الأربعاء ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٤
بقلم أحمد بلكاسم

الأفعى الصفراء

قم للمعلم وفه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا
 [1]

ما أحلى أن تتحدث عن الماضي، وأنت دافن رأسك فيه بلا حسيب ولا رقيب، الماضي الذي كان حاضرا، مرا مذاقه كطعم المعصية، عنيفا قاسيا طاغيا كسيف الحجاج الصارم المتربص بالرقاب، قد أصبح الآن تليدا أحلى من العسل، وديعا مثل حمل، رحيما كثديي مرضعة، مثيرا ومدرا للشفقة والعطف كفرخ حمام. قديما قالوا تقهقر خطوتين إلى الوراء وتقدم خطوة إلى الأمام، من كثرة تقهقري إلى الوراء صار عنقي لا يطاوعني وأنا أخطو خطوتي اليتيمة إلى الأمام، الوراء يشدني إليه كما يشد مسرح الجريمة صاحبها إليه. أوثر السفر إلى أصقاع الماضي/العسل/ العلقم/، على صهوة الذكرى دونما حاجة إلى تأشيرة سفر مذلة، في طوابير المهانة، أمام بوابات القنصليات الصغيرة الكبيرة.
يكفي أن تفتح عينيك على بناية مؤلفة من بضع حجرات، شيدت بالإسمنت المفكك، و الزنك، ومكعبات الآجر، وصخور الوادي الزرقاء، إحدى الحجرات حولتها الحاجة، والحاجة أم الاختراع، إلى مطعم مهترىء السقف، أجرب الجدران، منزوع النوافذ، غير بعيد عنه، يقبع مكتب السيد المدير مستحوذا على إحدى زوايا البناية المستطيلة الشكل، يبدو للرائي كضريح ولي صالح، صبغ بالجير، وطلي بابه ونافذته الضيقة باللون الأخضر. على مقربة منه، تجثم سيارة المدير بوجو404، متفيئة ظل شجرة باسقة، تغري الناظر بالتحرش بها مثل أية فتاة مدللة. أشجار الكالبتوس السامقة، تحف الأقسام، والمطعم البئيس، والضريح المقدس، من كل الجهات الأربع، ثابتة في شموخ وكبرياء، مثل كتيبة جنود تحاصر قرية مشاغبة. في وسط الساحة، غرس عمود من أعمدة الهاتف. هو قبلة جحافل البؤساء، المتكالبين عليه من كل حدب وصوب، تتقيأهم الدواوير المجاورة، كل صباح عدا يوم الأحد. في بداية كل أسبوع، صبيحة كل اثنين تراهم واقفين منتصبي القامات، معتدلي الوقفات، يرددون النشيد الوطني، وعيونهم معلقة على العلم الخفاق، الذي يسمو ببطء رتيب نحو قمته المنشودة. ليس الفتى من يقول: كان أبي، إنما الفتى، من يقول: هأنذا.

ها أناذا أحاول قدر المستطاع، إخفاء ابتسامة تأبى إلا أن تتحداني لتوشح ثغري، رغم البرد القارس والطوى، ثم تتمرد أكثر فأكثر، لتنفجر قهقهة ملعلعة كرصاصة قناص طائشة، وكأنها آخر بيت في القصيد. شظاياها تلهب الخدين حرارة، واحمرارا. تشخص الأبصار إلى الوجنتين الحمراوين وهما تدفعان الثمن مجزيا، صفعات مجلجلات، يسمع رجعها من به صمم، يتحاشى الخدان النظر إلى العيون الساخرة المتشفية، وهما يعودان إلى مكانهما في الصف خجلين، وجلين، ساخطين على من كان سببا في تفجير القهقهة القنبلة، وناقمين شر نقمة على اليد التي تركت أثر خمسة أنامل مسمومة مرسومة على كل حنك.

أنامل الرجل النحيل الجسم، الطويل القامة المعقوف الشارب مثل رجل صعيدي، الحليق الذقن كموظف بنكي، الدهني الشعر لماعه مثل جيمس بوند، ذي العينين الغائرتين في الجمجمة كأحد قراصنة جزيرة الكنز، وذي العنق الطويل كأنبوب اختبار، تتدلى منه تفاحته الآدمية كحبة بطاطا، تلفت الأنظار إليها صعودا وهبوطا، مثل ثعبان يبتلع أنامل الرجل ذي المعطف الواسع، وربطة العنق الحمراء كلسان عملاق، تكاد تخفي تحتها الصدر الضيق، الرجل ذي السروال المهلهل، الملتف حول الساقين المستقيمتين، كخطين متوازيين الملتقيتين رغما عن أنف فيتاغورس، عند الجذع، سروال ضيق عند الخصر، فضفاض عند القدمين حيث تبدو فردتا الحذاء ذي الزاوية الحادة كجرذين يطلان من تحت خيمتين متجاورتين يثيران الضحك، ضحكا مقموعا عادة ما يتحول إلى سائل لزج، أو فقاعة عند ثقب الأنف.
لعل حصة الصرف والتحويل، هي الحصة المناسبة ليدفع أصحاب الفقاقيع ثمن جريمتهم، حيث لكل لسان كبوة، ولكل قلم نبوة، فيؤخذون بالنواصي، كما تؤخذ الخرفان إلى المجزرة، تسلخ الأقدام من أحذيتها المطاطية، ورغم الرائحة الكريهة النتنة، ينحني من كاد أن يكون رسولا، على الأقدام القذرة تنظيفا بقضيب الزيتون العتيد، بقدر ما تتعالى صيحات الجناة، استعطافا وطلبا للرحمة، بقدر ما تتنزل الضربات متتالية لا تخطئ هدفها. محظوظ، من كانت تقتصر عقوبته على الوقوف أمام السبورة على قدم واحدة، رافعا يديه إلى رأسه موليا الجماعة دبره. والسي منهمك في شرح الدرس، يغضب تارة، ويلعن دين الكلاب، ويسب جد الحمير تارة أخرى.

- أستاذ..أستاذ..
يحدجه السي شزرا، ويستمر في الشرح
- أستاذ...من فضلك، أكاد أن أبو ...

نظرة شزراء تلجم الفم، تاركة الجسد لمصيره، يترنح كإبرة ميزان، والقدم تهفو لملامسة الأرض، حتى ما إذا كانت قاب قوسين أو أدنى من تقبيلها رفعت بسرعة إلى الأعلى بنصف نظرة حادة من عين الأستاذ الذي ملأ الزبد شدقيه، والقدم تتدلى وترتفع كرأس غالبها النعاس والإمام يخطب يوم الجمعة... الأستاذ غير آبه بعذاب الجاني غير مكترث لنداءاته.
- أستاذ..أنا سأفع..إنني على وشك أن أببببب...

لم يحفل ذو الأنامل المرسومة على الخدين ذاك الصباح الصقيعي بنداء المستغيث، إلا عندما لاحظ شيئا شبيها بانسياب أفعى، يزحف بين الجرذين المطلين من تحت الخيمتين المتجاورتين. تأمل ذلك الشيء المنساب متوجسا، غرق الفصل في سلسلة من الانفجارات، التفت الأستاذ نحو الجاني صاحب الأفعى الصفراء، زجره بشدة:
 هيا أحضر سطل الماء، ونظف المكان..يا خنزير...؟
 أنت هناك، كيف هو الخبر في هذه الجملة؟
 الخبر في هذه الجملة؛ شبه أفعى.
 ماذا؟
 شبه جملة، شبه جملة.


[1أحمد شوقي


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى