السبت ١٣ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم أحمد دعدوش

إشكاليات الثقافة في عصر العولمة

أحمد دعدوش

في عام 1970، نشر الكاتب والمفكر الأمريكي "ألفين توفلر" كتابه الشهير "صدمة المستقبل"، محللاً فيه الكثير من مظاهر الإرباك التي يتعرض لها الإنسان في العصر الحديث، وخاصة ذلك الذي يعيش في معمعة التقدم التقني الهائل في الغرب، وخرج بنتيجة مفادها أن الإنسان (فرداً وجماعات) يتعرض باستمرار لضغوط "صدمات" هائلة, عبر التغيرات الكبيرة في الظروف الحياتية التي يعيشها , وذلك خلال فترات قصيرة جداً، وأن القدرة على التكيف معها غالبا ما تكون محدودة.
وبالرغم من أن البعض سيتمكنون من التلاؤم مع الأوضاع الجديدة ويسعدون بها، إلا أن الكثيرين سيواجهون هذه الصدمات بردود فعل مختلفة، قد تبدأ بنوع من النفور والقلق وعدم التجاوب مع تغيرات العصر، مروراً بحالات من الاكتئاب والجنون، وربما وصولاً إلى العنف!

لقد تجسد هذا الموقف بالفعل في المجتمعات الغربية وبشكل حاد خلال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية ، فمع توفر المزيد من وسائل الترف ومواد الاستهلاك ، وإقحام أحدث مبتكرات العصر من مظاهر الرفاهية في الحياة اليومية لكل فرد، تحولت هذه الشعوب إلى المزيد من الطلب والاستهلاك، وصولاً إلى الإباحية المطلقة وضياع الهوية والانضباط، والبحث عن الملذات بشكل محموم لإرواء الشبق الذي انطلق كانفلات العملاق من قمقمه.

ولما كان هذا الطلب اللامحدود غالبا ما يصطدم بقدرة محدودة على الإشباع للوصول إلى النشوة، فإن الهروب من الواقع كان في رأي الكثيرين حلاً ممتازاً لإخماد هذه الثورة، فظهرت عقاقير الهلوسة والمخدرات والمسكرات على اختلاف أنواعها بدور المنقذ، واعتبرت مخلصا سريعا للقضاء على أي رغبة عقلية للإحساس بهذا الضياع، في الوقت الذي يسمح فيه للأعصاب المنهارة باستجداء خيط رفيع متبق كشعور أخير باللذة.

أما الفئة الأخرى، ولعلها الأكثر عقلانية، فقد اختارت الانتظام في زيارة عيادات الطب النفسي، والتي تشكل بمجموعها نحو نصف عدد العيادات الطبية في الولايات المتحدة بين كافة التخصصات، أو الانخراط في جماعات دينية غريبة ومصطنعة ، أملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه في المجتمع، أو على الأقل الهروب من الواقع الذي لم يعد يقيم أهمية تذكر للإنسان وقيمه الروحية. فظهرت حركات مثيرة تدعو للعودة إلى التدين وإحياء "الأخلاقية المسيحية" من جديد، بعد أن تم نبذ الدين في كثير من مظاهر الحياة مع بداية حركات العلمانية والإلحاد في عصر النهضة، وخرج مئات الشبان والشابات منذ عقد الستينات إلى الشوارع وهم يرتدون المسوح ويقرعون الطبول, في طقوس عجيبة لتلك المذاهب المبتكرة، والتي تحمل أسماء لا تقل عنها غرابة مثل "هاري كريشنا" ، "جون بيرش" ، "كوكلوكس كلان" ، "معبد الشعب" و"بعثة الضوء الإلهي".

ولكن ما هو تأثير هذا التفتت الاجتماعي والأخلاقي على الفكر والثقافة في عالم الغرب اليوم؟ وما هو دور العولمة، ممثلة في الشركات متعددة الجنسيات ووسائل الإعلام العالمية، في نشر هذا الانحطاط المذهل في تلك المجتمعات، والذي بات يسيطر على أوساطها الثقافية، تحديداً، وبشكل أكثر وضوحا؟ ثم أين تقع ثقافتنا العربية والإسلامية من هذا التوسع الثقافي الذي بات يهدد كافة الثقافات العالمية، ويشكل عنصر قلق حتى لأولئك القائمين على رموز الثقافة الغربية (الأوربية) نفسها؟

ما هي الثقافة؟

لعل تعريف الثقافة اليوم هو من أكثر الأمور تعقيدا، فكثيرا ما نجد الكتاب الذين يتعرضون لهذه المهمة ، وهم يقومون بجمع عشرات التعاريف المنشورة لهذا المصطلح، كما فعل عالما الانثروبولوجيا الأمريكيان "كلوكهون" و "كروبير" عندما قدما أكثر من 150 تعريفا للثقافة، ليعترفا بعدها بأنهما لم يجدا في أي منها تعريفاً شاملاً وخالياً من النقص.

ولذا فقد انتقينا أحد التعاريف الشائعة، لاعتقادنا بأنه يشتمل على كافة المجالات التي يرتكز عليها بحثنا في هذه المقالة، وهو تعريف للدكتور محمد علي حوات، يصف فيه الثقافة بأنها منظومة متكاملة، تضم النتاج التراكمي لمجمل موجات الإبداع والابتكار التي تتناقلها أجيال الشعب الواحد، وتشمل بذلك كل مجالات الإبداع في الفنون والآداب والعقائد والاقتصاد والعلاقات الإنسانية، وترسم الهوية المادية والروحية للأمة لتحديد خصائصها وقيمها وصورتها الحضارية، وتطلعاتها المستقبلية ومكانتها بين بقية الأمم.
وبهذا فإن الثقافة إرث تاريخي يحمل الطابع المميز لكل أمة، فهي غير قابلة للعولمة، إذ أن محاولة عولمة أي ثقافة تعني في الحقيقة السعي إلى بسط هيمنتها على الثقافات الأخرى، إما بطمسها أو تحييدها في عدد من المجالات، وهذا ما سيتضح لنا خلال متابعتنا للسطور القادمة.

العولمة وثقافة الشركات متعدية الجنسيات:

لقد أصبحت الشركات متعدية الجنسيات اليوم جوهر النظام الرأسمالي الحديث، فهي اللاعب الرئيسي في صنع القرارات المتعلقة بنوعية الإنتاج وحجمه وكيفيته، وطرق توزيعه وقنوات نقله، وكل ما يتعلق بالإنتاج والتوزيع من حيث الزمان والمكان و التحركات والترابطات الأمامية والخلفية، بل إن هذه الشركات باتت هي المسؤولة عن تحديد حاجات المستهلك نفسه، فلم تعد في حاجة لتقصيها ثم العمل على إشباعها، خاصة وأن المستوى الحضاري الذي وصل إليه هذا المستهلك يضمن له إشباعا كليا أو شبه كلي لكافة حاجاته الأساسية والكمالية، وعليه فإن هذه الشركات باتت معنية اليوم بإقناعه بحاجته إلى منتجات جديدة قد لا يكون محتاجًا لها على الإطلاق، عبر وسائل الدعاية الرخيصة ، ثم تقديمها له بصورة استهلاكية غير نهائية، بمعنى أنها لا تصمم لإشباع الحاجات المطلوبة بشكل كامل، بل يتم ترك هامش واسع لخطط التطوير المستقبلية، والتي تكون في الكثير من الأحيان قد أعدت قبل سنوات عدة، وذلك لإحداث حاجات جديدة فيما بعد، تتم إثارتها، ثم الدعوة إليها من جديد، بوسائل إبهار جديدة، ومظاهر جذب وتسويق أكثر جدة.
إن هذا "النظام المتعدي للجنسيات" يستند في طبيعة وجوده وامتداد علاقاته على شبكة أخرى شديدة التعقيد، تبدأ من المؤسسات الدولية ذات الطابع الاقتصادي مثل منظمة التجارة العالمية، البنك وصندوق النقد الدوليين, ومنظمة التنمية والتعاون الدولية، مرورًا بمنظمات ثقافية دولية أخرى مثل اليونسكو، ووصولاً إلى المنظمات والأحلاف السياسية والعسكرية مثل حلف الأطلسي والاتحاد الأوربي.

كما تلعب الجامعات ومراكز البحث والتدريب أيضا دوراً لا يقل أهمية، بينما ترتبط كل من وكالات الأنباء الدولية وشركات الإعلان وشبكات التلفزة الأرضية والفضائية ومواقع شبكة الانترنت غالباً مع الشركات متعدية الجنسيات بصلات أكثر وضوحاً، إذ تحمل على عاتقها مهمة نشر السلوكيات والأفكار التي تضمن صهر أكبر عدد ممكن من ثقافات العالم في بوتقة الثقافة المعولمة، ذات الطابع الاستهلاكي الغربي الموحد.

والخطر الأكبر في هذه السياسة لا يقتصر على نشر الثقافة الاستهلاكية التي تسعى لبسط نفوذ الشركات متعدية الجنسيات فحسب، بل تتم أيضا محاولة عولمة السلوك المهني والوظيفي في العالم كله، وحتى توحيد المفاهيم العلمية، والسياسية، وكل ما يتعلق بالنشاط الإنساني، ثم اعتماد هذه المفاهيم الغربية المعولمة باعتبارها الحل العالمي الأفضل، والوحيد لكافة مشاكل البشرية.

فعلى سبيل المثال ، يرى فيرجوسون (1992) أن مفهوم العولمة لا يخرج كثيرا عن تعبير أديولوجية الرأسمالية ، و كذلك كل من بورديو وَ واكانت (1999) في اعتبارهما أن للعولمة مهمة تتمثل في إغراق أعراض الإمبريالية ضمن دعاوى العالمية الثقافية و الحتمية الاقتصادية ، مما يوحي لشعوب العالم الثالث ـ على وجه الخصوص ـ بأن هذا التوسع الطاغي لأدوات العولمة يبدو وكأنه ذو طبيعة حديدية غير قابلة للكسر أو الالتواء، الأمر الذي يصفه الاقتصادي الدكتور جلال أمين، بأنه أشبه بالتعاليم الدينية المقدسة التي كان رجال الدين الأوربيون يقدمونها لشعوبهم, في القرون الوسطى، ثم يطالبونهم بالطاعة وهم عميان!

ومع تصاعد وتيرة الليبرالية والدعوة إلى الحرية، لم يعد من السهل إيقاف هذا الضخ المسعور للقيم و الأفكار الغربية عبر قنواتها الإعلامية على جميع شعوب العالم، حتى بات من الصعب –إن لم يكن مستحيلا- الوقوف في وجه هذا التيار الهائل، وإلا تعرضت شعوب العالم الثالث لحملة أكثر وحشية للانتقاد والقذف بكل صفات الانغلاق والتخلف والرجعية.

من جهة أخرى، نشرت مجلة "ريدرز دايجست" الشهيرة، في عددها الصادر في شهر أكتوبر لعام 1995 موضوعا تحت عنوان (هوليود والأكاذيب الثلاث الكبرى)، أشارت من خلالها إلى السياسة الهوليودية في عرض الأفلام -أيا كان مضمونها ومستواها الثقافي والأخلاقي- عبر اعتمادها على مبررات ثلاث كبرى: أولها أن هذه الأفلام تهدف إلى التسلية فقط دون التأثير على أحد، والثانية أنها تعكس الحقيقة التي يمثلها المجتمع، وعليه فإن الناس هم الملامون على أي خطأ أو نقد يمكن أن يوجه إلى هذا الفيلم أو ذاك, وأما الثالثة، والتي تبدو أكثرها براءة وعفوية، فهي الادعاء بأن هوليود تعتمد على أذواق المشاهدين في انتقاء عروضها، وبالتالي فإنك عزيزي المشاهد-كما تضيف المجلة- لست مضطرا لمشاهدة الأفلام التي لا ترغب فيها، وبإمكانك أن تغير وجهتك نحو القناة التلفزيونية التي تحب بكبسة زر .. إنها حقا قمة الديمقراطية!

لعلك أخي القارئ تتفق معنا عند هذه النقطة بضرورة التساؤل حول صحة اعتماد هذه المبررات -أو لنقل الأكاذيب- لفتح فضائنا الإعلامي والثقافي، وبكل هذه البساطة، لكل ما يرد إلينا من الخارج بقضه وقضيضه.

وحتى نصل إلى إجابة شافية فإننا، كما يبدو، سنظل نفاجأ كل يوم بكم هائل من البرامج والأفلام التي باتت تقدم على أنها لكافة أفراد الأسرة، في حين أنها في الحقيقة ليست كذلك على الإطلاق، فهي غالبا ما تحتوي بشكل أو بآخر على جرعة لا بأس بها من المشاهد العاطفية -إن لم نقل الإباحية- أو مشاهد العنف الدموية. بل إن برامج الأطفال بحد ذاتها باتت ملأى بهذا الغثاء الذي قلما ينتبه إليه أولياء الأمور.

وقد امتد هذا السرطان الخبيث بشكل سريع ومفاجئ ،خلال السنوات القليلة الماضية، إلى ألعاب الفيديو و المجلات المصورة ومواقع الإنترنت المتاحة للجميع وبأسهل الطرق حول العالم، حتى لم يعد الجنس والعنف -اللذان يقدمان وللأسف الشديد بأبشع الصور- شيئاً غريبا على الأطفال والمراهقين في الدول الغربية، كما لا يبدو، في المقابل، أن جيلنا الناشئ في مأمن من ذلك.

إن الاعتماد على أذواق المشاهدين في تبرير المواد التي تقدم إلى عامة الناس، ويرغمون على دخولها إلى عقر ديارهم، أتاحت لمحطات التلفزة الأمريكية أن تعرض في مطلع التسعينات 115 فيلما بوليسيا، تشتمل على 406 من الجرائم الوحشية - كما أحصتها إحدى الدراسات- مما جعل الجرائم المقدمة على الشاشة تزيد بعشرين ضعفا على الجرائم التي تحدث على أرض الواقع، فيما يؤكد البعض أن كلا الرقمين مؤهلين للازدياد.

وهكذا بات الفن الذي كان ترجمانًا لعالم "المعنى"، مرآة لعالم "الصورة" -على حد تعبير د. غلام علي حداد عادل- وتحولت السينما التي سميت في بداياتها بالفن السابع، إلى مرآة للابتذال في أحط أنواعه، فيما قام المنتجون باستغلال الجنس الذي اكتشف بأنه السلعة الأكثر رواجا، وكأن عدساتهم ليس باستطاعتها التعبير إلا بلغة الأجساد المأجورة، لتقوم محطات التلفزة فيما بعد بمهمة نقل ما كان حكراً على دور العرض إلى المنازل كل ليلة، وتصبح مراقبة الفرد لصلاحية ما يعرض عليه وعلى أفراد أسرته شبه مستحيلة.
وعبر هذا التحالف القائم بين الشركات العالمية ووسائل الإعلام، ومع تحول هذه الأخيرة إلى شركات تجارية بحد ذاتها، تقوم أساساً على الربح المادي، والتوسع القاري لاقتسام الأسواق العالمية واحتكارها بأيدي القلة، فإنه من الطبيعي جداً، والحال هذه، أن تنحط الثقافة العالمية إلى أدنى المستويات، وأن يتم تصنيف أفراد هذا العالم ،الذي يسعى البعض لتحويله إلى قرية صغيرة، حسب "الماركات" التجارية التي تحمل مشترياتهم شعاراتها، أو حسب مصادر معلوماتهم التي تمطرهم بها مئات الصحف والأقنية الفضائية ومواقع الشبكة العنكبوتية.

ولكي نتبين مدى تأثير هذه الأدوات الإعلامية الطاغية على عقول الجمهور المتلقي، وتحديد أفكاره وتصرفاته اليومية، نذكر التجربة التي قام بها "فانس باكارد" عبر مراقبة الانطباع الذي يتركه عرض ومضات سريعة لعلب من المثلجات خلال مشاهد متفرقة لأحد الأفلام السينمائية، وبشكل هامشي دون أن يشعر المشاهدون بأنهم قد انتبهوا للأمر، وكانت النتيجة أن مبيعات دار السينما أثناء العرض قد ازدادت بشكل ملحوظ، مما دفع به للاستنتاج بأن "الدعاية الباطنية" تشكل أسلوباً فعالاً للإقناع الذي لا يشعر به المتلقي حتى يفكر في مقاومته. وبما أن هذه الدراسة قد وردت في كتابه "المقنعون المستورون" في عام 1957 ، فإن هذا الأثر سيبدو مضاعفا اليوم مع التقدم الهائل في وسائل الإبهار، والسيطرة على جانب اللاوعي لدى المتلقي. إذ يعتمد الكثير من منتجي الأفلام والبرامج الأمريكية على هذا المبدأ لترويج قيمهم الاستهلاكية، حيث تقدم رموز الحياة الأمريكية البسيطة اليوم كالجينز و التيشيرت وأسطوانات الروك والبوب المدمجة، إلى جانب كرة السلة وألعاب الفيديو الرقمية ، مع قليل من الهامبورغر و الكوكاكولا، وكأنها جزء لا يتجزأ من حياة الرفاهية الأمريكية ، والتي يسعى للحاق بها معظم شباب العالم، وخاصة في الدول النامية التي يشكل سكانها الأغلبية الساحقة من سكان المعمورة.

وللحفاظ على رسوخ هذه القيم واستمرارية تناسخها بين أجيال الشباب المتعاقبة، يتم منحها المزيد من المصداقية للتأكيد على أنها الخيار الأفضل لنمط المعيشة من بين كافة الخيارات الأخرى المتاحة، وذلك عبر التكرار المستمر لهذا الطرح عبر كافة وسائل الإعلام، مع ضرورة تقديمه ضمن أطر دائمة التجدد والتغيير لضمان الإبقاء على جاذبيتها، بعيدا عن الرتابة والتقليد.
لقد تم اقتباس هذه الأساليب من النظرية التي تفـتّـقت عنها العبقرية الهتلرية، والقائمة على صياغة فكر موحد للشعب الآري، عبر التكرار اللانهائي - في وسائل الإعلام- للفكر النازي ذو النزعة الشمولية ، والقائم على إحياء غرائز إثبات الذات و الرغبة في الانتقام من العدو، حتى تصبح القوى العقلية الفاعلة منهكة ومنهارة أمام تدفق تيار هائل من الدعاية المتماسكة، مما يؤدي في النهاية إلى تكوين قبول أولي لا شعوري، يستبعد مع الزمن أي نزعة داخلية للتشكيك.

ويؤيد ذلك ظهور "نظرية الغرسCultivation Theory " في السبعينات من القرن الماضي، والتي يؤكد أصحابها أن وسائل الإعلام تقوم بغرس عالم وهمي في ذهن المتلقي، والذي يقوم بدوره بتقبل هذه الصورة على أنها تعبير حقيقي للواقع، لكونه غير واع بعملية صنع هذا الواقع، بل إن وعيه لا يتعدى الشعور بالتسلية، وذلك بقضاء الساعات الطويلة أمام شاشة التلفاز .

ولبيان تفاصيل ذلك النموذج الذي تقوم البرامج الترفيهية الأمريكية بغرسه في عقول الناس، قام الباحث البيروفي "جوركي تابيا" بدراسة شاملة لهذه البرامج، ليخرج بنتيجة مفصلة على الشكل التالي :

 البيئة: مجتمع استهلاكي ترفي خال من التناقضات.
 القيم الأساسية: الفردية والأنانية والمنافسة العنيفة.
 معنى النجاح: التفوق المادي على الآخرين، والتلذذ بمباهج الحياة.
 المجتمع يميل عموما إلى مكافأة أولئك الناجحين, ومعاقبة الخاسرين.
 يجب على الخاسرين الرضى بقدرهم، والتسليم بدلا من التمرد أو محاولة التغيير.

و من خلال هذه النتائج، يمكن للقارئ الكريم أن يتلمس بسهولة سيطرة النظرة المادية البراجماتية على هذه المواد، والتي تقدم على أنها ليست إلا للترفيه والتسلية، في حين يؤكد الباحث الأمريكي "هربرت شيلر" على "أن البرامج الترفيهية هي في الواقع أشكال تربوية... وأشكال توعية أيديولوجية"، ويؤيده "ميلفين ديفلير" في قوله: "يمكن رؤية الاعتماد القوي لوسائل الإعلام على النظام الترفيهي بسهولة أكثر في تعديل القيم والقواعد السلوكية" .

يقول المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي: "إن الولايات المتحدة ممثلة في شركاتها الكبرى متعددة الجنسيات تسيطر على العالم وتسيره كيفما تشاء، وتخطط مستقبله وفقاً لأهوائها دون اعتراض يذكر".
ويستغل الأمريكيون هذه القدرة الهائلة لوسائل الإعلام في خدمة مصالحهم، خصوصاً إذا علمنا أن الولايات المتحدة تمتلك اليوم 56% من بنوك المعلومات في العالم، بينما تعود نسبة 27% منها إلى دول الاتحاد الأوربي، و12% إلى اليابان، فيما تبقى نسبة 1% فقط لدول العالم النامي مجتمعة.

ويتمثل هذا التأثير في وصف وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "جورج شولتز" لتقنية البث المباشر "بأنها أنجع من أسلحة نووية عديدة لغزو الكتلة الشرقية، وإن شعوب أوربا الشرقية ثارت على الشيوعية لأنها تمكنت من التقاط برامج التلفزيون الغربي والأمريكي".

الانحطاط الثقافي في عصر العولمة:

يقول روجيه غارودي: "إن القوة الاقتصادية الأمريكية تحسد القوة الثقافية الأوربية في محاولة منها للانفراد بالرفض والقطيعة، وباستخدام الابتزاز والإرهاب الفكري يقوم الأمريكيون بإقحام ثقافتهم الرخيصة ضمن ما يسمى بالحداثة، في الوقت الذي يقومون فيه بقذف رموز الثقافة الأوربية بالعبث والتخلف".
لقد أدرك المستثمرون الأمريكيون مدى الإقبال العالمي على الثقافة الرخيصة، وأن الناس عموما يميلون إلى العرض الإعلامي الذي يضمن لهم إشباع قدر كاف من غرائزهم، وإمضاء المزيد من الوقت في سبيل التسلية، فبينما تنفق الحكومات الأوربية الأموال الطائلة لدعم مبدعيها من الفنانين والشعراء والمخرجين المسرحيين والسينمائيين، أوكلت الولايات المتحدة مهمة اختيار ونشر ثقافتها إلى عمالقة السينما في هوليود وشركات الإعلان في مانهاتن.

وفي ظل الليبرالية المطلقة التي لا تعرف إلا الربح، والبراجماتية التي تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، يقوم هؤلاء بدراسة أذواق الشريحة الأوسع من المستهلكين، في العالم كله، ثم تحديد المنتجات الأكثر رواجا وربحية، وهكذا يصبح كل من فان دام ورامبو وشاكيرا ومايكل جاكسون نجوما يحملون شعلة الثقافة الأمريكية إلى العالم، ويمتصون من خلال منتجاتهم أرباحا طائلة.

يقول "ستيفن هاينرمان" المحاضر في دراسات الاتصالات في أحد جامعات كاليفورنيا: " لو تصورنا أن هناك شخصين، أحدهما مسافر والآخر من أهل المكان، قد جلسا ليكتب قائمة بأكثر الأبطال شعبية، فلن يكون مثيرا للدهشة أن كلتا القائمتين بهما الأسماء نفسها من أبطال الأفلام ونجوم الموسيقا وعمالقة الرياضة وشخصيات البرامج التلفزيونية" وهذا أمر طبيعي جدا في عصر العولمة، حيث يتحول عدد من أبناء الطبقات الوسطى أو المسحوقة إلى نماذج مثالية للجنس البشري، بعد أن يتم تصنيعها بدقة خلف الكواليس، عبر محترفين في انتقاء النجوم وتحويلهم إلى كائنات أسطورية.

وعبر الحملات الإعلانية الضخمة، وكافة وسائل الإبهار والتزييف، يصبح هؤلاء النجوم المثل الأعلى للأجيال الشابة حول العالم، ويتم تقديم نمط معيشتهم بأدق التفاصيل لجماهير المعجبين، إذ بات من الممكن –وعبر شبكة الانترنت- الإجابة عن أسئلة كثيرة حول أوضاعهم الاجتماعية، ومواعيد نومهم و استيقاظهم، وأطباقهم المفضلة، فضلا عن تفاصيل نعفّ عن خدش حياء القارئ الكريم بالتعرض لها!
ولعل المشكلة الكبرى في هذا السياق، هي أن هؤلاء النجوم ليسوا في الحقيقة أهلا لاعتلاء هذه القمم التي صعدوا إليها على أكتاف ملايين المعجبين المسحورين، فكثيرا ما تكون هذه الأوساط التي يعملون في دهاليزها ملأى بالفضائح ومواطن العار، إذ تفاجأ الملايين من معجبي نجم الروك آند رول الأمريكي "إلفيس بريسلي" بأنه كان مدمنا على المخدرات قبل أن يلقى حتفه في مقتبل العمر.
وإن كان ذلك قد حصل في الستينات من القرن الماضي، فإن الشعب الأمريكي اليوم بات يتقبل فضائح النجوم بشكل أكثر تحررا، ويرفعون من شأنهم ليتربعوا في أعلى المراكز الاجتماعية، وبذلك لا يشكل فوز نجم أفلام الحركة "أرنولد شوارزنيغر" بمنصب حاكم ولاية كاليفورنيا - والتي يعتبر اقتصادها كولاية مستقلة في المرتبة السادسة أو الخامسة عالميا- أي مفاجأة، بالرغم من ذلك الكم الهائل من الفضائح الأخلاقية التي نشرها منافسوه عبر حملاتهم الدعائية، إذ يكفي مزج نجوميته الساحقة بثروته الطائلة، ليحصد أكثر من نصف أصوات الناخبين، ويصبح حاكم أغنى الولايات الأمريكية وأكثرها سكاناً .

لقد أثرت هذه النظرة القاصرة للثقافة على مجمل المجالات الثقافية والفنية في العالم، ولا تقتصر أسباب ذلك على المنظور الأمريكي التجاري للثقافة، بل إن هذا المنظور ما كان ليجد طريقه إلى عقول الناس ما لم تكن البيئة الاجتماعية ملائمة لذلك، ويمكننا القول بأن الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من انهيارات وتداعيات للأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية، قد أثرت بوضوح على عقول الكثير من الأوربيين والأمريكيين، والذين لم يجد الكثيرون منهم سبيلا للتعبير عن سخطهم وانعدام ثقتهم بمجتمعاتهم إلا بنقل أفكارهم الهاربة من جحيم الواقع المرعب إلى خيال واسع من العبث واللامعنى، فعندما أقامت فرنسا - على سبيل المثال- أول نصب للجندي المجهول، احتج الفنانون السورياليون على ما اعتبروه نفاقا، وافتتحوا "مبولة" وسط باريس كرمز لانهيار الحضارة، في الوقت الذي قام فيه "ماليفيتش" بعرض لوحته: "مربع أبيض فوق خلفية بيضاء"!
وتلا ذلك عدد من الظواهر "الفنية" الأكثر طرافة، حتى أصبح الفن في أوربا بابًا واسعا للعبث، حيث لم يعد مقتصرا على أصحاب المواهب الفذة، فهاهو "جاكسون بولوك" يصرّح بأنه يترك الدور الأكبر للصدفة, إذ كان عمله "الفني" يقتصر على صب الألوان على اللوحات المفروشة على الأرض, ثم المشي عليها بعد انتعاله لأحذية مثقوبة! ، في الوقت الذي أرسل فيه "مارسيل دوشام" - عام 1917- "نافورة" إلى معرض الفنانين المستقلين في نيويورك، والتي لم تكن في الواقع إلا (مبولة)، بعد أن وقع عليها باسم مستعار "R.MUTT "، وعندما رفض المعرض هذه "التحفة الفنية" ، برّر الرجل موقفه بأنه ليس بالضرورة للفنان أن ينجز عمله بيده، بل يكفي أن يختار أي عنصر جمالي من عناصر الحياة اليومية ثم إبرازه بشكل جديد، بعد الاستغناء عن وظيفته الأصلية. وقد مهد ذلك لظهور مدرسة جديدة للفن أسماها أصحابها "دادا" وهي كلمة تعني الحصان الخشبي الصغير‍!

وهكذا يعترف الفنان الفرنسي بوفيه بأن "الجهل في الرسم قد أرسيت قواعده، وكلما كان الفنان جاهلا اعتبروه رائدا"، فيما يلخص أحد تجار اللوحات المعاصرين هذه القضية بقوله: "يجب أن نعلّم مقتني وجامعي اللوحات إلقاء اللوحة في صندوق القمامة حين تصبح قديمة، مثلها مثل السيارة أو الثلاجة, عندما تأتي لوحات أخرى جديدة لتحل محلها" ، مما لا يدع مجالا للشك بأن الفن قد تم تحويله، وبشكل كبير، إلى مجرد سلعة، يتحدد سعرها وفقاً للعرض والطلب، والأمر ذاته ينطبق على كافة مجالات الفنون والثقافة الأخرى.

ويذكر أن الولايات المتحدة كانت قد انسحبت من منظمة اليونسكو قبل عشرين عاما، في عهد الرئيس ريغان، احتجاجا على مواقف أمينها العام "مختار أمبو" والذي شن حملة واسعة على ما أسماه بالخلل في المنظومة الإعلامية الدولية، تزامناً مع صعود أصوات الكثير من المفكرين الغربيين منددين بالغزو الثقافي الذي تمارسه الولايات المتحدة على دول العالم وخاصة تلك النامية منها. وقد عادت الولايات المتحدة مؤخرا إلى المنظمة الدولية بإعلانها ـ وعلى لسان قرينة الرئيس الأمريكي "لورا بوش" ـ أن هذه المنظمة قادرة من خلال إرساء قيم التسامح ومحاربة الجهل على القضاء على الإرهاب في العالم! لتعطي بذلك دليلا واضحا على أن المفهوم الأمريكي للثقافة يقوم على تحقيق المصالح الذاتية دون أي شيء آخر.

صراع الثقافات:

مع انتهاء حقبة الحرب الباردة في مطلع التسعينات، وانهيار الكتلة الاشتراكية الشرقية، استأثرت الدول الرأسمالية الغربية - وعلى رأسها الولايات المتحدة- بقيادة العالم، واختارت له نظاما شموليا أسمته بـ "النظام العالمي الجديد"، يرتكز في وجوده واستمراره على تقسيم جائر لخيرات ومقدرات العالم، تكون حصة الأسد فيه لخمس سكان المعمورة، بينما تقتات الأخماس الأربعة الأخرى على الفتات، فقط لكونها قد خلقت في عالم "الجنوب" حيث تسود مظاهر الجوع والفساد والحروب والنعرات الأهلية والطائفية، وغيرها، وكأنها قدر محتوم.

ولأجل تعليل هذا "القدر"، قام الباحث الأمريكي - الياباني الأصل- "فرانسيس فوكوياما" بوضع نظريته الشهيرة حول ما أسماه بنهاية التاريخ، معتبرا أن جدلية التاريخ تفرض على العالم الوصول إلى هذه النهاية المحتومة، حيث تنتصر الديمقراطية الغربية القائمة على الليبرالية المطلقة، وتنهار جميع الأيديولوجيات الأخرى لعدم مواءمتها لمتطلبات التطور الإنساني الذي وصلت إليه البشرية، وكأن البؤس الذي يرزح فيه ثلاثة أرباع سكان العالم ليس إلا نتيجة لعدم قدرتهم، أو عدم قابليتهم بالأحرى، لانتهاج النهج الحضاري الغربي الليبرالي.

وبعد ثبات فشل هذه النظرية على أرض الواقع خلال فترة قصيرة من ظهورها، تقدم "صاموئيل هنتنجتون" بنظريته الشهيرة "صراع الحضارات"، لسد الثغرات التي غفل عنها زميله، واعتبر أنه من الضروري للحضارة الغربية, لكي تحافظ على سيادة العالم، أن تقوم أولا بتصفية جميع خصومها، وعلى رأسهم بالطبع "الحضارة الإسلامية" .
ولكن هذه النظرية أيضا سرعان ما ثبت تهافتها الفكري وعدم واقعيتها، فهي ليست إلا نتيجة لتعصب قومي سياسي ، نظر له باحث استراتيجي أبعد ما يكون عن الإلمام بالحقائق العلمية المعروفة بالبداهة. فالحضارة الإنسانية - كما يقر المفكر السعودي تركي الحمد- ليست إلا كلاً واحداً لا يتجزأ في جوهره، وهي عبارة عن تراكم علمي وثقافي للحضارات الإنسانية المتعاقبة، والتي تساعد كل منها في نقل التجارب والمعارف التي اقتبستها عن أسلافها من الحضارات الأخرى وقامت بتوطينها والإضافة إليها، ثم توريثها للحضارات التي تعقبها لاستمرار المسار التصاعدي للحضارة البشرية.

وعليه فإن الصراع الذي كان ولا يزال قائماً بين معظم الجماعات البشرية منذ فجر التاريخ الحضاري للإنسان وحتى اليوم، ليس إلا صراعا بين الثقافات, وهو مبني على التباين والتضاد بين القيم والمعتقدات التي تقوم عليها، والتي تمثل بمجموعها الوعي الجماعي الذي يعبر عن هوية هذا المجتمع أو ذاك، وهي كما نعلم خصوصية ذات قيمة عالية لدى الفرد والمجتمع، ومستمدة من الغريزة الإنسانية في التعبير عنها والدفاع عن وجودها واستمراريتها.

والغريب في الأمر أن الصراع الثقافي لم يعد مقتصرًا فقط على ما هو قائم بين الدول النامية وتلك المتقدمة، بل بات الكثير من المثـقفين والسياسيين في الدول المتقدمة نفسها قلقون حيال الغزو الذي ينال من ثقافاتهم المحلية، فدولة غنية ومتقدمة مثل كندا، على سبيل المثال، لا تعدو أن تكون - وحسب تعبير أحد كبار مسؤوليها- سوى نملة صغيرة أمام الفيل الأمريكي الضخم، بينما يشير أحد الباحثين الكنديين إلى أن المواطن الكندي، وتحت تأثير المسلسلات والأفلام البوليسية الأمريكية، لم يعد قادرا على التمييز بين قوى الجندرمة الكندية والشرطة الفدرالية الأمريكية، بل إن مبادئ القضاء الكندي نفسه لم تعد واضحة أمام طغيان النظام القضائي الأمريكي, الذي بات حاضراً بشكل شبه يومي على الشاشات الكندية، مما يهدد بفقدان الهوية الكندية لدى المواطنين، وخاصة لدى فئات الشباب والمراهقين.

وكذلك تعاني النمسا من عدم قدرتها على وضع سياسة اتصالية تعزز خصوصيتها الثقافية أمام الكم الهائل من المعلومات التي تقذف بها وسائل الإعلام الأجنبية، ويكاد الأمر ذاته يتكرر لدى دول أوربية أخرى مثل بلجيكا، هولندا، سويسرا، أسبانيا والبرتغال.
بينما أبدت الحكومة البريطانية تخوفها من تحول المشاهد البريطاني إلى البرامج الأوربية التي تطلقها (16) قناة أوربية مختلفة من بروكسل (عاصمة الاتحاد الأوربي) عبر قمر "استرا" مما يهدد ثقافة المواطن الانكلوسكسونية.

وأما في فرنسا، فالقلق الشعبي والرسمي على الثقافة الوطنية بات من أولويات هموم المواطن العادي، فبعد أن عبر الرئيس الفرنسي "ديستان"، في عام 1976، عن قلقه إزاء تراجع الإنتاج التلفزيوني المحلي أمام المنافسة الأمريكية، بدأت التصريحات الرسمية والإعلامية بالتنديد بهذه الظاهرة، فكان أن حذّر مجلس الشيوخ من أخطارها في تقرير صدر له عام 1979.

ثم بدأت بعض الصحف الفرنسية - منذ مطلع الثمانينات- بعرض سلسلة من المقالات حول الغزو الثقافي وأخطاره، كان من أهمها مقال رئيس تحرير "اللوموند" في العدد الصادر بتاريخ 4/7/1980 تحت عنوان "حيث تنتصر أمريكا". كما باتت تصريحات وزير الثقافة الأسبق "جاك لانغ" مزعجة لدى بعض المسئوولين الأمريكيين لجرأتها البالغة، والتي مهدت لصدور العديد من الكتب التي تبحث في مستقبل الثقافة الفرنسية في ظل النظام العالمي الجديد الذي أعلنت الولايات المتحدة قيامه - في مطلع التسعينات- تحت قيادتها، وكان من أشهر هذه الكتب: كتاب "الحرب الثقافية" لـ"هنري جوبار"، و"فرنسا المستعمرة" لـ"جاك تيبو".

ولعل من أكثر التصريحات وضوحاً، ذلك الذي أطلقه وزير الخارجية الفرنسي الأسبق "كلوشيسون" مخاطبا نظراءه من العرب في مؤتمر أقيم في آذار عام 1993 قال فيه: " إننا نحن، العرب والفرنسيين، نواجه مأزقا متشابها بفعل الأمريكيين، وما علينا إلا أن نوحد جهودنا لإيجاد حالة توازن وتعاون وانفتاح متزن، بدلاً من التقوقع أو الاستمرار فقط بالتذمر، وإنما يجب أخذ المبادرة قبل فوات الأوان".
ونتساءل هنا: إن كانت هذه الدول الأوربية سالفة الذكر - والتي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الغربية التي لا تجد ضيرًا في فرض ثقافتها على بقية شعوب العالم- وبكل ما تملكه من مقدرات ثقافية وحضارية وبشرية، تبدي كل منها تخوفها على ثقافتها المحلية، أمام غزو ثقافات الدول الصديقة التي تشاركها في نهجها الحضاري, فكيف يكون إذن حال دول العالم النامي؟ وكيف يمكن لهذه الدول أن تدافع عن ثقافاتها الوطنية، مع انشغالها بهمومها التنموية، وديونها الخارجية، وصراعاتها من أجل البقاء؟

نستطيع اليوم أن نجزم بأن الدول النامية – أو ما يسمى بدول العالم الثالث- لم تعر ثقافاتها المحلية الكثير من الاهتمام خلال العقود الماضية ، لثـقل مهامها التنموية التي بدأت تنوء بحملها منذ الاستقلال، فضلا عن الصراعات الدموية التي عصفت بكثير منها، مما جعل من قضية أمنها الوطني في رأس أولوياتها.
وكانت حركة دول عدم الانحياز، التي تأسست عام 1961، قد جعلت من تحقيق توازن اقتصادي وسياسي يضمن لدول العالم الثالث حقوقها المشروعة، في عالم يحكمه الصراع بين الكتلتين العالميتين (الرأسمالية والشيوعية)، هدفاً أساسياً طغى في البداية على كافة المجالات الأخرى، فلم يرد على سبيل المثال أي ذكر للتعاون الثقافي والعلمي بين هذه الدول، أو أي اتفاق دولي لحماية ثقافاتها الوطنية، في المؤتمر الأول للحركة في بلغراد.

ولكن التطور العالمي المذهل في مجالات العلم والتقنيات ، وتزايد اعتماد الاقتصاد العالمي على منتجات التكنولوجيا الراقية, والانتشار السريع للثقافة الغربية في أنحاء العالم، مدفوعة بتفوقها الكبير في قطاع المعلومات والاتصالات وسيطرتها على الأقمار الصناعية التي تحيط بالعالم من كل جوانبه، جعل كل ذلك من قضية العلم والثقافة في الدول النامية أمرا بالغ الأهمية، مما دفعها لعقد الاجتماع الأول لخبراء التربية والثقافة والإعلام لدول عدم الانحياز في مكسيكو عام 1982 - قبل انعقاد قمة دلهي لدول الحركة في عام 1983- وذلك بهدف بحث سبل التعاون الثقافي فيما بينها، وحمايتها مما سمي بهواجس "استلاب الشخصية"، ولم يتردد حينها وزير الثقافة الفرنسي الأسبق "جاك لانغ" - الذي دعي إلى الاجتماع - في التنديد بما أسماه بالإمبريالية الثقافية الأمريكية .

ومع تزايد مخاوف الدول النامية من الغزو الثقافي الذي تطبقه الدول المتقدمة في عالم شديد التباين بين شماله وجنوبه، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة - الأسبق- "خافيير بيريز ديكويلار" الفترة الواقعة بين عامي (1988-97) العقد العالمي للتنمية الثقافية بالاشتراك مع مؤسسة العمل الثقافي الدولي المشترك (اليونسكو)، وقال في خطابه آنذاك: "إن مجهودات التنمية أخفقت لأن أهمية العنصر البشري، ذلك المزيج المعقد من العلاقات والمعتقدات و القيم والدوافع الذي يكمن في قلب الثقافة، لم يقدر حق قدره في كثير من مشروعات التنمية" ، وكأنه بهذا يشير إلى ذلك التناقض الواقع بين تبني كل من مقولتي التنمية الشاملة وحوار الثقافات، وبشكل مضمر.

ويتضح لنا هذا التناقض- وبعيدا عن التناقضات الفلسفية- مع الكشف عن تلك العلاقة التي لا يمكن تجاهلها بين التنمية الشاملة من جهة وقوانين العرض و الطلب وآليات السوق من جهة أخرى والتي باتت دستورا مقدسا يحكم علاقات البشر فيما بينهم سواء داخل المجتمع الواحد أو في منظومة العلاقات الدولية بأوسع أشكالها. وهو ما يتناقض بالضرورة مع الدعوات العالمية المتزايدة نحو إحلال حوار الثقافات - أو لنقل كما هو شائع- كبديل عن حوار القوى المتصارعة على المصالح.
وكان تقرير اللجنة العالمية للثقافة و التنمية التي ترأسها ديكويلار بنفسه عقب انتهاء مهمته شاهدا كبيرا على هذا التناقض، ودليلا على فشل عالم القرن العشرين الموغل في التحضر، في تجاوز تلك العقبات العنصرية و المذهبية التي طالما وقفت عائقا في وجه أي حوار أو تعاون بين الأمم منذ سطّـر الإنسان تاريخه المتخم بالصراع والحروب.

وقد عبر د. جابر عصفور عن ذلك واضحا في تصديره للترجمة العربية لهذا التقرير، والتي صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر بقوله: "ما من أمل في سلام البشرية ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم بدعوى أن الطبيعة والتاريخ ميزاها على غيرها بما لا يمتلكه سواها" .
إن هذه الكلمات تلخص طبيعة ذلك "الحوار" الذي تفرضه العلاقات الدولية اليوم في ظل العولمة وباختصار شديد، ويبدو أنها لا تحتاج إلى المزيد من التعليق.

الثقافة العربية الإسلامية وتحديات المرحلة

بالرغم من كل ما سبق ذكره من مظاهر الغزو الثقافي، الذي تتعرض لـه معظم شعوب العالم، والفقيرة منها والعربية- الإسلامية على وجه الخصوص، فإنه لا يزال هناك الكثير من المثقفين العرب يرفضون هذا الطرح جملة وتفصيلا، معتقدين أن هذا التوسع الثقافي الغربي -الأمريكي- إنما يتم وفق آليات السوق الحرة التي تسمح للجميع بالمنافسة، وأن هذا الشعور ليس إلا نتيجة لشيوع "نظرية المؤامرة" وسيطرتها على فكر المواطن العربي، الذي اعتاد على إلقاء اللوم على الآخرين، للتملص من عبء المسؤولية. كما يعتقد هؤلاء بأن ما أسميناه بالغزو الثقافي ليس موجها بطبيعة الحال إلى أمتنا العربية ـ الإسلامية دون غيرها، بل لا يعدو أن يكون نتاجًا تجاريا يعرض في كافة الأسواق العالمية، كما أن الأثر السلبي لهذا الناتج على المجتمعات الغربية نفسها، يعد في رأيهم دليلا كافيا لإثبات عدم وجود أي نية مسبقة لديهم في تقصد الإساءة إلى مجتمعاتنا أو ثقافتنا المحلية.

وبما أن مناقشة هذا الرأي خارج موضوع البحث، فإنه لا يسعنا - مهما كان موقفنا- إلا أن نقرّ بوجود تفاوت ثقافي كبير (فجوة) بين عالمنا العربي الإسلامي من جهة وبين العالم الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة من جهة أخرى، وأن الغرب قد أحسن استغلال هذه الفجوة لصالحه، خلال السنوات الأربع الأخيرة بالذات، أمام ضعف وتخاذل عربي وإسلامي مذهل.

وعلى هذا، فإن مناقشة حقيقة وجود هذا الغزو الثقافي المتعمد وطبيعته، لم تعد ذات أهمية تذكر، أمام الشعور الطاغي بأن غبنًا كبيرًا قد لحق بأمتنا، وخصوصا بعد أن اتضح لنا الكثير مما كان مسكوتًا عنه قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حتى باتت دعوات مواجهة هذا الغزو شائعة اليوم بين كافة فئات المجتمع، من المثقفين وصناع القرار إلى عامة الناس وأقلهم ثقافة، وأصبح من الطبيعي أن تتعرض وسائل الإعلام العربية على اختلافها لهذا الموضوع، مستعرضة آراء المثقفين والسياسيين الذين بات معظمهم يصرّ على أن الوقت قد حان بالفعل للتصرف حيال هذا الغزو - أو سمّه ما شئت- إلا أن المواطن العادي من حقه أيضا، والحال هذه، أن يقول: سمعنا جعجعة ولم نر طحناً.

لقد بات من الواضح تماما أن هذا المواطن، المنتمي غالباً إلى أفراد الطبقة الوسطى، لم يعد معنيا بذلك القرار الذي ما زال مثقفونا بصدد البحث فيه، إذ أن هذه الأوساط المثقفة ما زالت تعاني من عزلتها المزمنة، وتشتكي من فقدها لقنوات الاتصال ووسائل الحوار الملائمة لعامة الناس، بل إن المثقف العربي لا يزال مصراً على الالتزام باغترابه الثقافي، ليضمن لنفسه الإبقاء على مسافة كافية تفصله عن العامة، وتحفظ له المكانة الاجتماعية المرموقة على قمة برجه العاجي.
أما وسائل إعلامنا العربية, والتي تتمثل أساسا بالقنوات الفضائية لغياب أو ضعف الوسائل الأخرى، فلم تبرح بعد مكانها الذي وجدت فيه، بل لا تزال في حيرة من أمرها حيال توفير المواد الإعلامية الكافية لشغل مدة البث التي تملأ ساعات اليوم والليلة كاملة، وهي غالبا ما تتم تعبئتها بهز الأرداف والأكتاف، أو بإغراق المشاهد بالإعلانات، أو بالبرامج والأفلام المستوردة أو المقلدة، والتي فرغنا للتو من محاولة إيضاح العلاقة بينها وبين أرباب الغزو الثقافي، فضلا عن برامج التسلية والمسابقات واستهلاك الوقت، والتي لا هم لها سوى استدراج المشاهد للمزيد من الاستهلاك عبر الإعلانات التجارية أو تسطيح مستواه الأخلاقي والفكري، لتكون بذلك شريكة في هذا الغزو بشكل أو بآخر، وربما دون أن تسيء النية.

إن الشباب العربي اليوم ـ بصرف النظر عن المستوى الثقافي الذي وصل إليه- ونتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية والتنموية في الكثير من الدول العربية، أو على الأقل لعدم إحرازها للتقدم المطلوب لمواكبة تحديات العصر، وتفاقم البطالة، بات يعاني من مشاعر الإحباط واليأس من الحملات الأجنبية-والتي غالبا ما تجد لها أصداء داخلية- والتي تتزامن مع الجمود الاجتماعي، والتراجع في الحضور السياسي والثقافي على الساحة الدولية، الأمر الذي أدى بطبيعة الحال إلى ضياع الهوية الثقافية لهذه الفئات الشابة، وتصاعد مشاعر السخط على عموم الأوضاع المعيشية و الاجتماعية السائدة. ومما يزيد الأمر سوءاً ارتفاع وتيرة التوتر بين الداعين إلى ضرورة الإصلاح والتطوير من جهة وبين المناهضين لهذه الحركة بدعوى الحفاظ على الأصالة وقدسية التراث.
ولا شك في أن هذه العوامل مجتمعة قد تشكل لدى الكثير من الشباب دافعا قويا للنفور من كل ما يربطهم بتراثهم وعقيدتهم ووطنيتهم، على اعتبار أن هذه المفاهيم "التقليدية" تناقض توجههم التجديدي، وتدفعهم لتحميل مجتمعاتهم وظروف معيشتهم المسؤولية كاملة تجاه مشكلاتهم، ويدعمهم في ذلك كما هو واضح، التوجه العالمي المحموم لتعميم أنماط معيشية مخالفة تماما لما اعتادوا عليه.
وعلى الرغم من ذلك، تشكل الأسباب السالفة نفسها دوافع لاتخاذ مواقف مضادة تماما لتلك التي ذهب إليها سابقوهم، إذ يصبح ذلك الغزو الخارجي على رموز ثقافتهم ـ الغالية على قلوبهم- سببا مباشرا للتمسك بها، بل ويقوي إيمانهم بأن الخلاص من مشاكلهم المستعصية لا يتم إلا بالثورة على واقعهم المؤسف، لتغييره نحو الأفضل. ومما يزيد الأمر سوءاً أن يسود لدى هؤلاء الشباب اعتقاد بأن جميع من حولهم متورط بشكل أو بآخر في عملية "المؤامرة" وأن الإصلاح والتغيير لا يتم إلا بشكل راديكالي وعنيف، إذ يعني الانتظار لديهم المزيد من الاستسلام والتخاذل.

ووفقا لهذه الآلية يبرز لدينا اتجاهان متناقضان، أحدهما موغل في انسياقه نحو الغرب، والآخر غارق في التطرف، وهنا تأتي وسائل الإعلام لتلتقط أصوات كل من الاتجاهين ـ كل حسب تعاطفه مع الآخر- وتحاول إخراجه إلى السطح مع كل وسائل الإبهار والجذب الجماهيري الضرورية, في الوقت الذي يخسر فيه المعتدلون (الوسط) المزيد من نقاط قوتهم – على الرغم من كونهم الأغلبية الساحقة- إذ لا يستبعد مع مرور الوقت أن يتسرب الكثير منهم إلى هذا الاتجاه أو ذاك، حسب تصاعد صوته وخفوت الآخر، فيما لا يزال الغزو الخارجي، وعلى الرغم من كل ذلك، مستمرا.

أمام هذا الاستقصاء لواقعنا العربي والإسلامي، فإن محاولة إيجاد حل سليم وناجح لا يتم إلا بوضع اليد أولا على مشكلاتنا الداخلية، ثم محاولة إبراز التوجه المعتدل كحل وسط لكافة المشاكل الداخلية و الخارجية على السواء.

وهذا لا يتم بالطبع اعتمادا على جهود الحكومات أو المنظمات فقط، وإنما بالإيمان الشعبي الواسع والقناعة التامة بأهمية الاعتدال والوسطية كمنهج علمي وعملي سليم لإخراج المجتمع من أزمته الخانقة، كخطوة أولى على طريق المواجهة.

حينها تعود مسألة التصدي لهذا الغزو أمرا طبيعيا تفرضه الظروف المعيشة، إذ أن الفرد الذي يجد في هويته الثقافية والدينية والاجتماعية، ما يعزز أصالته ويحفظ له كرامته ـ على الصعيدين الفردي والاجتماعي- سيكون مؤهلا بالتأكيد لمواجهة هذا الغزو، معتمدا على ذاته ومدافعا عن قناعاته، دون أن ينتظر من الآخرين الاقتناع بصحة موقفه والوقوف إلى جانبه، ودون أن يسارع أيضا إلى دفعهم للتعاطف معه بأي وسيلة كانت.

وأخيرا فإن العولمة واقع لا يجدي معه أسلوب الرفض، بل هي تيار بدأ بالاقتصاد وامتد إلى السياسة و الثقافة، وأصبح حقيقة نعيشها كل يوم، فلا يسعنا والحال هذه أن نعتقد بأن تضييق الخناق على قنوات الوصل بين ثقافتنا وأي ثقافة أخرى وافدة سيكون حلا ناجعا، فلم يعد هناك مجال بعد اليوم للانعزال والتقوقع، كما لا يصح في المقابل إطلاق العنان لكل ما هو وارد بعُجره وبُجره بدعوى الانفتاح والتحرر. فالشباب العربي اليوم يتوقع منا تقديم البديل الملائم لكافة رموز الثقافة الأجنبية التي يحرم منها، ولا نعتقد أن عقول الشباب عاجزة عن إبداع هذا البديل في حال توفر البيئة الملائمة، وذلك ضمن حدود الشريعة الإسلامية، وأعراف المجتمع الشرقي وأخلاقياته.

وفي ختام هذا الطرح، فإنه يجدر بنا أن نجعل الكلمة الأخيرة للسيد عمرو موسى، الأمين العام للجامعة العربية في قوله : "المثقفون اليوم هم جنرالات المعركة المقبلة وقادتها ومحددو نتائجها، لقد بات عليهم من الآن فصاعداً القيام بدور محوري في معركة الدفاع عن الأمة وحضارتها" .

أما السؤال عن دور مثقفينا فيبقى معلقا، وحبذا لو كان الجواب عمليا هذه المرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى