الأحد ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم محمد سمير عبد السلام

الآلية، والعمل الإبداعي

بصورة واعية، أو غير واعية يظل الإبداع في حالة عمل، في المواقف الاجتماعية، وأبسط أجزاء الحياة اليومية ومظاهرها، وفي الكمبيوتر، والشفرة الوراثية، والصراعات البيولوجية، والسياسية، ومظاهر الكون في لقائها السري بأخيلة الوعي، واللاوعي، وغيرها.

الإبداع أكثر أصالة في الطبيعة، وفي التكوين الحي وغير الحي ؛ لكنه خفي لا يظهر كحقيقة شمولية مثل قوانين الضرورة الآلية. هذه القوانين التي تتجدد كل لحظة، لكنها لا تترك أثرا متناميا في الآخر مثل العمل الإبداعي ؛ فمنذ النقوش الحجرية القديمة، والاكتشاف الأول لقوة الطوطم، وضخامة أعضاء الأنوثة، حتى تحلل العمل الإبداعي في المواد الجاهزة فيما بعد الحداثة، يكتسب الفن ما يمكن أن نسميه تجدد الأثر، وانتشاره غير المحدود.

لقد بدأ الفن كقوة مشرقة للذاكرة البشرية دون فاعل محدد، ومازالت هذه القوة تتجدد في ملايين المبدعين في كل عصر. وكلما ازدادت قسوة الضرورة نجد القوة الإبداعية مستمرة بفضل أصالتها البيولوجية، وتاريخها الطويل.

و قد ساهم المجال الطيفي للإنترنت في تقوية الذاكرة الإبداعية، وإعادة تشكيلها في صورة أكثر شفافية من الكتاب، فهي أقرب لحالة الاختفاء التي يتميز بها العمل الإبداعي رغم أصالته.

إن الإبداع يسبق الآلية، ويتجاوزها في وقت واحد ؛ إذ يلتحم بلحظتي النشوء، والتحول باتجاه فضاء آخر، ويأتي الصراع هنا كجزء من ديناميكية المشهد الإبداعي الكوني رغم أنه يشكل المنطق المعلن للبشرية، فالصراع ينجز هدفا للأنا في مواجهة الآخر بينما يؤسس الإبداع لغياب مركزية الأنا كقوة أصلية، فهي جزء من تجدد الطاقة الكونية.

إن زمن إنجاز الصورة، أو الشخصية الفنية، أو النص يستخدم القوانين الآلية، ويستنفدها فيما يتجاوز حتميتها السائدة، وتنتشر الصور المنجزة في الوعي الجمعي وتتنامى خارج المبدع نفسه. الإبداع إذا ملتبس في تاريخه الإنساني بالعمل، وكذلك فحتمية العمل في المجتمع تتداخل مع النزعة الإبداعية في الوجود.

هكذا يندمج السيل الإبداعي في نطاق العمل المبني على الآلية، والضرورة دون حدود فاصلة، ويحدث هذا الاندماج في مستويين:

الأول: بيولوجي، وفيه يتجدد التكوين انطلاقا من عمليات فنية، وإلكترونية معا، وبهذا الصدد يرى ريتشارد دوكنز أن احتمالات الخلق المتعددة تشبه البيومورفات الرياضية الكامنة، في انتظار التشكل، فيقول " إن ما نفعله عندما نلعب لعبة بيومورفات الكمبيوتر هو العثور على حيوانات، هي بمعنى ما رياضي، تنتظر أن يعثر عليها، وهذا مما يحس به على أنه يشبه الخلق الفني " (راجع – ريتشارد دوكنز – الجديد في الانتخاب الطبيعي – ت: د مصطفي إبراهيم فهمي – هيئة الكتاب المصرية 2002 ص 102).

لقد ذاب منطق الآلية في الاحتمال، وأصالة النزوع الفني فيما هو حتمي، كما التحم التخيل بالحقيقة كإمكانية تبدأ الحقيقة منها في ولوج الضوء.

يلتقي إذن الوجود البشري بتاريخ الأثر الفني الطويل فيشكلان دائرة تتجاوز سيادة النزوع الحتمي كقيمة وحيدة.

الثاني: ثقافي، وفيه تتحول سطوة العمل في المجتمع التقني المعاصر، في اتجاه مناهض للآلية من خلالها، وقد استشرف هربرت ماركيوز إمكانية ولوج الجحيم انطلاقا من قسوة الآلية، أو تداخل نطاقي العمل، واللعب من خلال التقنية لا المشروع اليوتوبي

إن كشف الدراسات التفكيكية، والثقافية المعاصرة عن الجانب الإبداعي في نطاق الحياة اليومية، أو العمل الضروري، أو التفاعل الحر للثقافات، يعزز من إبراز هذا الأصل الخفي، ويستعيد من خلاله القوة المتوهجة المتجاوزة، والسابقة لحدود الأنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى