الخميس ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٤
بقلم محمد جمال صقر

ارات اللغوية وغير اللغوية

منذ سبع سنوات (2007)، حضرت ندوة اتحاد مدرسي اللغة العربية بمدينة باندونج الإندونيسية، ثم لم ألبث بعدما أُبْتُ أن كتبت فيها كُتيِّبًا من أدب الرحلة (مؤتمر باندونج بلا جمال عبد الناصر)، وكان أهمَّ ما فيه نصُّ كلمة فضيلة أستاذنا هداية نور وحيد رئيس مجلس الشورى الإندونيسي عندئذ، التي ارتجلها في مفتتح الندوة.

ومن أهم ما ورد في كلمته هذه، قوله:

"نحن كلنا أمة إنسانية أمة إسلامية، كُرِّمْنا بهذه اللغة العربية، كُرِّمْنا كذلك بهذا الوحي القرآني المحمدي، وإذا ظهر ذلك فإن الله -عز وجل!- قد سهل لنا طريق العقيدة، من أجل تفهم القرآن، واللغة العربية، من أجل تطبيقها في مجالات الحياة المتعددة؛ وعلى ذلك أنا أرى أننا إذا أردنا أن نحيا بالفكر الإسلامي الوسطي، أو بالفكر الإنساني الوسطي، فاللغة العربية هي من الأبواب الرئيسية التي عن طريقها ندخل إلى تفهم حقيقة الحياة وحقيقة الوسطية" (صقر، 2007).
وفي هذه الفقرة من كلمته، تنبيه واضح على ثلاثة الأفكار الآتية:

أصالة اللغة العربية في فهم الإسلام.

فمن لم يعرف اللغة العربية لم يتجاوز في الإسلام منزلة المقلِّد، والمقلِّدُ إِمَّعَةٌ، والمسلم مَنهيٌّ عن أن يكون إِمَّعةً يحسن إحسانَ الناس ويسيء إساءَتهم، مأمورٌ بأن يتحرر من قيد التقليد، لينطلق محسنًا غير مسيء.
أصالة اللغة العربية في ممارسة الحياة.

فمن لم يعرف اللغة العربية لم يفكر بنظام التفكير الذي يجمع بين القرآن الكريم والنثر الشريف والشعر النفيس؛ فلم يتخلَّق بمكارم الأخلاق التي تدعو إليها، ولم يَحْيَ بنور الهدى والخير والرشاد والسعادة الذي يشع منها.
أصالة اللغة العربية في ضمان الوسطية.

فمن لم يعرف اللغة العربية لم يأمن أن ينحرف بخواطر الجهل إلى أطراف التَّديُّن، ولا أن ينجرف بدواعي الغفلة إلى مهاوي الإفراط أو التفريط؛ فيسيء من حيث ظن أنه يحسن، ويصير من الأخسرين أعمالا "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (سورة الكهف، من الآية: 103)!

إن كل فكرة من تلك الأفكار الثلاثة، دليلُ مَفْصِلٍ من مفاصل علاقة اللغة العربية بالثقافة الإسلامية؛ فإن اللغة العربية فنون (آداب) وعلوم (ضوابط) ومهارات (أداءات)، تفكيرية تعبيرية، متدفقة في جسم الثقافة الإسلامية تدفق الدماء في جسم الإنسان، تحمل له أصول العقيدة والشريعة والأخلاق -فتكفل له الإيمان والمعاملة والعبادة- مثلما تحمل الدماءُ الماء والغذاء والدواء، حتى إذا ما احْتَبَسَتْ أو تَلوَّثت أو سالت -لا قدر الله!- جَفَّ وذوى وهلك أو كاد؛ فكل ما يظهر على فنون اللغة العربية وعلومها ومهاراتها من ظواهر الاستقامة أو الاعوجاج، والاتزان أو الاضطراب، والائتلاف أو الاختلاف، والتوفيق أو الإخفاق- ظاهرٌ حتمًا على الثقافة الإسلامية.

وليس أعجب في علاج ما يظهر على الثقافة الإسلامية من أدواءٍ، من دعوة الداعي إلى التحول عن فنون اللغة العربية وعلومها ومهاراتها إلى غيرها ولاسيما الإنجليزية -وكنت قديما أظن هذا عبثا من عبث تلامذتنا الجامعيين وحدهم- حتى ينتظم أهلها في رَكْب المتقدِّمين (مهدي، 2014)؛ فقد اعتبر ما بين الثقافة الإسلامية واللغة العربية من ترابط حيوي، من حيث أراد أن يهمله، وأثبته من حيث أراد أن ينفيه، ولكنه انطوى من عداوة الثقافة الإسلامية وهو المسلم، على ما لم يتحرَّج منه قديما أبو بشر متى بن يونس القُنَّائيُّ النصراني (328هـ)، الذي أفرط في تقدير الثقافة اليونانية حتى حكم عليه أبو سعيد السيرافي (368هـ)، بأنه يدعوه إلى اللغة اليونانية (التوحيدي: 1/109-128)؛ فاعتبر كذلك ما بين الثقافة اليونانية واللغة اليونانية -وإن عَكَسَ الجهة!- وتآزرت على الزمان الأدلة.

لقد كان الأحرى بالحريص على الثقافة الإسلامية أن يحرص على اللغة العربية، لا أن يُفرِّط فيها؛ فبمثل رأيه تزول من العالم اللغات والثقافات شيئا فشيئا، مثلما يزول الذين يُعاش في أَكْنافهم، ويُعمَّر المُبتَلَى وحده إلى أرذل العمر، ويُنَكَّس، فيندم، ولات ساعة مندم!

ومِن سنن الحياة نَقْصُ ما لم يَزِدْ، المستفادُ من مثل قول أبي البقاء الرُّنْدِيّ المعروف:

لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ الْعَيْشِ إِنْسَانُ

فلا زيادة بعد التمام؛ وقديما بكى سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه!- لقول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (سورة المائدة: من الآية 3)؛ فقال له النبي -صلى الله عليه، وسلم!-: مَا يُبْكِيكَ؟ قال: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذْ كَمَلَ فَإِنَّه لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ! فقال: صَدَقْتَ (الطبري: 9/519). قال محمود محمد شاكر محققه العلامة -رحمه الله!- في حاشيته عليه: "إنما عَنى بنقصانِ الدين أهلَ الدين؛ فإنهم إذا تطاول عليهم الأمد قست قلوبهم، وقَلَّ تمسُّك بعضهم بما أُمر به. ومعاذ الله أن يعني عمرُ نقصانَ الدين نفسِه! ومثله قوله -صلى الله عليه، وسلم!-: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَباءِ".

فمن استطاع ألا تُؤتَى الثقافة الإسلامية مِن قِبَلِه فمن العجز ألا يفعل، ولن يفعل حتى تزيد به اللغة العربية كل يوم على كانت قبله فنا وعلما ومهارة -وهذا لب التنمية الثقافية- وليس أَزْيَدَ لها من تكامل فنونها وعلومها ومهاراتها -ففي تكاملها تلقيحُها وتوليدُها وتَرْبِيَتُها- والإفساحِ لها منفردةً ومجتمعةً، في كل مجال من مجالات اللغة العربية.

تكامل الفنون اللغوية في نفسها

إنه إذا كان في الفنون اللغوية الغنائية (الشعر وما أشبهه)، ما يثير الحنين، وفي الفنون اللغوية السردية (القصة وما أشبهها)، ما يثير الحركة، وفي الفنون اللغوية الحوارية (المسرحية وما أشبهها)، ما يثير المشاركة- فإن في الجمع بينها ما يكفل اجتماع الحنين والحركة والمشاركة التي تكتمل بها دائرة المشاعر الفَعَّالة، وسواء أكان هذا الجمع في الإبداع أم كان في التمثيل.

أما في الإبداع فإن الفنان المتحقق بحقيقة الفن، إذا آمَنَ باحتشاد المشاعر الإنسانية المختلفة في كل موقف، ورأى امتزاجها فيه امتزاج عناصر الماء، وصَدَقَ نفسَه- تآلفَتْ في كل عمل من أعماله الفنونُ المتخالفة، وتَضافرَتْ على الوفاء بطبيعة المشاعر الإنسانية.

وأما التمثيل فإن المؤدِّي الحريص على انتباه المتلقين جميعا وإمتاعهم أو إقناعهم، ينبغي أن يأتيَهم من كل سبيل ويحتجَّ عليهم بكل دليل؛ فلا يقتصرَ على أمثلة بعض الفنون اللغوية دون بعض؛ فيُمِلَّ بعضا ويُنفِّر بعضا؛ فلا خير في فِقْدان مَنْ ربما حَمَلَ هو دون غيره فيما بعدُ، عبءَ الإصلاح والتنمية!

تكامل العلوم اللغوية في نفسها

إنه إذا كان في العلوم اللغوية الفنية (العروض والبديع والبيان والمعاني والنقد)، ما يصف اللغة في حال حركتها، وفي العلوم اللغوية العرفية (الأصوات والصرف والدِّلالة والنحو)، ما يصف اللغة في حال ثباتها- فإن في الجمع بينها ما يكفل اتِّزان الحركة بالثبات وانطلاق الثبات بالحركة، وسواء أكان هذا الجمع في البحث أم كان في التدريس.
أما في البحث فإن الباحث المتحقق بحقيقة العلم، إذا آمن بضرورة التأصيل والتحديث والتنمية، لم يستغن عن إضافة الظواهر اللغوية الفنية المتحركة في مادة بحثه إلى الظواهر اللغوية العرفية الثابتة، ولا عن إضافة نظريات بحثهما العلمية بعضها إلى بعض في تحرير رأيه، حتى يستوعب الماضي ويتمكن من الحاضر ويتقدم إلى المستقبل.
وأما في التدريس فلا غنى بالمدرس عن عرض الظواهر اللغوية العرفية الثابتة، حتى يتعلم الطالبُ منه التحليلَ والتركيبَ والتقويمَ- ولا عن عرض الظواهر اللغوية الفنية المتحركة، حتى يتعلم الطالبُ منه التتبُّعَ والتثبُّتَ والتقبُّلَ.

تكامل المهارات اللغوية في نفسها

إنه إذا كان في المهارتين اللغويتين الشِّفاهيتين (الاستماع والتحدث)، ما يُؤلِّف بين الحاضرين ثقافةً وراحةً ومتعةً وقوةً وقدرةً وفضلًا، وفي المهارتين اللغويتين الكِتابيتين (القراءة والكتابة)، ما يُؤلِّف بين الغائبين- فإن في الجمع بينها ما يؤلف بين الناس كلهم أجمعين، المنقسمين أبدا على حاضرين وغائبين، وسواء أكان هذا الجمع بينها جميعا معا، أم كان بين بعضها دون بعض.

أما الجمع بينها جميعا ففيما يحدث كثيرا من ممارستها كلها ممارساتٍ متوازيةً؛ فربما تفاوتت درجتا ممارسة كلِّ مهارتين، فعوَّضت زيادة درجة ممارسة المهارتين الكتابيتين نقص درجة ممارسة المهارتين الشفاهيتين، والعكسُ بالعكس.
وأما الجمع بين بعضها دون بعض ففيما يحدث قليلا من موازاة ممارسة مهارة الاستماع بممارسة مهارة الكتابة، وموازاة ممارسة مهارة القراءة بممارسة مهارة التحدث؛ فليس لوجود مثل هذه الأحوال الخاصة من تفسير سوى تكامل المهارات.
تكامل الفنون والعلوم والمهارات اللغوية في نفسها

إنه إذا كان في الفنون اللغوية (الغنائية والسردية والحوارية)، انطلاقٌ وارتيادٌ واقتحامٌ، وفي العلوم اللغوية (الفنية والعرفية)، متابعةٌ وتفسيرٌ وتأصيلٌ، وفي المهارات اللغوية (الشفاهية والكتابية)، توصيلٌ وتمكينٌ وتخليدٌ- فإن في الجمع بينها ما يكفل تنمية اللغة العربية، وسواء أكان هذا الجمع في وعي شخص واحد أم كان في وعي شُخوص مؤتلفين.
أما الجمع بينها في وعي شخص واحد فهو عين اليقين وأمنية المتمنِّين وينبوع التنمية؛ إذ في مَصْهَر الوعي الحقيقي العميق الواحد، تتجمع مَوادُّ التَّحْصِيل كلُّها؛ فتتضح آفاق الرؤية، وتتصل مفاصلُ الرسالة، وتستقيم مرامي الأهداف.
وأما الجمع بينها في وعي شخوص مؤتلفين فهو عين الحكمة ورجاء المضطرين ومظنة التنمية؛ إذ في ائتلاف الوُعاة المُتعدِّدين، ما يكفل بينهم تضافرَ آفاق الرؤية -فتتضحُ مِنْ خفاء- ومفاصلَ الرسالة -فتتصلُ مِنِ انقطاع- ومراميَ الأهداف؛ فتستقيمُ مِنِ اعوجاج.

تكامل الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية

يتخيل الإنسان كل شيء ماديٍّ يريده، ثم يعمله، ولا اعتبار لما لا يريده؛ فليس مِن همِّه تخيُّلُه ولا عملُه. أما في أثناء تخيله ما يريده فاللغة من أمامه، ترتاد له المجاهل، وتؤنسه بها. وأما في أثناء عمله ما تخيله فاللغة من خلفه تقوم عليه، وتعتني به، وترعاه. فإذا وفَّاها حقها في أثناء التخيل، انتفع بها في أثناء العمل، وإلا فاجأه ما أشكل عليه فخبط في علاجه خبط عشواء؛ فأخطأ أو أصاب؛ وأحسن أو أساء.

أما تقدُّمُ اللغة في أثناء التخيل ورِيادتُها، فمن حيث يتوجَّه فيها التفكيرُ بالتعبير؛ فكُلَّما خَطَرَ تعبيرٌ أو تكوَّن خَطَرَتْ فكرةٌ أو تكوَّنت، ولا تقوم للخواطر غيرِ اللغوية قيمةٌ كبيرة مؤثرة، حتى تتحول إلى خواطر لغوية، وكأن العقل مَكْتَبِيٌّ يُفهرِس الكتبَ بكلمات وعبارات مِفتاحيَّةٍ، ثم يستغني بها عنها!

وأما عنايةُ اللغة في أثناء العمل ورِعايتُها، فمن حيث يجتمع فيها التفكير والتعبير؛ فتصير مُركَّباتهما كنموذج الصنعة الذي يضعه الصانع أمامه ليقلده، ولا يفتأ يُراجِعُه ويُقايِسُه ويُطابِقُه.

من تكاملت لديهم الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية

طَوال مُزْدَهَر الحضارة العربية الإسلامية تكاملت في وعي بُناتها الفنونُ والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية، فلاسفةً كانوا أو أطباءَ أو كيميائيين أو مهندسين أو جغرافيين أو مؤرخين أو أدباءَ أو لغويين...- وعرفوا حقيقة الأمر واجتهدوا في سبيلها ودَلُّوا عليها.

ثم لما خَبَتْ جذوة الحضارة العربية الإسلامية انفرد المستمسكون بها الحريصون عليها، بمعرفة تلك الحقيقة والاجتهاد في سبيلها والدلالة عليها -مهما استثقلهم الناس، واستغربوهم، وأعرضوا عنهم!- وصارت هذه المعالم شِعارَهم الذي به يتميزون ويُعرفون.

الأستاذ محمود محمد شاكر

فمِمَّن تكاملت لديهم الفنونُ والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية، في هذا العصر الذي عَصَرَنِي ثماني وأربعين مرة- الأستاذ محمود محمد شاكر (1909-1997) -رحمه الله!- الكاتب الأديب الفذ، الذي لم يدخل إلى جامعة القاهرة إلا بعد أن ائتلفت في وعيه أصول اللغة العربية والرياضيات العليا، ووقف منها على مبادئ أَوَّليَّة قوية استند إليها في التأمل والتفكير واعتمد عليها. ولولا الدكتور طه حسين الذي صرفه إلى دراسة اللغة العربية بكلية الآداب لربما تخصص لدراسة الرياضيات بكلية العلوم.

في مفتتح دراسته الجامعية فوجئ شاكر بأستاذه الدكتور طه حسين يُشكِّك طلاب السنة الدراسية الأولى من قسم اللغة العربية بكلية الآداب من جامعة القاهرة، في مصادر اللغة العربية، وميز في كلامه أفكار مرجليوث المستشرق الإنجليزي قد ادعاها لنفسه؛ فسأله فيها، وحاوره، وناقشه، وأعاد، وزاد، وكرر، وأنكر؛ فلما وجده استكبر أن يعود إلى الحق أعرض عنه وعن القسم والكلية والجامعة ومصر كلها!

نعم؛ هاجر إلى الحجاز، ثم عاد بعد عامين، فاعتزل الناس، وانقطع سنين طويلة للفنون والعلوم والمهارات اللغوية العربية والعربية غير اللغوية، يُسائِلُها عن حقيقة الحضارة العربية الإسلامية، حتى استقرت لديه أصولها، وميَّزَ منها ما لا يُميِّزه غيره، واهتدى إلى ما لم يهتد إليه، حتى أبدع بعض الأعمال الفنية اللغوية العميقة الباهرة (القوسَ العذراء، واعصفي يا رياح)، وانتهج بعض المناهج العلمية الخاصة (التَّذَوُّقَ)، ووضع بعض النظريات الأصيلة (التَّشْعِيثَ) (مصلوح، 1991، 162)، وكتب في ذلك، وحَقَّقَ، واستقبل ببيته طلاب حقيقة الحضارة العربية الإسلامية الغائبة عن الجامعات البحثية والتدريسية -وكنتُ أحدهم- وبذل لهم من نفسه وماله، حتى استوى بيتُه واستمر حتى وفاته -رحمه الله!- جامعةً أخرى صحيحةً واعيةً!

الدكتور جمال محمود حمدان

وممن تكاملت لديهم الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية، في عصرنا هذا كذلك- الدكتور جمال محمود حمدان (1928-1993) -رحمه الله!- الجغرافي الأديب الفذ، الذي كان هو وأساتذة قسم الجغرافيا بكلية الآداب من جامعة القاهرة، كما حدثني زميله الدكتور يوسف فايد الذي صار فيما بعد رئيس قسم البحوث والدراسات الجغرافية بمعهد البحوث والدراسات العربية من جامعة الدول العربية -وقد عملتُ فيه مدةً بقسم البحوث والدراسات التراثية- يصطفون أمام الخريطة يتأملون معالمها، ويتفكرون فيها، ثم يحللونها، ويركبونها بما لا يخفى على أحد منهم، إلا الدكتور جمال حمدان؛ فقد كان يبهرهم من نتائج نظره العميق المؤيَّد الثاقب، بما لم يخطر لأحد منهم ببال!

والدكتور جمال حمدان المعروف بحصيلته اللغوية العربية الصحيحة الواعية، وحصيلته الجغرافية الأصيلة الطامحة، "لم تكن الجغرافيا لديه إلا رؤية إستراتيجية متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين جغرافي وبشري وحضاري، ورؤية للتكوينات وعوامل قوتها وضعفها. وهو لم يتوقف عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية، وإنما -هكذا، والأدق "بل"- سعى إلى وضعها في سياقٍ أعم وأشمل وذو بُعْدٍ -هكذا، والصواب "وذي بُعْدٍ"- مستقبلي أيضا؛ ولذا فإن جمال حمدان عانَى مثلَ أنداده من كبار المفكرين الإستراتيجيين في العالم، من عدم قدرة المجتمع المحيط بهم على استيعاب ما ينتجونه؛ إذ غالبا ما يُكوِّن رؤية سابقة لعصرها بسنوات، وهنا يصبح عنصر الزمن هو الفيصل للحكم على مدى عبقرية هؤلاء الإستراتيجيون -هكذا، والصواب "الإستراتيجيين""(ويكيبيديا: الموسوعة الحرة).

فلذلك استقال من الجامعة أستاذا مساعدا، واعتزل ببيته منقطعا لأعماله التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. ولمّا لم يرتح إلى فتح بيته لطلاب حقيقة الحضارة العربية الإسلامية كما فعل شاكر، اضطُرُّوا إلى تتبع أعماله والامتناع بها من أوهام الجامعات البحثية والتدريسية كذلك، ولاسيما كتابه الكبير "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، ذو ثلاثة الأجزاء (شخصية مصر الطبيعية، وشخصية مصر البشرية، وشخصية مصر التكاملية)، الذي تجلَّى فيه وعيُه التكامليُّ الفَذُّ (ويكيبيديا: الموسوعة الحرة).

هجران الجامعات

كلا الأستاذين الجليلين أفضى به تكامل الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية في وعيه، إلى هجران جامعته التي كانت مُنْتَمَى حُلُمِه ومُنْتَهَى أَمَلِه، والاستهانةِ بالعمل الجامعي البحثي والتدريسي، والاشتغالِ بما يراه أصدق وأمكن وأكرم وأنفع؛ وليس أشدَّ من حالهما تنبيها على ضرورة التوقف في أحوال هذه الجامعات المهجورة وأعمالها المستهان بها:
فإما أن نغيرها تغييرا كاملا، وموطن المخافة في هذا الرأي أن هذه الجامعات المهجورة قد اسْتَشْرَتْ فيها أَدْواءُ الفَصْل بين الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية، حتى اسْتَعْصَتْ على التغيير!

وإما أن نستبدل بها استبدالا قاطعا، وموطن المخافة في هذا الرأي أن هذه الجامعات المهجورة قائمة لا يُزيلها التَّعامي عنها!
وإما أن نغيرها ونستبدل بها جميعا معا، وموطن المخافة في هذا الرأي أن تتفاوت بين الجامعات المعمورة والمهجورة، الفُرَصُ منحا ومنعا؛ فيرتدّ ظلمٌ، ويضطرب حقدٌ، وينتشر فسادٌ.

والرأي هو الثالث، على أن يتاح لأهل الجامعات المهجورة الفاصلة بين الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية المتكاملات -إذا غَيَّروا ما بأنفسهم- أن ينتقلوا إلى الجامعات المعمورة الواصلة بين هذه المتكاملات، فتزول المهجورة بانتقالهم عنها قليلا قليلا.

وربما ظُنَّ هذا هو ما تفعله الآن هيئاتُ الجودة والاعتماد، وليس به؛ فلا علاقة لهيئات الجودة والاعتماد بغير التجهيزات الأوَّليَّة الظاهرة على المستويات التأسيسية والتكميلية فقط، ولا اعتبار عندها لمقام تكامل الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية، الحضاري الراسخ العالي، الذي تنسلك في سِلْكه المستوياتُ كلُّها عُليا وتكميليةً وتأسيسيةً، وترتوي من معينه، وتستظل بظله.

المراجع

التوحيدي (أبو حيان): " كتاب الإمتاع والمؤانسة"، صححه وضبطه وشرح غريبه أحمد أمين وأحمد الزين، نشرة لجنة التأليف والترجمة والنشر، بالقاهرة، والمكتبة العصرية ببيروت،

صقر (الدكتور محمد جمال): "مؤتمر باندونج بلا جمال عبد الناصر":

http://mogasaqr.com/?p=299

الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير): "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، تحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، ونشرة مؤسسة الرسالة، وطبعة 1420= 2000، الأولى.
مصلوح (الدكتور سعد): "نحو آجرومية للنص الشعري: دراسة في قصيدة جاهلية"، مجلة فصول، المجلد العاشر العدد الأول يوليو 1991.
مهدي (وليد): " الثقافة والحضارة والتاريخ: المسيرة الإنسانية نحو التكامل العضوي"، مقال بمجلة الحوار المتمدن، العدد 4380:


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى