الأربعاء ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم عبد الغني حسني

الإيقاع والتواصل عند نزار قباني

بإمكاننا أن نميز داخل الحداثة الشعرية العربية بين موقفين نظريين من المتلقي بينهما من الاختلافات الجوهرية ما يكفي لجعلهما اتجاهين متعارضين في رؤيتهما إلى القصيـدة:

 الاتجاه الأول يؤمن بالقطيعة مع المتلقي وثقافته من منطلق أن الشعر يُكتب للنخبة التي تستطيع الرقي إلى مستواه، من جهة، وأن وظيفة الشعر الجديد تكمن في تحطيم كل الثوابت التي يؤمن بها الجمهور، وهدم كل المقاييس التي تربى في حضنها ذوقه الفني. وهذا الاتجاه احتكر لنفسه صفة الحداثة وألقى خارجها كل من يخالفه في هذا المبدأ. وأبرز من يمثله: أدونيس.
 أما الاتجاه الثاني فينطلق من الوظيفة التغييرية التي يُطلب من الشعر إحداثها في الجمهور ليبني رؤيته القائمة على التواصل على أساس المعايير الفنية المشتركة بين الشاعر والمتلقي من أجل البلوغ التدريجي إلى هذا الهدف المتمثل في التحرير بمعناه الواسع. وأبرز من يمثل هذا الاتجاه: نزار قباني.

من هذا الموقف النظري، إذن، سننطلق من أجل استكشاف الأسس التي يقوم عليها الإيقاع عند نزار، والتي تشكل (في تصورنا) جزءا من رؤيته الكلية للقصيدة، القائمة على التواصل مع الجمهور.

وأول ما نرتئي الوقوف عنده: مفهوم الإيقاع:

جاء في لسان العرب: (الإيقاع من إيقاع اللحن والغناء، وهو أن يوقع الألحان ويبيِّنها، وسمَّى الخليل رحمه الله كتابا من كتبه في ذلك المعنى كتاب الإيقاع)(2). وقال صاحب المخصص: (الإيقاع حركات متساوية الأدوار لها عودات متوالية، واللحن صوت ينتقل من نغمة إلى نغمة أشد أو أحط)(3).

نخرج من هذين التعريفين بملاحظة أساسها أن هناك علاقة وطيدة بين الإيقاع واللحن تبدو أوضح في تعريف ابن منظور. أما صاحب المخصص فيفصل بين اللفظين، دون أن يعني ذلك بالضرورة اختلافا بينهما حيث نجد أن الإيقاع يتميز بالخصائص التاليـة:

 حركات
 أدوارها متساوية
 تتميز بالترتيب (لها عودات متوالية).

أما اللحن فهو:
 صوت
 ناتج عن انتقال من نغمة إلى نغمة أخرى.

يتضح إذن أن:

 الإيقاع جمع (حركات) واللحن مفرد (صوت)
 الإيقاع يميزه التساوي والترتيب بين أجزائه الكبرى (الأدوار) واللحن انتقال من جزيئـة (نغمة) إلى جزيئة أخرى تخالفها في الضعف أو الشدة.

وكل هذا يجعلنا نرجح أن فصل صاحب المخصص للحن عن الإيقاع في التعريف هو فصل للخاص عن العام؛ حيث إن الإيقاع عبارة عن مجموعة من الألحان التي هي أصوات ناتجة عن الانتقال بين أجزاء (نغمات) الوحدات الكبرى للإيقاع (الأدوار)، وبذلك يكون منسجما مع تعريف ابن منظور الذي يربط الإيقاع باللحن والغناء.

ويحيلنا كلام صاحب المخصص على تعريف نقدي لحازم القرطاجني خص به الوزن. يقول حازم: (الوزن هو أن تكون المقادير المقفاة تتساوى في أزمنة متساوية لاتفاقها في عدد الحركات والسكنات والترتيب)(4).

بمقارنتنا بين التعريفين نخلص إلى أن كلا من الوزن والإيقاع يتميزان بما يلي:

 التساوي بين الأجزاء (الأدوار أو المقادير).
 والترتيب.

وهاتان السمتان هما اللتان اشترطهما صاحب المخصص في الإيقاع، الأمر الذي يجعلنا نستخلص أن الإيقاع مرتبط بالوزن أيضا مثلما هو مرتبط بالغناء.

غير أن ما نلمسه في تعريف حازم هو أنه خص الوزن بالشعر (المقادير المقفاة) بينما لا نجد هذا التخصيص في تعريف ابن سيده للإيقاع، وهو ما يجعلنا نقول بأن الوزن ما هو إلا جزء من الإيقاع. يدل على هذا أمران:

 صفة الشمولية التي أضفاها ابن سيده على الإيقاع في علاقته باللحن.
 وحديث حازم عن الوزن باعتباره شيئا مستقلا عن القافية مما يجعل العنصرين داخلين معا في تركيب الإيقاع، مع أخذنا بعين الاعتبار أن تعريفه يتضمن إدراجا للوزن في مجال الإيقاع من خلال سمتيه المميزتين: التساوي والترتيب.

فالخلاصة التي نصل إليها من خلال التركيب بين هذه التعريفات الثلاثة هي:

 أن الإيقاع في الشعر العربي أشمل من الوزن.
 أن الشعر العربي شعر (موقَّع)، مما يجعله بالضرورة شعرا (غنائيا) نظرا للارتباط الوثيق الذي رأيناه بين الإيقاع والغناء (اللحن).

وارتباط الشعر بالغناء يشكل جوهر الإيقاع عند القدماء، فقد قال المرزباني: (كانت العرب (…) تمد أصواتها بالنشيد وتزن الشعر بالغناء. فقال حسان بن ثابت:

تَغنَّ في كل شعر أنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ)(5).

وقال صاحب المستطرف: (وما جعلت العرب الشعر موزونا إلا لمد الصوت والدندنة ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنشور)(6).

هاتان القضيتان اللتان أشار إليهما النقد العربي القديم إشارات عابرة في معظم الأحيان عادتا إلى الظهور بحدة مع التجديد الإيقاعي الذي جاءت به حركة الحداثة الشعرية، حيث إن أهم أساس اعتمدت عليه هذه الحركة في محاولاتها لتجديد العروض العربي أو الخروج عليه هو الفارق الذي وضعته بين العروض والإيقاع. يستوي في هذا التمييز أقطاب كل من الاتجاهين اللذين أشرنا إليهما سابقا، ونكتفي للتدليل على ذلك بإيراد رأيين لكل من أدونيس ونزار قباني. يقول الأول: (الوزن نص يتناهى، قواعد محددة، حركة توقفت، علم، تآلف إيقاعي معين وليس الإيقاع كله.

الإيقاع فطرة، حركة غير محدودة، حياة لا تتناهى. الإيقاع نبع والوزن مجرى معين من مجاري هذا النبع، والإيقاع شعريا هو كل تناوب منتظم، إنه بعبارة ثانية تناوب في نسق)(7).

ويقول نزار معبرا عن المبدأ نفسه: (موسيقى الشعر ليست محصورة في الستة عشر بحرا التي بوبها ونسقها الخليل بن أحمد الفراهيدي. موسيقى الشعر أوسع وأشمل من هذا بكثير، فعلم العروض (…) ليس سوى قطرة صغيرة في المحيط الكبير الذي هو الموسيقى)(8).

هذان الموقفان لا يختلفان في شيء عن الموقف النقدي القديم الذي يجعل الوزن جزءا من الإيقاع. غير أن الاختلاف كامن في الرؤية التي عالج بها كل فريق هذه العلاقة بين العنصرين. فقد اتخذها الفريق الأول، الذي يتزعمه أدونيس، منطلقا لتجسيد دعوته القائمة على تحقيق القطيعة بين الشاعر والجمهور، والقاضية بتجاوز المعايير الفنية المشتركة بينهما. وبما أن الثابت والمشترك هنا هو الوزن، فقد دعا أدونيس صراحة إلى تجاوزه من أجل تأسيس مفهوم جديد للقصيدة: (حين يكرر شاعر شكلا كان في زمن غير زمنه (…) لا يكون شاعرا، يكون صانعا) (9). وقد انبنى المفهوم الجديد للقصيدة عند هذا الفريق على ما سماه أصحابه بالإيقاع غير القابل للضبط أو القياس، حيث إن القصيدة الجديدة (جاهدة أبدا في الهرب من كل أنواع الانحباس في أوزان أو إيقاعات محدودة) (10). يقول محمد بنيس، وهو من تلاميذ أدونيس النجباء، معبرا عن هذه الدعوة في تجاوز العروض ضمن ما يعد مأخذا من مآخذه العديدة على التقليدية: (إذا كان متن التقليدية يخضع لتنظيم إيقاعي يشمل العروض ويتضمنه، فمعنى ذلك أننا أمام العروض المقيس، القابل للعد (…) وقد كان طوماتشفسكي يقول سنة 1929: إن مجال الإيقاع ليس مجال العد) (11).

هذا التوجه نحو غير المقيس وغير القابل للعد، لم يكن في حقيقته إلا مدخلا لإحداث قلب جذري في مفهوم الإيقاع ينتقل به من المسموع إلى المقروء، الأمر الذي يمس في الصميم ذلك التعريف الذي يربط الإيقاع بالغناء، والذي لا يخلو منه حتى التصور الغربي نفسه(12). فأدونيس يرى بأن السماع ميزة الخطابة، بينما ميزة الشعر الحقيقية هي القراءة، لأن السماع مرتبط بالبلاغة والإقناع واستمالة المتلقي والتأثير فيه، وهي كلها خصائص خطابية يجدر بالشعر الجديد أن يكون منزها عنها إذا أراد أن يكون بحق شعرا ثوريا بزعمه(13).

وهكذا تم الانتقال من مفهوم الإيقاع السمعي إلى الإيقاع البصري حيث (أصبحت القصيدة الشعرية تجربة معايَشة بواسطة القراءة البصرية بعد أن كانت تجربة إنشاد وسماع)(14). وأصبح التجريب يقتضي تجسيد هذا الإيقاع فيما يسمى بلعبة السواد والبياض. يقول محمد بنيس: (إن انتقال صفحة الشعر في حداثتنا من الواحدية إلى التعددية جلب معه بناء مغايرا لكل من البيت والقصيدة على السواء (…) هي لعبة السواد والبياض بما تختزنه من إيقاع جسدي يحرك النص، ينقله من جموده لحيويته، من جسد ميت لجسد حي) (15).

ويمكن اعتبار كتاب الحب لمحمد بنيس تجسيدا لهذا الاتجاه عند الشاعر، حيث تراجع الوزن والعناصر الصوتية بشكل ملحوظ ليحل محلها في بعض النصوص لعبة السواد والبياض، كما في النموذج التالي:
كلماتنا
تلك تذكرة
التأمت في منعطف
لنا معا

ضوء
في زمهرير البيت(16)

وعيني ما تزال

مثبتة في غنبازة الكلمات

كما أن الرسوم تلعب في هذا الكتاب دورا لا يقل أهمية عن دور الجانب الخطي في بناء نصوصه(17).

كما تجسد هذا الاتجاه بشكل أكثر وضوحا في مفرد بصيغة الجمع لأدونيس، حيث اختفى الوزن ليحل محله الجانب البصري المتمثل في الأسهم والترسيمات والبياضات المتعددة.

وبوصول هذا الفريق إلى هذا الحد يكون قد قوض الثابت الثاني الذي بنت عليه الشعرية العربية فهمها للإيقاع في ربطه بالغناء والإنشاد.

غير أن ما يميز الاتجاه الثاني، الذي سميناه بالتواصلي، هو أن توسيعه لمفهوم الإيقاع لم يوصله إلى هذه النتيجة في تجاوز الوزن(18). فالإيقاع ظل مرتبطا عنده بالإنشاد والغناء، لذلك نجد نزارا لا يستعمل في الدلالة على إيقاع الشعر إلا لفظ الموسيقا. وهو يصرح بأنه كان شديد الميل إلى الموسيقا، حتى إنه كانت تستولي عليه حالة تدفعه إلى أن يغني شعره بصوت عال(19). ويذهب إلى أبعد من ذلك فيعد الإنشاد إبداعا ثانيا للقصيدة: (كلما ذهبت لألقي قصائدي في مكان عام، أشعر أنني أعيد كتابتها للمرة الثانية. إنني لا أقرأ نصا بقدر ما أخترع نصا. ولا أكرر حالة بقدر ما أستولد حالة. من هنا يصبح إلقاء الشعر عملا إبداعيا ورسما بالإشارة والصوت)(20).

ولم يكن انطلاق نزار من المسموع بدل المكتوب في فهم الإيقاع إلا انسجاما مع توجهه العام في التواصل مع الجمهور. وأولى وسائل هذا التواصل، كما رأيناه يصرح سابقا، هي بناء الإبداع على الثقافة المشتركة بين الشاعر والمتلقي. يقول معبرا عن هذا التوجه في الحفاظ على موروث الجمهور في فهم الإيقاع: (جمهورنا ورث مع ما ورث غريزة التطريب، وحسه الموسيقي مرتبط تاريخيا بالآلات ذات الوتر الواحد و بالأدوار الشرقية التي تعتمد على تكرار النغمة الواحدة بشكل دوري)(21).

هذا الكلام يدل دلالة قاطعة على الربط الذي حافظ عليه نزار بين الإيقاع والغناء، مما يجعل الإيقاع عنده سمعيا لا بصريا، غير أن ذلك لا يعارض بحال ذلك المعنى الموسع الذي خص به الإيقاع حين جعله أشمل من الوزن، بل لنقلْ إن فهمه لهذا العنصر ينسجم انسجاما كاملا مع رؤيته التواصلية للقصيدة، حيث يجب أن يتم التجديد في إطار الحدود الموسيقية للإيقاع، بدل أن يمتد إلى قلب شامل لمفهومه.

من هذه الزاوية إذن، يمكن أن نفهم الحداثة الشعرية عند نزار على أنها حداثة تواصلية تنبني على تجديد الإيقاع بدل هدمه وقلب مفهومه قلبا جذريا ومفاجئا لا يعير اهتماما لثقافة المتلقي.

كما أن هذا التصور في التجديد مع مراعاة التواصل مع الجمهور عند نزار هو الذي يمكن أن يفسر التنويع الذي تفرَّد به في كتابة القصيدة العمودية إلى جانب قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. يقول: (القصيدة العمودية ثوب من الأثواب موجود في خزانتي مثل جميع الأثواب (…) إنها موجودة جنبا إلى جنب مع قصيدة التفعيلة والقصيدة الدائرية وقصيدة النثر)(22). هذا التجاور في الأشكال الشعرية مع التوجه نحو التجديد هو الذي جسده نزار في منجزه الشعري كما يبين لنا الإحصاء الذي قمنا به لأشكال القصيدة عنده:

أشكــال القصائــد
عـددهــــــا في الـديــــوان
نسبتهــا

القصيـدة العمودية
 229
 25,99 %

قصيدة التفعيلة
 360
 40,86 %

قصيدة النثـر
  275
  31,21 %

مزج العمودي والتفعيلي
  10
  1,14 %

مزج المنثور والموزون
  07
  0,79 %

المجمـوع
  881
  100 %

يمدنا هذا الجدول بمجموعة من الملاحظات أهمها:

 أن قصيدة التفعيلة هي التي نالت النصيب الأوفر من اهتمام الشاعر ( 40,86 %).
 أن هناك تقاربا في النسبة بين الشكل القديم (القصيدة العمودية = 25,99 %) والشكل الجديد (قصيدة النثر= 31,21% ).
 أن الشاعر مزج في القصيدة الواحدة بين العمودي والتفعيلي، وبين المنثور والموزون، وهذا ما يمثله خاصة ديوانه الأخير: إضاءات.

ونود أن نقف عند الملاحظتين الأوليين خاصة، معتبرين الملاحظة الأخيرة تجسيدا فعليا لتجاور الأشكال الذي عبر عنه الشاعر في رأيه الذي أشرنا إليه.

1. تشير الملاحظة الأولى إلى اهتمام الشاعر بقصيدة التفعيلة، وهو ما يدل دلالة واضحة على ولوجه ميدان الحداثة الشعرية (في جانب الإيقاع على الأقل). ولسنا نحتاج لبيان ذلك إلى أدلة كثيرة إذ يكفي مقارنته بشاعرين محسوبين بامتياز على هذه الحداثة هما صلاح عبد الصبور وأدونيس. فالأول تبلغ عنده نسبة قصائد التفعيلة: 87,34 % (23)، وهي النسبة نفسها التي يقترب منها أدونيس: 83,94 % (24)، غير أن الفرق بين هؤلاء هو أن الاهتمام بقصيدة التفعيلة عند الأخيرين جاء على حساب القصيدة العمودية، بينما بقيت عند نزار محتفظة بمكانة بارزة. وهذا ما نلمسه من خلال الجدولين التاليين اللذين ينقلاننا إلى الملاحظة الثانية:

أشكال القصائد - عددها - نسبتها

قصيدة التفعيلة
  69
 87,34 %

القصيدة العمودية
 08
 10,13 %

مزج الشكلين
 02
  2,53 %

المجموع
  79
  100 %

أشكال القصيدة عند صلاح عبد الصبور

أشكـال القصائـد - عددهــا - نسبتهـا

قصيدة التفعيلة
  345
  %83,94

القصيدة العمودية
  25
  6,08 %

مزج التفعيلي والعمودي
  14
  % 03,41

قصيدة النثـر
  24
  5,84 %

مزج المنثور والموزون
  3
  0,73 %

المجموع
  411
  100 %

أشكال القصيدة عند أدونيس

بمقارنتنا لهذين الجدولين بما رأيناه عند نزار يتضح ميل هذا الأخير إلى المحافظة على الشكل التقليدي للقصيدة (مع إعطاء الأولوية للشكل الجديد) في مقابل الميل الذي يكاد يكون تاما عنها عند كل من صلاح (10,12 %) وأدونيس (6,08 %). فهل يعني ذلك عودة نزار إلى أحضان المدرسة الإحيائية التي عنيت عناية كبيرة بالقصيدة العمودية؟

إن التناول المعياري لهذه المعطيات قد يوقعنا في ما يشبه التناقض في النتائج. إذ كيف يمكن أن يكون نزار شاعرا حداثيا وتقليديا في الوقت نفسه؟

وهذا المشكل لا يمكن حله إلا بالنظر إلى هذه المعطيات من زاوية التواصل الذي ينبني هنا على أساسين عبَّر نزار عن موقفه الإيجابي من كل منهما، وهما:

 أن وظيفة الشعر هي تجديد ذوق الجمهور.
 أن هذا التجديد لا يمكن أن يتم بدون الانطلاق من موروث هذا الجمهور نفسه.

هذه المراعاة لثقافة الجمهور وموروثه هو ما عبر عنه نزار إذ قال: (إن الأذن العربية ليست زائدة دودية يمكن قطعها متى أردنا واستبدالها بأذن من البلاستيك. وكما أن أم كلثوم لا يمكن أن تغني غناء أوبراليا على طريقة ماريا كالاس، فإن المغني المصري العظيم سيد درويش لا يمكن أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى مايكل جاكسون)(25).

يسلمنا هذا إلى معيار يجب مراعاته في تقويم العلاقة بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة عند نزار، هو معيار الزمنية الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالوظيفة التغييرية التي يقوم بها الشعر في علاقته بالجمهور، فهذا المعيار في الرؤية التواصلية عند نزار يقتضي أن يتم التجديد تبعا لتجدد ذوق الجمهور حتى يتم الانتقال به إلى مرحلة التحرر، حيث إن الانتقال المفاجئ (كما نجده عند صلاح عبد الصبور وأدونيس) من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة عكسية في قطع الصلة بالجمهور. يقول نزار: (إن الحساسية الشعرية لشعب ما لا تنقلب على نفسها بزاوية 180 درجة لأن شاعرا أو شاعرين أو ثلاثة يريدون ذلك)(26).

ثم يضيف موضحا موقفه من علاقة هذا التجديد بأشكال القصيدة، والعمودية منها خاصة: (إن القصيدة العمودية بدأت تلملم ثيابها وتجمع حقائبها منذ وقت طويل، وليس من اللياقة في شيء، ولا من مكارم الأخلاق في شيء أن نرميها هي وحقائبها من النافذة، بدعوى أن عقد الإيجار بيننا وبينها قد انتهى، وأن عليها أن تخلي المأجور فورا … هذه مواقف منافية لكل القواعد والأصول … فليتحل الشعراء الجدد بالصبر، وليهيئوا أنفسهم لوراثة المنزل الأبوي والاستيلاء على أثاثه، ولكن دون أن يرتكبوا جريمة قتل الأبوين)(27).

ما يفسر لنا إذن اهتمام نزار بالقصيدة العمودية رغم ولوجه ميدان الحداثة الشعرية هو رؤيته لعملية الانتقال التي يجب أن تتم تدريجيا (دون ارتكاب جريمة قتل الأبوين). وقد سبق أن أوضحنا علاقة هذا بالرؤية التواصلية عنده. و يبقى أن نضيف أن هذا التدرج قد تحقق في منجزه الشعري بشكل بارز، ويكفي أن نقارن بين دواوينه الأولى: قالت لي السمراء (1944) وطفولة نهد (1948) وأنت لي (1950) التي تقترب فيها نسبة القصيدة العمودية من 100%، ودواوينه الأخيرة: خمسون عاما في مديح النساء (كتبت قصائده سنة 1994) وتنويعات نزارية على مقام العشق (كتبت قصائده سنتي 1995 – 1996) وإضاءات (1998) التي تنعدم فيها هذه القصيدة. وجاءت بين هاتين المرحلتين مرحلة زمنية طويلة تعايش فيها الشكلان، نمثل لها بـ: قصائد (1956) وحبيبتي (1961) والرسم بالكلمات (1966) وقصائد مغضوب عليها (1986) وغيرها…

2- تبقى الإشارة إلى قصيدة النثر، حيث يمدنا الإحصاء بنسبة مرتفعة لها عند نزار (13,21%) في مقابل تراجع لها عند صلاح عبد الصبور وأدونيس. وهو ما يدل على أن هذه القصيدة لا تمثل بالضرورة عنوانا للتجديد في مجال الإيقاع. يؤيدنا في هذا الموقف أمران:

 الأول: أن صلاحا عبد الصبور الذي يعد نموذجا للخروج على الشكل القديم، لا يتضمن ديوانه أية قصيدة نثر.
 والثاني هو أن هذه القصيدة عند أدونيس ضعيفة جدا (5,83 %)، هي أضعف حتى من نسبة القصيدة العمودية (6,08 %)، بل إن هذا الشاعر ما لبث أن عاد في (الكتاب) بجزأيه ليكتب جل قصائده موزونة.

هذا الأمر، إذن، هو الذي يفسر لنا الاهتمام الكبير الذي حظيت به هذه القصيدة عند نزار منذ وقت مبكر (مذكرات أندلسية = 1955) وهو نفسه يوضح أن سبب ميله إلى هذه القصيدة هو أنها ليست غريبة على أذن الجمهور العربي: (إنني شخصيا لا أجد قصيدة النثر غريبة عن ميراثنا ولا عن ديناميكية اللغة العربية التي تتفجر بملايين الاحتمالات)(28). كل هذا يضاف إلى أن هذه القصيدة قد خضعت عنده لمفهوم الإيقاع السمعي، وهو ما جعلها تطبع كثيرا بطابع الغنائية.

ما نخلص إليه من كل هذا هو أن رؤية نزار التواصلية للقصيدة قد تحكمت بشكل كبير في مفهومه للإيقاع فجاء مبنيا على أساسين:

1- الإيقاع سمعي لا بصري. وهذا يجعله مرتبطا عنده ارتباطا وثيقا بالغناء.

2- لكي تؤدي القصيدة وظيفتها في التغيير لابد من أن يكون التجديد تدريجيا لا انقلابيا.

المراجع العربية

1- الأعمال الكاملة، نزار قباني منشورات نزار قباني، بيروت. ط1، 1993
2- الثابت و المتحول، بحث في الاتباع والإبداع عند العرب، 3- صدمة الحداثة، أدونيس، دار العودة، بيروت (د.ت).
3- زمن الشعر، أدونيس ط3، دار العودة، بيروت 1983.
4- الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، 1 – التقليدية، محمد بنيس، ط 1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1989
5- الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها ،3- الشعر المعاصر، محمد بنيس، ط2، 1996
6- كتاب الحب، محمد بنيس، ط 1، دار توبقال، الدار البيضاء 1995
 
7- لسان العرب، للعلامة ابن منظور الإفريقي المصري، دار الفكر (د.ت)
8- لغة الشعر العربي الحديث، الدكتور السعيد الورقي، ط3، دار النهضة العربية، بيروت 1984،
9- المخصص، تأليف أبي الحسن ابن سيده، صحح لغته: الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، دار الكتب العلمية، بيروت (د.ت)
 
10- المستطرف في كل فن مستظرف، للأبشيهي، تحقيق د. مفيد محمد قميحة، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت1986
11- المعجم الوسيط ، ط 3، دار عمران
12- مقدمة للشعر العربي، أدونيس، ط3، دار العودة، بيروت 1979.
13- منهاج البلغاء وسراج الأدباء، لحازم القرطاجني، تقديم وتحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، ط3، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1986.
14- الموسوعة العربية الميسرة، بإشراف محمد شفيق غربال، دار الجيل والجمعية المصرية لنشر المعرفة، 1995
15- الموشح، مآخذ العلماء على الشعراء في عدة أنواع من صناعة الشعر، للمرزباني، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، القاهرة (د.ت)
16- النصنصة أو النص المركب، محمد مفتاح، مجلة الآداب، ع: 3-4، 1998،

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى