الاثنين ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠١٩

إلى من سميتها.. غاليتي

محمد هيثم جمعة

تخيرت مرة لؤلؤة من لآلئ صندوقي الذي أختزن فيه درر ولآلئ ما كتب وما جادت به قريحة كاتبه، وامتلأت به نفسه كامتلاء الغالية بعطرها حتى إذا رفع عنها الغطاء فاح أريجها وانتشر عطرها يعبق في الأجواء فينشر من أريجه وجماله على الكون والحياة عطراً وجمالاً إذا لم يرتق إلى الكمال فهو يأبى إلا أن يكون رديف الجمال الخالص كله.

أقول لقد تخيرت بين هذا الكتاب مقالة شدني إليها عنوانها، وجعلني أغوص في أعماقها ورونق تراكيبها وجمال تعابيرها الآسرة لقد كان عنوانها "قبح جميل" وحسبك من تنافر اللفظين انسجاماً وإغراء لقارئ أن يقرأ ولمن تأهب للإبحار أن ينزل أشرعة الاهتمام والدراية والفطنة والإحساس المرهف والذوق الرفيع ومن بعدها فليبحر..

أبحرت وبدأت أجني من ثمار كلماتها اليانعة المتعة والأنس والطرب، ثم أخذت أتنقل من فقرة إلى فقرة أتفيأ ظلال إبداعها وأستروح نسمات معانيها المونقة..

(سوداء ولودٌ خيرٌ من حسناء لا تلد) هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذه العبارة تبدأ قصتي.. يا غاليتي.

كنت أقرأ هذه العبارة على ظاهرها ولم أكن قد أبحرت بعد في بحر هذه المقالة.. لكن ما فاجأني هو ما جاء بعد، كنت أظن أن القصد من ذلك كله ، والهدف من الاقتران بالمرأة هو الذرية فالتي لا تلد تكون كشجرة تحمل في ظاهرها معنى الحياة لكنها تعيش الموت بكل أشكاله في داخلها، لذلك كانت السوداء خير من الحسناء والفضل بين الاثنتين هي القدرة على إخراج حياة من حياة، كالفضل بين الشجرة تحمل الحياة في ظاهرها وبين الشجرة تخرج الحياة منها ولا يكاد يفصح مظهرها على وجود شيء منه.

لكن الذي لفت نظري في الكلام هو التسبيحات الملائكية التي افترت عنها شفاه الشيخ المفسر لهذا الحديث، حيث قال : ((إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد السوداء بخصوصها، ولكنه كنى بها عما تحت السواد، وما فوق السواد، وما هو إلى السواد، من الصفات التي يتقبَّحها الرجال في خلقة النساء وصورهن فألطف التعبير ورق به، رفعاً لشأن النساء أن يصف امرأة منهن بالقبح والدمامة وتنزيهاً لهذا الجنس الكريم، وتنزيهاً للسانه النبوي، كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: إن ذكر قبح المرأة هو في نفسه قبيح في الأدب، فإن المرأة أم أو في سبيل الأمومة والجنة تحت أقدام الأمهات، فكيف تكون الجنة التي هي أحسن ما يتخيل في الحسن تحت قدمي امرأة، ثم يجوز أدباً أو عقلاً أن توصف هذه المرأة بالقبح)) (1)

بهذه العبارات يا غاليتي كانت واحتي الأولى الذي جلست أتفيأ ظلال معانيها التي أخذت تولد في كياني معاني أكبر بكثير، وعندها – أي هذه المعاني – تجلت صورتك أمام عيني فأخذت تسايرني وترافقني في كل كلمة وفي كل سطر ترتع معي وتستروح معي.. ثم تستأنف مسيرها معي في الإبحار من جديد.. وكأن هذه العبارات أخذت تعطيني معاني مركبة من معاني وجودك معي ومرافقتك لي فكان سر جمالها وروعتها قبساً من سر جمالك وروعتك ثم استوقفتني فقرة أخرى قال فيها الشيخ المفسر في الحديث: "وأما في معنى الحديث، فهو (صلى الله عليه وسلم) يقرر للناس أن كرم المرأة بأمومتها، فإذا قيل: إن في صورتها قبحاً فالحسناء التي لا تلد أقبح منها في المعنى، وانظر كيف يكون القبح الذي يقال إن الحسن أقبح منه...!".(2)

ثم قال في فقرة أخرى: "فأكبر الشأن هو للمرأة التي تجعل الإنسان كبيراً في إنسانيته لا التي تجعله كبيراً في حيوانيته،.. إذ يجب على المؤمن الصحيح الإيمان أن يعيش فيما يصلح به الناس، لا فيما يصطلح عليه الناس، فإن الخروج من الحدود الضيقة للألفاظ، إلى الحقائق الشاملة، هو الاستقامة بالحياة على طريقها المؤدي إلى نعيم الآخرة وثوابها.."(3).

لقد أشرقت هذه الكلمات في روحي إشراقة الشمس على الكون والمكونات فأنارت هذه ما كان مظلماً في جوانب روحي كما أنارت تلك ما كان مظلماً في الكون.

نعم لقد أشرقت هذه الكلمات في روحي فسمت وارتقت مرتين مرة بسمو معانيها ومرة بسمو نفسي التي ارتقت وسمت برقتها وسموها، لقد جعلتني التفت إلى نفسي أكثر أرتب داخلها وما تنافر من تناسق أبعادها، تعود بعده شيئاً يصطلح عليه العقلاء بالنفس الراقية الصافية المترفعة عن زيف المادة إلى حقيقة الروح ورونقها كما نزلت من عند بارئها على الفطرة السوية.

نعم يا غاليتي كثيرة هي العبارات التي أبدع في تنميق كلماتها ودقة اختيارها كاتب القصة لكن من الأبدع الذي بهرني قوله: ((فأكبر الشأن هو للمرأة التي تجعل الإنسان كبيراً في إنسانيته، لا التي تجعله كبيراً في حيوانيته..)) وكأنه يقول إن حقيقة الإنسانية وحقيقة الرجولة لا توجدها إلا امرأة قد وجدت في نفسها معاني السمو والعلو فوق طبيعة المادة لتكون في طبيعتها الروحية المرتقية فوق الغريزة والبهيمية فتغدو حورية من الجنة نزلت إلى الأرض لتجعلها جنة، ولتجعل من الذكورة المحضة أطواداً من الرجولة الحقَّة، فتجعل الحياة تقوم على حقيقتين راسختين، حقيقة الرجولة التي تسمو فوق الشهوات، وحقيقة المرأة التي ترسخ في المرأة معنى الرقي والعفة والنقاء.

إن هذا ما جعلني أقف وقفة اعتبار وتفكير في مواقف مرت في حياتي أزنها وأدقق فيها علني أستطيع تحقيق أولى الحقيقتين، فأكون رجلاً تستحقه هذه الحياة ويستحقها.

إن الإنسان يعيش في هذه الحياة والأصل فيه الخير فبقدر ما يراقب تصرفاته ويتأنى في تربية نفسه وترويضها على الخير بقدر ما يمسكها على الرقي والسمو فقط.. وإن يتركها فإنها من شأنها الإنحدار والتهور فتهوي ويهوي معها حاملها؛ فإن لم ينتبه قبل الأوان هلك وهلكت معه وإن تنبه نجا ونجت بنجاته.

فأنا من بين الناس، حالي كهذه الحال لكن الله ألهمني وأرشدني ونبهني إلى أن الحياة لا تستقيم إلا ما استقامت معها الروح وسمت وترفعت عن دنايا الدنيا فأخذت أبحث عن كل ما من شأنه أن يروي ظمأ غراس روحي الصادية فأبحرت بين أمواج دستور حياتي وربوعه أجلو صدأ روحي وقتامة غرائز النفس وحظوظها، وبين ما كان سبيلاً للرقي بالروح إلى عوالم التجليات الإلهية والفيوضات الربانية.. أطهرها وأزكيها ما استطعت إلى ذلك لتكون قادرة على تحمل الفيض الإلهي والنور الرباني الذي أسأل الله أن يتجلى بكرمه علي.. كل ذلك وأنت تطوفين في عقلي فكرة من أفكار الحياة التي تضن بها الحياة فلا تخرجها إلى أهلها إلا مرة كل حين.. وفي قلبي خاطرة حب ورقي وعشق من خواطر القلب التي تذهله فيما لو استحكمت وتعلقت.. تطوفين دفقةَ مشاعر أثارت في الروح شفافيتها وفي النفس هدوئها وفي الحياة سكينتها.. دفقةً كشفت رقيها مرتين: مرة حين تخطت حدود حظوظ النفس إلى حظوظ الغير فا رتقت.. ومرة حين كشفت لي عن تهوري وقرب انحداري فنبهتني فارتقيت وفيها ارتقت مرة أخرى..

كيف لي أن أنظر إليك وأنا الذي قصرت همته وضعفت نفسه عن أن تدرك هذه الحقيقة من قبل فطاشت وتمردت وكادت تتخطى إلى المجهول.. فاعذريني يا غاليتي إذ لم أكن أمثل الرجولة بمعانيها الحقيقية في الوقت الذي كنتِ ولا زلتِ تمثلين المرأة الحقيقة بالحياة الجديرة بها في عقلها وقلبها معاً.. فاعذريني.. اعذريني.. اعذريني.

عوداً إلى ما كنت بدأته في إبحاري في قصة (قبح جميل) حيث إن تتمة القصة أن بطلها اقتنع وامتلأ قلبه من شرح الشيخ للحديث فلما أراد الزوجة الأم لم يحظ إلا بما كانت تفسيراً وتجسيداً حياً لمضمون حديث رسول الله صلة الله عليه وسلم.

ومما جعلني أستروح كثيراً وأستظل أكثر في ظلاله هي هذه الفقرة حيث يقول: ((قال مسلم – وهو بطل القصة -: ثم جلون ابنته عليَّ وقد ملأن عيني هرماً وموتاً وأخيلة شياطين وظلال قرود، فما كدت استفيق لأرى زوجتي حتى أسرعن فأرخين الستور علينا فحمدت الله لذهابهن، ونظرت.. ولما نظرتها لم أر إلا ما كنت حفظته عن الشيخ وقلت: هي نفسي جاءت بي إليها)) نعم لقد كانت تجسيداً للحديث وتوضيحاً ودليلاً على ما شرحه الشيخ عن معنى السوداء ولكن إلى هنا لم تكن إلا شرحاً مادياً لمعنى السوداء بيد أن لها شرحاً روحياً يجعل منها سيدة من النساء وحقيقة المرأة التي تليق بمعنى الحياة الحقيقي لا المرأة التي جاءت بها الحياة لتخدع وتهلك وتفتن.. وما يؤكد ذلك هو ردها على زوجها فانظري: ((قامت المسكينة وأكبت على يده وقالت: يا سيدي، أنا سرٌّ من أسرار والدي، كتمه عن الناس وأفضى به إليك إذ رآك أهلاً لستره عليه، فلا تخفر ظنه فيك، ولو كان الذي يطلب من الزوجة حسن صورتها دون حسن تدبيرها وعفافها لعظمت محنتي، وأرجو أن يكون معي منهما أكثر مما قصر بي في حسن الصورة، وسأبلغ محبتك في كل ما تأمرني، ولو أنك آذيتني لعددت الأذى منك نعمة، فكيف إن وسعني كرمك وسترك؟ إنك لا تعامل الله بأفضل من أن تكون سبباً في سعادة بائسة مثلي، أفلا تحرص يا سيدي على أن تكون هذا السبب الشريف..)) ثم قدمت له كيساً من النقود ليجمع معها ثلاثاً من الحرائر أو يشتري ما يريد من الإماء والجواري كل ذلك مقابل أن يستر عليها فقط.

لقد استطاعت بذلك أن تكشف عن سر جمالها الروحي الذي أبداً ما يظهر إلا ليرتقي بالقبح المادي إلى أعلى غايات الجمال وأقصى مداه.. كشفت بذلك أنها المرأة الجديرة بها الحياة.. المرأة التي تجعل الرجل عظيماً في إنسانيته كبيراً بمواقفه ورجولته..

وهنا يا غاليتي اكتشفت كم كنت اللؤم ذاته والحماقة عينها.. واكتشفت أني لست من تستحقه الحياة.. إذ لم أكن جديراً بأن أكون لها، لكنني أسلفت أن ثمة شمس أشرقت لتنير ظلام روحي وقد كانت وأنيرت تلك الزوايا المظلمة وقد أدركت كيف يمكن للرجل أن يكون رجلاً ترتقي به الحياة فيكون رجلاً فيها وبها.. كما أدرك بطل قصتنا حقيقة الرجل وكيف يكون رجلاً تفخر به الحياة فاسمعي أيتها الغالية ماذا كان رده عليها: ((لقد ملكت قلبي ملكاً لا تصل إليه حسناء بحسنها، فقلت لها : إن جزاء ما قدمت ما تسمعينه مني: والله لأجعلنك حظي من دنياي فيما يؤثره الرجل من المرأة، ولأضربن على نفسي الحجاب ما تنظر نفسي إلى أنثى غيرك أبداً)) (4) لقد كان بهذا تجسيداً لفكرة الرجولة الحقة مقابل فكرة المرأة الحقة لكنها فكرة لم تكن لتوجد لو لم يكن سبباً في وجودها فكرة المرأة الحقة..

وأنا أسعى لأن أكون تجسيداً للفكرة الأولى مقابل الفكرة التي تحملينها وتحسدينها فإن بلغت الغاية في ذلك فبقوة تجسيدك لفكرتك وإن قصرت عن الغاية فلأني لم أرتق إلى المستوى المنشود من الرفعة والعلو في فضاء الرجولة.

وللحديث تتمة، وتتمته أنها جاءت للدنيا بغلامين إنسيين إلا أن جمالهما كأنه انعكاس صورة ملكين سماويين، في رونقهما وحسنهما وبياضهما وبهائهما فلا تلفت العين عنهما حتى تعود إليهما مرة أخرى، حتى هذا الجمال لم يكن ليتحقق لو لم تكن هي بحق المرأة الحقة في الحياة فلقد قالت: ((أنها كانت لا تزال نتمنى على كرم الله وقدرته أن تتزوج وتلد أجمل الأولاد ولم تدع ذلك من فكرها قط، وألف لها عقلها صورة غلام تتمثله وما برحت تتمثله، فإذا هي أيضاً كان لها شأن كزوجها وكان فكرها عملاً يعمل في نفسها ويديرها ويصرفها)) (5).
يا من سميتها غاليتي.. لقد خضت عباب هذا الجمال الفائق والإبداع المونق والخيال الوارف.. وقد انتشيت وطربت بجماله أيما طرب لكني على ذلك، شعرت بالشجن والعواطف تعمل عملها في نفسي وروحي عملاً كان يكشف ويفضح ليعود فيخفي ويستر ولكن على شيء موصول بجمال الروح وجمال الطباع على ما اتصلا هذان بالجمال المادي الذي يجعل الحياة تفخر وتتيه، أعطت هذا الجمال وأخرجت للكون ما يسمو به وأخرجت للنساء حقيقتها متجسدة في امرأة واحدة.. هي أنت.

سموت وعلوت بسنا روحك الفياضة المضيئة وفاح أريج العفة والحشمة متمثلاً بحشمتك وعفتك فتاهت الحياة وتباهت وحق لها أن تتيه وتتباهى فقد أدت ما هو مطلوب منها أن تخرج للرجل ما يجعله رجلاً حقيقياً فتفخر مرة أخرى.. فما كان مِن سبيل لتحقيق ذلك إلا أن تخرجك أنت للحياة وللكون ولأكون أنا المحظوظ من بين الرجال فأفوز مرتين مرة بأني حزت نجمة في داري وأخرى إني تحقق بسببك فكرة أن تكون المرأة التي تجعل من الرجل كبيراً في إنسانيته لا كبيراً في بهيميته – هي أنت فلا غرو أنك جئت كغالية العطر المعتق، فاح أريجها فعم فضاءات السعادة والحبور والرونق والسرور ، فكنت حرية عندي أنا أن تكون غالية فأسرعت لأكتب إليك.. إليك يا من سميتك غاليتي.

وحي القلم : ج1، ص154.
وحي القلم : ج1، ص155.
المصدر نفسه : ص155.
وحي القلم : ج1، ص159.
وحي القلم : ج1، ص160.

محمد هيثم جمعة

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى