هل كل انكسار يمر به الانسان "القوي" يُمكن مداواته؟. أم أنه يظل هناك شرخ في الأعماق لا يمكن له أن يلتئم حتى في ظل جراحات التجميل المتطورة جداً ؟!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى