الاثنين ١١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم مروة كريديه

البعد الديموقراطي في المجتمع

تُعدّ الديموقراطية واقعًا تَسعى معظم المجتمعات الإنسانية إلى بلوغه، ليس بوصفه ذلك المقدس الذي لا يُعاب، بل بوصفه بُعدًا يضفي الصبغة الإنسانية على حياة المجتمعات البشرية، ويجعلها ممكنة في إطار التضامن والتعايش بين الأفراد والنخب والكفاءات من جهة ، وبين مكونات المجتمع الأخرى المتنوعة إثنيًَا ولغويًَا وعقائديًّا وأيديولوجيًَا .

فالديموقراطية هي أحد صيَغ التعاقد المجتمعي، بيد أنَّ هذا التعاقد ليس تامًّا أو نهائيًّا، بل هو عقدٌ مجتمعيٌّ متجدّدٌ ومتطوّرٌ وسيرورةٌ دائمةٌ، بحيث يعكس حضوره أو غيابه تأثيرًا واضحًا في صيرورة المجتمعات البشريّة .

فالديموقراطية ليست تنظيمًا سياسيًّا للمجتمعات، بل هي أحد أبعاد المجتمع ليس إلا، الأمر الذي يجعل المنظومة الديموقراطية السياسية في المجتمعات جزءًا من منظومة أخرى أشمل منها، لاتقتصر على الحياة السياسية فحسب، بل تَطال كافَّة المرافق المجتمعيَّة على حدٍّ سواء، وبناءً عليه فلا يمكن للديموقراطية السياسية أن تُستورد أبدًا في ظل غيابها الثقافي والفكري، وفي ظلّ القمع السائد في مؤسسات المجتمع الأخرى بدءًا من الأسرة وصولا للمؤسسات الدينية، فلا يمكن لشعبٍ ما تربى أبنائه على القمع المنظم ردحًا طويلا من الزمن و أمضى حياته في التسبيح بحمد "الزعيم " أن ينعم بديموقراطية بين ليلة وضحاها، فالتنشئة الديموقراطية للفرد تبدأ منذ اللحظة الأولى لولادة الكائن الإنساني.

فعند تحليل ظاهرة القمع والعنف في بعض الانظمة الشمولية نجد ، ان العنف والعنف المضاد والمتحول ، يسود كافّة أفراد المجتمع ، فالأم تمارس القمع على الابناء كما أنها بدورها مقموعة من قبل الزوج "الكريم"، والزوج بدوره مقموع من قبل رئيسه"المحترم"، والسلطات الادارية والمدنية مقموعة من قبل السلطات السياسية وأجهزة ما يعرف ب"المخابرات " و "أمن الدولة "، والسلطات السياسية بدورها مقموعة وحريتها مصادرة من قبل الدول الأكبر منها، وهكذا دواليك في سلسة من القمع والظلم ودوامة من العنف لا تنتهي ..........

وهذا المجتمع يُعيد إنتاج أفراد غير قادرين على اتخاذ القرار، ولا على تقرير المصير، فلا حكومات تلك الدول قادرة على تحديد خياراتها الاستراتيجية الكبرى وتقرير مصائر شعوبها، ولا الأفراد يمتلكون القدرة على التصدي لمشاريع الوصاية في ظل استحواذ عقلية التبعية على النفوس والخوف من شبح "السلطان" وسجونه...... سواء كانت هذه التبعية فكرية أم اقتصادية أم اجتماعية أم دينية أم غير ذلك، وما النزاعات الدائرة والصراعات المستفحلة اليوم في بعض المجتمعات إلا نزاعًا على صنم العبودية وتحديد التبعية ،و"الطاعة تكون لمن؟" و"التبعية لمن؟" فهي عملية صراع من اجل استبدال التبعية بتبعية أخرى، واستبدال طاغوت بطاغوت آخر ، والمرجعية بمرجعية أخرى....

في حين ان الديموقراطية تنبني على التحرر من التبعية بالدرجة الأولى واحترام الحريّات الفردية فهي مرتبطة بالليبرالية ارتباطًا عضويًّا، بحيث يكون الفرد قادر على تحديد خياراته بوضوح من خلال الوعي المكتسب بالتربية، وترجمتها من خلال برنامج عملي، وهذا يطال كافة مناحي الحياة دون استثناء .

فمظاهر حضور الديموقراطية أو غيابها يُعدُّ معيارًا لوضع كلّ مجتمع بالنسبة لنفسه وذاته، بحيث يَكون التوازن بين أجزاءه ومكوّناته هو ما يُنتج الديموقراطية ويدل على وجودها، ويكون غيابها مؤشّرًا على فقدان التوازن، كما يعطي الدلالة على سير المجتمع نحو التطّور، مع الأخذ بعين الإعتبار أن ما وصلت إليه المجتمعات الانسانية اليوم هو نتيجة تراكم تطورات لتحولات دامت قرونًا طويلة .

لذلك ينبغي ممارسة التفكير النقدي في الديموقراطية، وذلك من خلال البحث في الأشكال المتنوعة للنظم المجتمعية والسياسية التي توصف بالديموقراطية، ودراسة التطورات والإشكالات التي عرفها كل مجتمع ، والتي كانت بدورها مختلفة في مظاهرها ومراحلها،الأمر الذي يمكننا من الإجابة عن الإشكاليّة المتعلّقة بوحدة النظام الديموقراطي من حيث شكله أو بالإمكان تعدد أشكاله وعدم حصر الصلاحية في نظام واحد .

إذ لا بد من فهم الديموقراطية على أنها نموذج مازال يتطوّر، وهو في تحولات مستمرة يتطور عبر نقد أضداده، كما يتطور عبر النقد الذاتي لمكوّناته ، فالنموذج الديموقراطي ليس واحدًا و ثَابتًا وليس قالبًا يُصب على رؤوس الشعوب ليصبح واقعًا مستمرًّا ، فهو لا ينحصر بنموذج واحد متحقق بل هو واقع ناتج عن أشكال متنوعة من التطور . فما دام الامر على المستوى السياسي يتعلّق بنوعٍ من الحكم يُشرك الأغلبية بدلا من أن يكون قائمًا على رأي الأقليّة ، ويروم التشاور بدلا من الاستبداد ، فإن البدايات يمكن أن تكون مختلفة ومتنوعة بما يتلاءم مع تطور المجتمع ، وذلك تبعًا للتاريخ والتجربة التي تكون مرّت بها كل حضارة أو أمة أو جماعة .

فالديموقراطية احد أشكال التوجه للمستقبل من خلال الجهد الإنساني الدؤوب والساعي إلى إنجاز نظام أفضل وأكثر توازنًا للمجتمعات ، فالديموقراطية ليست تاريخًا منتهيًا بل تاريخًا مستَأنفًا باستمرار، فالتاريخ المطلوب من الديموقراطية حاليًّا لا ينحصر في الماضي الذي تشكلت خصائصه كنظام من خلاله، بل انه المستقبل والتاريخ القادم الذي ستنتجه الإنسانية وستصنعه البشرية في ظلّ سيرورة تطوير الديموقراطية نفسها المتبلورة من خلال توازنٍ يتجه باستمرار نحو توازنٍ أفضل .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى