الأربعاء ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم محمد البوزيدي

البوح بالأسرار في أخاديد الأسوار

1- تقديم

تعتبر رواية أخاديد الأسوار من بين الإصدارات المتميزة للكاتبة زهرة رميج، وقد صدرت سنة 2007 عن المركز الثقافي العربي والدار العربية للعلوم، وتتكون من 27 فصلا تتوزع على امتداد 158 صفحة من الحجم المتوسط، وتتنوع بين السرد والتحليل والوصف والسؤال.

وقد حرصت الكاتبة على تصديرها بإهداء خاص إلى روح زوجها ورفيقيهما عبد القادر الشاوي وعبد السلام الباهي والمناضلين الذين لم يبتغوا من نضالهم جزاء ولا شكورا مما يفيد بانتماء الكاتبة لخط إيديولوجي معين وهو التيار التقدمي الذي قدم شهداء عديدين طوال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي دفاعا عن قيم ومبادئ خاصة.

2- الغلاف

يتوسط الغلاف رسم لفتاة في مقتبل العمر، حزينة تجلس متكئة على كرسي بجوار سور وتتأمل أمامها شيئا ما في حالة شرود، ترتدي لباسا ونعالا أحمر وهذه الصورة الصغيرة تنعكس على الغلاف كله لذلك يمكن طرح الملاحظات الآتية:

1. الاتكاء كان بهدف التذكر والرجوع إلى الوراء لشحن الذاكرة، للحكي عن أحزان ما، وبتصفح النص تجد الذاكرة صداها عبر التعرض لمرحلة حساسة من تاريخ المغرب من خلال سيرة شبه ذاتية للكاتبة وللزوج.

2. إن الاعتماد على اللون الأحمر القاتم يحيل على الدم الذي يتموج في أحداث الرواية بل نلمسه في ثنايا الإهداء.

3. ما دلالة الجلوس؟هل هو استراحة محارب أنهكته طول المسافة؟ أم سيواصل المسير بعد قليل؟ أم العياء الشديد الذي انتهى بصاحبه إلى المكان المغلق الذي يلبس فيه ثوبا خاصا بالسجناء.

لكن مالسجن المقصود هنا: هل هو السجن كفضاء داخل النص؟ أم السجن كذاكرة للماضي في حد ذاته؟

4. مادلالة خطوط المربع وحصر الرسم في صورة محددة؟ هل هو مكان مغلق للأسوار التي تغيت الكاتبة الانسكاب وسط أخاديدها العميقة؟

3-دوافع كتابة النص

تعتبر الرواية نصا يغري بالتأمل الممزوج بالوصف الجميل الذي يتعرض للواقع المزري والرديء الذي عاشه ويعيشه المغرب في مرحلة تاريخية ما، كما تحاول الرواية السباحة في تلابيب التاريخ والجغرافيا بنفس أدبي يمزج بين السرد والنقاش الفلسفي في آن واحد، فأينما وليت لا تملك سوى الانكباب بعيدا بعيدا،تارة بالحكي، وأخرى بالوصف الدقيق، وأحيانا عدة بالتحليل العميق المستند للقراءة الواعية لتفاصيل التاريخ العميق للمغرب الذي سجل بدماء طرية كان الزوج أحد أبطاله.
ترى مالدافع إلى هذا النوع من الكتابة الروائية لدى الكاتبة رميج؟

إن الكتابة لدى ذة.رميج ليست ترفا فكريا أو تزجية للوقت، أو سباحة في عالم الخيال والرومانسية، بل هي كما صرحت في شهادة لها بكلية الآداب ابن امسيك في لقاء مفتوح مع طلبة ماستر الدراسات الأدبية والثقافية بالمغرب، يوم الخميس 26 أبريل 2007 بمثابة إعلان مواقف الكاتب مما يحدث في هذا العالم من قضايا شائكة و مربكة. فهي إذن مسؤولية..حيث يجب على الكاتب أن يرفع صوته منددا بكل مظاهر الظلم و الفساد متوسلا بجمالية الإبداع و قدراته التخيلية الهائلة على ملامسة الأعماق و إبهار الأذواق. وأن يفتح كوة في الظلام الدامس ليتسرب قليل من النور إلى النفوس الظمأى. عليه – الكاتب - أن يحدق دائما و أبدا، في الظلام ليرى ما لا يراه عامة الناس، وبهذا فالكتابة يجب أن لا تكون مهادنة للواقع، و لا خاضعة لسلطته و أن لا تتماشى معه، و لا أن تكرسه. بل أن تكون جريئة و صادمة في الكشف عن سوءاته و عيوبه من أجل واقع أفضل.

فالكاتب ليس إنسانا عاديا بل إنسانا “مريضا بالوعي” كما قال فرويد. و لذلك، لا يقبل منه الاستسلام بسهولة أو الارتماء تحت عجلات الواقع الذي لا يرحم.

وانطلاقا ما سبق،ومن خلال الرواية يمكن تحديد دوافع الكتابة في أخاديد الأسوار فيما يلي:

1 الرواية عبارة عن رسائل مكتوبة إلى الزوج المتوفي قبل مدة نتيجة الآثار الجانبية للفترة التي قضاها كمعتقل سياسي بسجن ولعلو بسلا

فالكاتبة من خلال الرواية تحاول خوض مغامرة البحث عن البطل من جديد في ذاكرتها، ذاكرة تختزن لحظات غالية قضتها مع الزوج المناضل، لذلك فإنها ستفتح *أبواب جراح مختلفة مازالت لم تندمل سواء في ذاتها المادية أو المعنوية أو في خوالج الزوج الغائب/ الحاضر.

إن فتح الجراح لن يكون سوى مقدمة لإغلاقها ولو مؤقتا انطلاقا من سيادة قيم الحب في النص، واستحضار الراحل في مواقف كثيرة ومختلفة استحضارات مؤثرة في مواقع متباينة تختلف فيما بينها من داخل الوطن إلى خارجه باسبانيا، و من السجن إلى جبال الريف، ومن المنزل إلى البحر..فضاءات عديدة سجلت الكاتبة بتفان روايات عن لحظات عاشتها مع الفقيد وما تزال تتذكرها بإتقان رغم مرور سنة مما أدى إلى استغراب أحد الأطباء النفسانيين الذين زارتهم من ذاكرتها الخصبة المليئة بكل جزء دقيق من التفاصيل التي مرت عليها سنوات عديدة.

2-إن الكاتبة بهذا الأمر لا تتردد إذن في الكشف أن الأمر سيكون لهدف ذاتي وهو إرواء العطش وإسكات الجوع الذاتي لكنه الجمعي في نفس الوقت، ويتعلق بالحكي وتفجير المكبوت عن ما جرى في فترات معينة خاصة أن هذا البوح لم يكن مسموحا به من قبل، هذا في الوقت الذي تعاني فيه من جراء الغياب الخاص للزوج لاسيما بعد أن اعترفت أن هذا الغياب *سلطة لا مثيل لها لدرجة أسرت له في رسائلها قائلة *وجدت ظلك يتبعني

3-هل كانت الكتابة رد فعل على واقع يئست من تغييره، وانطلاقا من أنها *أصبحت زاهدة في كل شيء فقد أصرت على فضح كل شيء لتبرئ ذمتها من التواطؤ صمتا على مايقع خاصة أن الأوضاع لا تنفك تواصل تعقيدا وفسادا في كل شيء وعلى أكثر من مستوى.

فكيف تعاملت الكاتبة لتحقيق هذا المبتغى؟

لقد عمدت الكاتبة إلى إتباع تقنيات عديدة داخل المتن الروائي نذكر أهمها:

1-تقنية الإخبار: فالكاتبة حين تجرد قضايا فهي لا تطرحها للقارئ مباشرة بل على سبيل إخبارات لزوجها الغائب إخبارات بما وقع بعد الرحيل

2- تقنية الوصف حيث تقف عند مشاهد مختلفة لتنقلها لنا بكل ما تتضمنه من عناصر، مشاهد تتراوح بين البادية والمدينة، بين فضاءات القمع وأمكنة للحرية،بين خارج البلد وداخله،واضعة مقارنات للثنائيات السابقة.

3-في لحظات عديدة ترتدي الكاتبة قبعة عالم الاجتماع محللة لقضايا عديدة بطرق فنية خاصة من خلال رواية أحداث ومحاولة تحليلها وإيجاد تفسيرات لها.

ورغم أنها تحكم على الأمر وفق رؤيتها الخاصة فإنها لا تطرح بديلا، وهذا طبيعي لأن المتن الروائي لا يجب أن ننتظر منه كل شيء. فهل كان النص في حد ذاته رسائل متعددة إلى أكثر من طرف لكن من سيصدق الرسائل؟

4-جراحات ونزيف بدون حدود ويستعصي على التوقف

يعتبر الجرح أيقونة قوية الحضور في رواية أخاديد الأسوار عبر أشكال مختلفة وبصور متنوعة.
وقد استطاعت الكاتبة نقل تجلياته مباشرة للمتلقي بصيغة تجمع بين الوخز السري الذي ينبئ عن وضع خاص يدعو للقلق وحتمية التدخل،ونقل الجو الغائم الذي يوزع المجتمع لأطراف متعددة وجزر يتموقع فيها الناس كل حسب مواقفه الخاصة.

4- 1 جراح الكاتبة /تيمة القلق والحزن

إن الكتابة إلى الزوج تكشف لنا عن نفسية خاصة للكاتبة تدرك المجتمع وترفض الانصهار وسط الميوعة التي يعيشها، خاصة أن ذكرى الراحل مازالت تسكن كينونتها،فهي محافظة على المبادئ التي ناضل من أجلها الشرفاء الذين أهدت إليهم الرواية، لكن عوض قطف الزهور وثمار مرحلة التضحيات، تكتشف أن الواقع أصبح شيئا آخر غير ماكان يطمح إليه الراحل ورفاقه، بل أن هذا الوطن الذي ناضلوا من أجله أصبح يبتعد كواحة سراب عنها حين تحاول هي أن تقترب منه.

إن هذه الصدمة أججت في الكاتبة ثنايا الحزن الذي تستشعره من جهتين:

حزن شخصي إن كتابة رسائل إلى الزوج لإخباره عما جرى ويجرى بعد رحيله والكشف له عن الأيام السوداء التي تستوطن تاريخنا المجيد..وهي أشد سوداء وهولا 120أدى بالكاتبة إلى أن تعيش حالة نفسية شاذة حيث أدمنت التوتر والقلق والصراع الداخلي *40 فأصبح جسدها منهكا اشد مايكون عليه الإنهاك

لنلاحظ جيدا كيف تعبر الكاتبة عن وضعيتها في ثنايا الكتاب:

أصبحت في حيرة من أمري شربت الحزن حتى الثمالة لدرجة لم أعد أطيق معها أحدا ينتابني غضب أسود أرى الحزن،

أحمل جرحي بداخلي وامضي قلبي منتفخ الندم ينهش نفسي ،نتيجة الإحساس بالشقاء والتعاسة.

ومع كل يوم جديد يزداد النزيف حدة ، ورغم مرور الزمن فالجرح لا يزال مفتوحا عن آخره لدرجة تحس مذاق الدم في الفم ،لذلك تحاول إيجاد حل عبر البحث *عمن يداوي جراحي..يوقف نزيفي خاصة بعد أن أصبحت زاهدة في كل شيء وتأكدت من فشل كل الأسلحة التي احتمت بها في لأم الجراح

إن هذه الوضعية أجتها غياب الزوج،إذ كانت العلاقة التي ربطته دوما بزوجته الكاتبة عبارة عن حب خاص واستثنائي إن لم نقل مثالي، مما خلق لها فراغات لم تتعود عليها، لذلك لم تتردد في سرد مجموعة من الخصال التي كان يتميز بها الراحل كوفاء خاص منها.

1- كان يحب الحياة بكل تفاصيلها ويحرص جدا أن يعيش كل لحظة فيها وينصح الآخر بذلك الم تقل لي اخرجي إلى البحر..اخرجي من تحت الغيوم

2-كان أفقه مفتوحا دوما: طموحك كبير جدا. وكنت تسعى إلى المزيد من العمل.

لذلك لم تتردد الكاتبة في البوح أن الرحيل عن هذا الكوكب الأزرق كان مقصودا بحثا عن كوكب آخر أكثر إشعاعا.
فهل ضاق الفضاء عن الاستيعاب فعلا وهل سيتخذ الباقي نفس الخطوة للرحيل بعيدا بعيدا.

3-كان مخلصا لزوجته اشد مايكون الإخلاص *من سواك يستطيع أن يشاركني آلامي وأحزاني ويتقاسم معي أفكاري ومشاعري؟

4-كان مبدئيا وذا قناعات خاصة جعلته متميزا عن الآخرين المتهافتين..الذين باعوا الضمائر والمبادئ

2*حزن طبيعي ناتج عن الحزن الشخصي فالجو *ازدادت غيومه تلبدا حتى تحولت إلى طبقات عديدة والأرض قاحلة شاسعة، أينما وليت وجهة بصري، لا أرى غير الرمل والشراب ، والسماء تقيم مأتما للأرض..تريد أن تغسلها من أدرانها... من مآسيها...ومن جرائمها

4-2 جراحات الزوج

لقد كان الراحل محمد الحضري يناضل من أجل *وطن ديمقراطي بل أن إيمانه بالوطن *اكبر من كل خيانة لكن رد فعل الوطن كان ينبئ عن جراح داخلية كانت تهيم داخل نفسية الراحل نتيجة الخيبة وانكسار الآمال المعلقة، فالمفارقة الغريبة أنه رغم حب الوطن من طرف الأبناء المخلصين، فهل أحب الوطن أبناؤه بنفس المودة؟

الجواب يبدو واضحا وضوح الشمس حين تصرخ الكاتبة أقتفي آثاره........أقترب....يبتعد ناهيك أن *وطننا لا يمجد سوى الأموات ولا يدرك فيه الأفراد إلا بعد فقدانهم..إذا كانوا محظوظين 53 خاصة أن هناك رجالا ونساء ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل الوطن لن يذكرهم التاريخ أبدا..لن تطلق عليهم صفة مقاوم..لن يستفيدوا..لن تعرف هوياتهم لن تزار قبورهم.

بل قد يصل المتلقي درجة خاصة من الصدمة حين تحدد له الكاتبة علاقة الوطن بزوجها،وكيف أن العلاقة تشبه العلاقة التي ربطت بين ذلك الابن وأمه التي شاهدها على شاشة التلفزيون في برنامج –لقاء الغائب-..ذلك الابن الذي كان يبحث عن أمه التي تخلت عنه..وعندما استطاع الأخير العثور على عنوانها بمساعدة فريق البرنامج اتجه إلى بيتها وكله شوق لرؤيتها وضمها إلى صدره، لكن المفاجأة كانت صادمة....رفضت الأم رؤية ابنها رفضا باتا...كاد الرجل /الطفل أن يجن...أيعقل أن يكون قلب الأم بهذه القسوة

4-3 جراحات الوطن

الفساد وعدم القيام بالواجب: في ظل عالم يموج ويتسم بالتيهان وغياب القيم المجتمعية ولو من طرف الذين يتشدقون بالشعارات البراقة يغدو كل شيء مستبيحا لدرجة خطيرة.ففي البلد لا يمكنك قضاء أي أمر مهما كاب بسيطا دون اللجوء إلى المعارف والوسائط والرشاوي

اما تجرد الكاتبة في هذا الإطار تهاون فئتين عن القيام بالواجب الملقى على عاتقهما وهما:أعضاء البرلمان ورجال التعليم.
ولا تخفى الأدوار الخطيرة لهاتين الفئتين على تطور المجتمع والرقي بالوطن إلى صفوف متقدمة بين باقي الأمم، فالفئة الأولى مؤتمنة على الشعب عبر مواقفها وتصويتها على القرارات الهامة داخل البرلمان، بينما الفئة الثانية تتكفل بتنشئة الأجيال القادمة، لكن المفارقة الغريبة تكشف عن ممارسات عملية لا علاقة لها بالأدوار الهامة الملقاة على عاتقهما.

فممثلو الشعب في البرلمان لا يتورعون عن التمثيل والبهرجة في قاعة الجلسات وافتعال صراعات شكلية أمام التلفاز، بل وصل المستوى إلى تبادل الشتائم التي يندى لها الجبين .ناهيك عن استغلال المنصب لتحقيق المصالح الخاصة وتفويت الأراضي للأقارب والأصدقاء واستغلال المشاريع التي أنجزت أساسا للفقراء والمعوزين

أما فئة رجال التعليم فتتعمد التقصير في واجبها، حيث استفحلت ظاهرة الغياب في صفوف رجال التعليم بمبررات واهية ليس أقلها الشواهد الطبية، مما دفع الوزارة لأن تتساءل *لماذا يسجل المرض أعلى الإصابات في صفوفهم
إن الكاتبة تحاول من خلال التعرض لهذين الفئتين بالضبط أن تحملهما مسؤولية عظيمة في وضعيتنا الحالية.

تيهان اللغة لقد تأسفت الكاتبة على الوضعية التي توجد عليها لغتنا الوطنية خاصة بعد أن قارنت بين تكريس التعامل باللغة الفرنسية وكيف تفاعل مواطنون إسبان معها وزوجها حين زاروا اسبانيا وهما لا يتكلمان اللغة الاسبانية وكيف رفض البعض التواصل معهم مبررين ذلك بالقول:من يأتي إلى بلدنا عليه أن يعرف أولا لغتنا ومن لا يعرفها عليه أن يبقى في بلاده فنحن لسنا في حاجة اليه مما جعل الحادثة تستحضر مأساة اللغة في البلد

4-4 جراح المجتمع

من خلال الرواية حاولت الكاتبة النبش كثيرا عبر عدة جبهات، فالوضع غير صحي وغير سوي مما يحيل إلى وجود خلل ما في النسق المجتمعي العام: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا...خلل طالما ناضل الزوج لإصلاحه.

إنه المرض الغريب فعلا الذي استعصى على الجميع تحديده وتشخيصه رغم طرحه للنقاش في أماكن متعددة.
فماهي طبيعة هذه الأمراض الجماعية /الجراح التي تداهم وتعشش في مجتمعنا من خلال الرواية؟

إن المتتبع البسيط يجد آثارها بادية في كل ثنايا الفضاء المجتمعي الخاص والعام الذي يطمح كل غيور على وطنه لبنائه والمساهمة فيه،لكن الكاتبة تصدمنا بأمراض استثنائية طالما حاول الجميع تجاهلها وتجاوزها انطلاقا من تحليل الصراعات والتناقضات المجتمعية والتركيز على التناقض الرئيسي الذي تعتبر الدولة احد أطرافه.

إن رميج حين تحكي لنا لا تنطلق من فراغ، بل هي تروي شبه سيرة ذاتية كان الزوج أحد أبطالها حيث عاني الأمرين من رفاقه المفترض أن يتقاسم معهم نفس القناعات ويطمحون لتحقيق أهداف نبيلة تتمثل في وطن جميل يعم فيه الرخاء تتحقق فيه أحلام..المقاومين الذين ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل حرية واستقلال بلادهم

1- صراع الأشقاء وهو *أتعس صراع..، هكذا تلخص الكاتبة الصراعات والانشقاقات الذاتية للحركة التقدمية طوال فترات السبعينات والثمانينات وصولا للتسعينات حيث أصبح الجناح اليساري داخل الأحزاب المغربية رقعة شطرنج مصفرة لبلقنة المشهد الحزبي المغربي،فكل من ينتقد أو يخالف الرأي السائد عند هذه الفئة أو تلك،هذا الحزب أو ذاك،ينعت بال*بوليسي*أو -العدمي – أو غيرها من النعوت والجمل التي أفرغت من محتواها لا....كما أن جملة القافلة تسير والكلاب تنبح تستعمل في كل حين..في السياق وخارجه..،لذلك نوضح الكاتبة موقف الفقيد من الأمر فرغم انه كان متشبثا بالوحدة وبمصلحة الحزب فإنه آثر الانسحاب والاستقالة من كل الإطارات...لكنه لم يستقل من إحساسه الوطني ونضاله الديمقراطي إن موقف الفقيد أتى في إطار ظاهرة الانسحاب من الحزب التي أصبحت منتشرة بين أوساط المناضلين مما دعاها إلى التساؤل المريب أية نتائج يمكن أن يحققها التشرذم والصراعات المجانية

وبنظرة المتفحص والخبير تنبهنا الكاتبة أن الأمر لم يعد يقتصر على الجانب السياسي بل امتد إلى العمل النقابي، فرغم كونه مرتبط بمشاكل الناس وهمومهم اليومية....فهو أيضا لم يخل من المؤامرات والتكتلات والمساومات 91 ولتدلل أكثر بل نقلتنا إلى أجواء اجتماع عاصف في احد النقابات انتهى ياصوات الكراسي وهي ترتطم بالجدران والأجساد وكلمات رجعي بوليسي انتهازي وعلى إيقاع اصوات سيارات الإسعاف و سيارات الشرطة
فكيف يمارس النضال في أمة رأسمالها الكلام فحسب
الجواب يكون صادما جدا، انه يمارس في الإطارات الجماهيرية بعيدا عن الأخلاق مما دعاها للاستنجاد بمقولة للشهيد المهدي بن بركة لتوضيح الموقف الصحيح وهو أن السياسة الحقيقية هي سياسة الحقيقة

إنها سلوكات عقدت الوجود الذاتي والمعنوي للعديد من المناضلين ودفعتهم للابتعاد عن نضال النخب الفاسدة المتعطشة لتحقيق مصالح ذاتية مريضة ب بالسباق الماراطوني على الزعامة والاقتناع أن التغيير الذي لا ينطلق من القاعدة ولا يخلق شروطه الذاتية والموضوعية لا يمكن أبدا أن يفرض نفسه

2-خيانة الرفاق:إنه الجرح القاسي الذي سيظل ينزف إلى مالا نهاية، فما لسبيل حين يكون المبلغ للشرطة عن المناضل هو *الرفيق * في نفس الدرب كما تحكي الكاتبة بمرارة خاصة في رسالتها للزوج كان الظلام مطبقا..لمحت شبحا ملفوفا في جلباب بلون الظلام نفسه..لم تتبنيه جيدا لكن صوته كان قريبا من صوت الرجل الذي تعتبره قدوتك وأعز أصدقائك رغم فارق السن بينكما.فتحت الباب فإذا بأيد فولاذية تنقض عليك كاتمة صوتك وأخرى تعيث فسادا في غرفتك وأشيائك..أما المنادي فقد انشقت الأرض وابتلعته.

هذه الواقعة أثرت كثيرا في الكاتبة لدرجة أعادت التذكير بها في الصفحة الم يكن البعض يتسلى بوضع المصيدة لمن يجمل جينات التمرد مثل ذلك المناضل المثالي الذي كنت تثق به ثقة عمياء والذي وضع لك المصيدة في تلك الليلة الشتوية الليلاء صارخة في نفس الوقت وطارحة تساؤلات لأكثر من جهة حيال هذه الوضعية العصيبة والصعبة على التحمل.
على الذات: هل الناس الذين نعرفهم هل نعرفهم فعلا؟ ألا نكتشف مع دوران الزمن أن الذين كنا نعتقد أننا نعرفهم عز المعرفة أشخاص آخرون غرباء عنا لم يسبق لنا أن صادفناهم في حياتنا أو تعرفنا عليهم، ولعلمهم هم أيضا لم يعرفونا حق المعرفة؟

2*على الآخرين الخونة: ففي ظل الحالة السابقة، كيف يمكن تصور شعور المناضلون وهو يبيعون أنفسهم لأعدائهم وهل أصبحت الكرامة كائنا منقرضا ينظر إلى بقايا سلالته

3* على الزوج:أين الحلم الكبر الذي تنازلت بسببه عن كل شيء ما مصيره إذن وسط هذا الواقع الخاص؟
3-الردة والتراجع عن المبادئ التي ضحى من أجلها الكثير من الشهداء، ففي مرحلة التسعينات وبعد ما سمي *انفراجا *وعفوا عاما تهافت بعض المناضلين إلى أجواء أخرى غير التي كانوا ينادون بها فطلقوا مبادئهم، وأصبحوا يمدون الأيدي إلى الجلادين، لذلك تلاحظ الكاتبة أنهم أصبحوا يتقنون لعبة التعامل مع قانون الطبيعة وقد تجلى هذا في طرح إشكالية التعويض التي شكلت لأجلها في المغرب هيئة الإنصاف والمصالحة، فكيف تعاملت الكاتبة وزوجها مع هذه القضية؟

استرسلت الكاتبة في مناقشة الموضوع من جوانب مختلفة عير رسالتين

1للكاتبة شخصيا:من خلال معرفة الموضوع والوعي بأبعاده، ودفع طلب رغم ذلك، لكن حتى وإن وصفته بالطلب المهين فدفعه كان يستهدف الحصول على اعتراف معنوي حتى لا يسقط اسم الفقيد من سجلهم التاريخي .

2* الآخر وهي الدولة عبر محاور عدة:

 الحكي عن تجارب الاعتقال السياسي الذي تعرض له زوجها وعانت منه كثيرا على مستويات عدة:حيث تحدثت الكاتبة عن السجن وآلامه وعلاقته بالبحر (مفتوح على كل شيء،لا بداية له ولا نهاية،صعب تحديده...)والمقبرة (باعتباره مقبرة للحياة قبل الموت وتوجد إلى جانبه ولن يضطر الإنسان لتحمل الكثير من أجل الانتقال من عالم إلى آخر) كما بينت الكاتبة للأجيال القادمة والحالية ماعاناه المناضلون في فترات مختلفة من تاريخ المغرب داخل *مكان مشؤوم.في جزيرة سوداء ذا جدران.متآكلة.. وأقبية مظلمة وعوالم مفعمة بالمعاناة والألم....انه الفضاء الذي لا لحن فيه إلا للألحان الجنائزية التي تصك الآذان وتفتت النفس....عالم لا صوت فيه إلا *للصراخ الأنين...وفيه..يتعالى هدير الأسواط..وهي تجلد الأجساد الفتية العارية40.....إنها فضاءات قاسية *تخلد في أعماق أصحابها قبل أن تخلد في الكتب

كما يلاحظ أنها لم تذكر الأسماء بالضبط إلا إذا استثنينا مكانين وهما سجن ولعلو الذي كان معتقلا فيه الزوج وسجن تازمامارت الذي يعتبر نقطة سوداء جدا لما تضمنه من بشاعات وفظاعات في حق الإنسانية، بل ذهبت الكاتبة بعيدا حين ربطته بمعتقل ابوغريب وأبو زعبل العراقي.

التساؤل عن هذا التعويض عبر أسئلة عميقة ترسلها كالطلقات في وجه الذين وصفوه ونظروا له ودافعوا عنه من المناضلين والضحايا السابقين خاصة أن الكلمة كانت تثير سخرية من الزوج وزوبعة الغضب والألم بل تذهب بعيدا في السخرية من خلال التأكيد أن أمريكا بدورها تحاول إرضاء السجناء بالتعويض المادي

1. فهل يمكن تعويض مافات؟ وبأي مقياس تقاس الآلام والمعاناة؟
وبأي زمان يقاس ذلك الزمن

2. وكم ثمن كل جرح انفتح بأعماقي؟ كم ثمن كل إهانة تعرض لها جسدي، كم ثمن كل حلم غيبه الظلام؟ ما حجم المال الذي يستطيع إزالة كل الأخاديد المفورة عميقا بداخلي؟ أي تعويض يعيد الحياة إلى سكتها الطبيعية؟ يعيد للأحلام أجنحتها؟ يعيد إليه خصوبتها بعدما تم خصيها.

وأي تعويض يرجع للسجين كرامته وقد طعن في شرفه وذكورته التي يعتبرها أغلى مايملك؟

4. هل يمكن *إلغاء ماض بشساعة ربع قرن من الذاكرة الآن ماض موغل في ساديته ووحشيته.

5. هل فعلا يمكن نسيان الماضي المؤلم بأي ثمن وهل ينسى سجن تازماما

6. وهل فعلا يمكن أن يتكلف جهاز المجلس الأعلى (الاستشاري) لحقوق الإنسان بالأمر وهو الذي ما زال لم يضمن حقوق أقلية من الشباب المعطل الذين يعتصمون أمامه ويرفعون شعارات مختلفة تطالب بأبسط الحقوق المتعارف عليها كالتشغيل.

وفي نهاية المطاف تذكرنا بمواقف الزوج الرافض للعملية برمتها رفضت أن تبيع آلامك مقابل أي ثمن...عزة للنفس. لذلك تطرح عليه تساؤلات خاصة: هل لا تزال متشبثا بموقفك؟ لاجواب

4-التركيز على الشكليات وعدم الانخراط في الجوهر لقد طرحت الكاتبة إشكالات حقيقيا تهاجم كينونة المجتمع عبر ظهور قيم جديدة على مجتمع الألفية الثالثة تتفشى في اوساط المناضلين والمثقفين حددت بعضها في *التباهي وتضخيم الذات وانحدار الحب وسيادة الكراهية العمياء ناهيك عن خصلة أخرى وهي الكذب والنفاق العام لدرجة لم تتردد في التصريح أن *العالم كله يكذب ويصدق كذبه..بل ويدافع عنه بكل شراسة لتقول للمتلقي بدرجة اليقين، والمتأمل في الواقع يلاحظ هذا أن *كل ما حدث – ويحدث - في العالم كذب في كذب بل حتى أن الديمقراطية مجرد كذبة وحقوق الإنسان كذبة....كل ما يحدث في هذا العالم كذب في كذب...لكنه كذب يصدقه أصحابه للدفاع عن مصالحهم

لكن المريب والغريب أن الكذب تجاوز روتينية اليومي ليصل درجة أصبحت الحقيقة ليست دائما حقيقية وأنها مزورة؟ فبالأحرى الحقائق الهامة في التاريخ كما استرجعت بعضا من تساؤلات الفقيد لها ذات يوم مضى حين كان يقول:

هل التاريخ العربي المكتوب هو التاريخ الحقيقي؟ ألا يتم تغييب وجوه كثيرة منه لأسباب وغايات لا ندركها؟ والتاريخ الإنساني؟ هل هو تاريخ مضبوط؟ ألا ترين انه معرض دائما وأبدا للتزوير؟

والاحياء هل تعتقدين أنهم فعلا أحياء؟ هل مجرد كونهم يسعون في الأرض يعطيهم الحق في الحياة؟

لكن كيف تموقعت الكاتبة إزاء سلطة الكذب التي أصبحت تفرض نفسها وتكتسح كل مكان؟

في البداية ركبت قطار الحياة والأوهام إذ تعترف قائلة أصبحت أتوهم وأصدق أوهامي حتى لا يجرفني الطوفان أبدا خاصة بعد أن أصبحت أعيش بوجهين متناقضين و أصبح الواقع والحلم يختلطان علي لدرجة الإحساس بالحرج 96
لكنها في نهاية المطاف تنتفض من الصدمة وتخبرنا قائلة

وجدت نفسي أمام حلين لا ثالث لهما: إما أن اكذب وأصدق كذبي بكل عزيمة وإصرار لأنقذ نفسي من متاهة الظلام، وإما أن اعترف بالحقيقة فاغرق مثلما غرق الكثيرون من زملائي وأغرق ما يبقى من ركاب سفينة نوح الباحثة عن آفاق أخرى
فهل هما الخياران المطروحان فعلا للمثقفين للاختيار بينهما؟؟

طبعا لا خيار ثالث يبدو وإن كانت الغالبية العظمى من المثقفين انطلاقا من النص اختارت الخيار الأول حيث أصبح هم الكاتبة في لحظة ما هو تأمل المتهافتين المهرولين المتكالبين على فتات الموائد، الذين باعوا ضمائرهم من أجل حفنة نقود... من أجل منصب يفتح لهم الأبواب المغلقة.

فهل هو العمى الأسود الذي يطبق على كل العيون أم حلاوة الكراسي التي تعمي العيون؟

تساؤلات خاصة

على طول الرواية يحضر صدى التساؤلات المختلفة من حقل فكري لآخر ليكشف عن فلسفة خاصة للكاتبة في الحياة حيث لا تمل من طرح التساؤل تلو الآخر حول إشكالات جوهرية حول الكون والحياة خاصة في ظل ماض متشظي، ومليء بالآلام التي طرحت في النص، وحاضر ميع وضيع كل التراكمات المأمولة، ومستقبل يبدو أغمض من الغموض في حد ذاته. فأصبح الموت والحياة سيان..وجهان لعملة واحدة في ظل أوضاع معينة موشومة بالقهر والانكسار

لذلك تطرح الكاتبة تساؤلات عميقة نذكرها بدون تعليق عليها لأنها فعلا لا تحتاج إلى تعليق فرسالتها واضحة جلية
كيف الخروج من دوامة الكر والفر التي تبتلعني- نا-؟ هل ارمي بكل شيء عرض النسيان؟

كيف يمكن للمرء أن يسعد وهو مسكون بالفجيعة؟ هل الحياة تستحق كل هذا الصراع والآلام؟ وما لجدوى؟

6-الأمل رغم كل الآلام شيء يبقى حاضرا

ورغم كل ما سبق ورغم قناعتها أن الكون والحياة سيان وجهان لعملة واحدة في ظل أوضاع معينة موشومة بالقهر والانكسار

فإن الكاتبة تحاول استجماع كل طاقاتها المتبقية لمقاومة واقع مريض جدا للتخلص من سكون مفعم بكل ألوان الفجيعة والاغتراب فتنتفض عن الوضع رافضة له واضعة أمام المتلقي أفكارا تدعو للتفاؤل وطرد التشاؤم وتؤكد له أن جراحنا ليست مفتوحة عن آخرها صائحة لتوقف أيها النزيف جريانك..وأنت أيها الروح الهائمة عودي إلى راحتك الأبدي موجهة خطابها هذه المرة إلى الحياة زيلي مساحيق الحزن ضعي مساحيق الفرح وبهجة الالوان لاقتناعها الأكيد أن الحياة تستمر..يجب أن تستمر..ويجب....أن نعيش اللحظات

خاتمة


عموما فإن رواية أخاديد الأسوار رواية ممتعة، نص سردي هائل يتداخل فيه الذاتي بالموضوعي،ويمتزج فيه الشجن الشخصي بالهموم المجتمعية الكبرى للأغلبية الصامتة، رواية تغوص في المستقبل جيدا من خلال إثارة قضايا الماضي الذي مازال يلقي بظلاله عميقا على سراديب الحياة اليومية ببلادنا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى