الاثنين ١١ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم محمد إبراهيم العريني

ابتسامة

كانت صرخات الألم تدوي في المكان، فتنفطر منها القلوب، وآهات الوجع تنبعث من وراء الأسوار الرهيبة، فتهتز منها الأفئدة، وقطرات الدم تتناثر على الجدران فترسم لوحات من العذاب والألم، لكنها في نفس الوقت شاهد حق علي عزة أصحابها وعلي عظم تضحياتهم في سبيل دينهم وفداء لثرى أرضهم المقدسة، كان كل هذا داخل ذلك المعتقل الرهيب الذي أقامته قوات الطغيان لتعذيب المجاهدين وإجبارهم على الاعتراف على إخوانهم، أو إرشادهم إلى حيث يختبئون.

وسط كل هذه الأجواء من القهر والجبروت، كان هناك أحد المعتقلين يلفت نظر الجميع، حيث أنه (وعلى الرغم من كل ما يلاقيه) دائم الابتسام، دائما يرونه مبتسما ابتسامة غامضة لا يفهمون معناها، كل ما يشعرون به عندما يرونها أنها تغيظهم وتسخر من كل ما يفعلون، حتى أن أحد الجنود اشتكى(ذات مرة)إلى قرينه أن ابتسامة هذا السجين تخيفه وتبعث في نفسه شعورا غريبا من الريبة والقلق!!

كان الجنود ينظرون إليه ويتمنون أن تأتي الأوامر بقتله كما فعلوا بالمئات من قبله ولكن قيادتهم كانت تري مواصلة المحاولات لعله يرضخ، فهم يعلمون أنه أحد قواد المجاهدين، ويعلمون أن لديه من المعلومات الكثير، ولكن كيف السبيل إلى إجباره على التكلم؟ لقد نفدت حيلهم ، وضاقت صدورهم حنقا بما يفعل.

تدافع الجنود يوما على زنزانة ذلك السجين، وحملوه إلى غرفة التعذيب، وأذاقوه كل ما يستطيعون من ألوان التعذيب المختلفة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحصلوا منه على أي شيء، وكان أكثر ما زاد من حنقهم أنهم (بعد ما تفننوا في إيذائه) رأوه يبتسم وينظر إليهم ساخرا دون أن يلفظ بكلمة واحدة، في هذه الليلة قرر أحد المحققين أن يتسلل إلى زنزانته، لعله يسبر غوره ويعرف السر وراء كل هذه القدرة على التحمل، وكل هذا الكبرياء.

تسلل ضوء خافت داخل الزنزانة عندما انفتح بابها ودخل إليها ذلك المحقق الذي توجه إلى السجين وأخذ يطالعه بعينين ملؤهما العجب قائلا: ألن تستسلم وترحم نفسك من كل هذا التعذيب، كل ما نريده منك هو إخبارنا بمكان اختباء المقاتلين أو حتى أي شيء يدلنا علي كيفية عملهم، ومن أين يحصلون علي الأسلحة أو..... قطع المحقق كلامه فجأة عندما لاحظ ابتسامة غامضة ترتسم على ثغر السجين، ثم صرخ بغيظ وهو ينقض عليه ويكيل له اللكمات: أخبرني ما هذه الابتسامة؟ لقد مقتك ومقت ما تفعله بنا، ماذا تعني بابتسامتك البلهاء هذه؟ صعق المحقق عندما هب السجين واقفا وهو يحمله بين ذراعيه ويطرحه أرضا ويلكمه بقوة، ولما أحس الجنود بما يجري في الداخل، أسرعوا ليخلصوا رئيسهم من بين يدي السجين وتكاثروا عليه ضربا وهم يستغربون لما يلتمسون فيه من قوة بعد أن ظنوا أن قواه قد خارت مما قد فعلوه به طوال شهر كامل من الأذى.

بعد ساعة من الحادث كان السجين معلقا في غرفة التعذيب، وجهه مخضب بالدماء، أظفاره مقطعة بعد أن وضعت تحتها الإبر الحارة، جسده يرتعش من الصعقات الكهربية التي قد توالت عليه، ولكن كانت لا تزال علي وجهه نفس الابتسامة. وكان كل ما يجول بخاطره هو كيف يتصورون أن بإمكانهم إجباره على خيانة رفاقه مهما فعلوا به، ألا يعلمون أن المجاهد يهب نفسه وجسده لله؟!! تمثلت أمام ناظريه صورة الماضي القريب، حين كان واقفا يقاتل العدو مع إخوانه، وترقرقت دمعة حارة في عينيه عندما تذكر كيف تم أسره، ولكن سرعان ما ارتسمت بسمة جميلة على وجهه وهو يتذكر أن كل ذلك في سبيل الله ومن اجل نصرة دينه ووطنه، وأن ما يلاقيه الآن ماهو إلا ثمن زهيد في مقابل جنة عرضها السماوات والأرض.

عندما توالت هذه الأفكار على ذهنه، برقت عيناه بنور الأمل في غد جميل، ومستقبل أجمل فيه العزة والكرامة، وانتعش جسده المنهك من التعذيب، وانشرح صدره المكلوم من آلام الأسر، فأخذ نفسا عميقا استعداد لجولة جديدة من التعذيب، وحلقة أخري من الابتسام، ولم لا وهو يعلم أن ابتسامته هذه هي وسيلته الوحيدة التي يكيد بها العدو وينتصر بها لنفسه ولإخوانه الذين يذوقون ألوان العذاب سواء أكانوا داخل المعتقل أو حتى خارجه؟ نعم إنه يعلم جيدا أن ابتسامة الأسود – بلا ريب - تخيف الفئران، وأن الشجعان (دائما) هم المنتصرون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى