الخميس ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم نايف عبوش

التراث.. وتحديات المسخ بأدوات المعاصرة

لاشك ان التراث بآثاره الحسية والاعتبارية، هو من ابرز ملامح هوية أي كيان اجتماعي، قبيلة كان هذا الكيان، ام شعبا، ام امة. ولان حركة الحياة قائمة على قانون التطور المستمر، فان الموروث الشعبي لابد ان تطاله اثار التطور، وتنعكس عليه ملامح التغيير بهذا القدر او ذاك. وفي هذا الاطار من التصور، فان التغيير لابد له ان يحصل بمفاعيل الزمن، والسياق الحضاري، الذين يشكلان بالمحصلة، فضاء معاصرة اللحظة التالية للتغيير، بحيث تكون لكل عصر ملامحه الاجتماعية، في الوقت الذي ينبغي ان يظل فيه التراث نيسم الامتداد الى الاصالة، لأنه تراكم مستنبت في احضان بيئتها، وتفاعل متواتر معها، فكان بهذه المقاربة الجدلية، بمثابة اللوحة الفنية التي رسمت الاجيال المتتالية ملامح هويتها عليها، ومن ثم فهي تعرض للجيل المعاصر صورة حال الاجداد بكل ابعاده.

واذا كان من الصعب منع تأثير عوادي الزمن على التراث، لأنه انسياب فيزيائي موضوعي خارج السيطرة المجتمعية، الا ان التأثير فيه ايجابيا ضمن سياق حضاري معين، لصالح الحفاظ الوقائي على بصمات التراث، ينبغي ان يظل نزوعا حضاريا هادفا، يؤصل للخصوصيات الشعبية عند كل من يعنيهم الامر.

على ان التراكم التراثي لأي مجموعة كانت، يواجه تحديات الاختراق بالعصرنة للأسباب المذكورة، اضافة الى تحديات المسخ بالغزو الأجنبي، عبر ثقافة الهيمنة المعولمة، التي لاشك انه ابدعت الكثير من المنجزات العلمية والتكنولوجية، مما وفر رفاهية اجتماعية على نطاق واسع بأعلى درجات الاشباع المادي والجنسي، رافقتها في ذات الوقت، تعاسة انسانية، يحس الفرد ازاءها بالإستلاب، ويفتقر الى تلك السعادة الضائعة، التي يتمنى ان تعود له حتى بطريقة النكوص، والحنين الى الماضي السعيد على قساوة ظروفه.

ولكي يبقى الموروث التراثي منسجما مع الذات الجمعية التي ابدعته، في تراتبيته مع الجيل الصاعد، ويبقى متوازنا مع العصرنة، في حركة انسياب منتجاته المادية من التراث المعماري، والحرف الموازية، بالإضافة للسلوكيات المرافقة لها، فان عليه ان يتشبث بخصوصية سياقه الحضاري بوعي تام، لكي لا تسلبه العصرنة شخصيته، وتنتزع منه هويته، في نفس الوقت الذي ينبغي عليه ان يرتقي باستخدام معطيات العصرنة بأعلى درجات الاداء الواعي، لكي يختزل الضياع في الكفاءة، الناجم عن اختزال السياق، ويتجاوز سطحية الاستيعاب، وصعوبة التمثل، الذي يعني كلفة مضافة، مادية ومعنوية معا، تتمظهر بأشكال معقدة من التخلف، والاستلاب، وتدني مستوى الانتفاع، مالم يتم التمكن من تدجين تلك المعطيات بكفاءة، لكي تتلائم مع خصوصية طبيعة البيئة التي ينساب الينا في ثناياها من الماضي ذلك الموروث.

ولعل تطور استخدامات الهاتف المحمول، وطرح الشبكة العنكبوتية، وشيوع الفضائيات كوسائط معاصرة للتواصل المباشر، الذي انهى العزلة المكانية للأفراد، وخلق مجتمعا معولما بالتواصل، كان حقا احد ابرز انجازات ثورة الاتصال والمعلوماتية، التي حققت لنا الكثير من المنافع، بعد ان نجحت في الغاء المسافات بين الناس، واخترقت كل الحواجز، وزادت من اواصر التواصل الاجتماعي، وقللت اكلاف المواجهة المباشرة بوفرالزمن الفائض، الا ان عدم توازن المستخدم مع سياق تراثه، ونمط أخلاقياته، دفعه تحت وطأة الانبهار، وأحيانا من غير وعي، لانتزاع الاستخدام من سياقه الايجابي المشار اليه بالتجاوز على الموروث من القيم، لكي يكون اداة سفه انساني، وانحطاط اجتماعي، من خلال المضايقات الهابطة للآخرين، بالمكالمات الرخيصة، وتصوير المشاهد المسيئة، والتدردش القبيح، ومشاهدة الافلام الاباحية ، فراح المجتمع يدفع ثمنها باهظا في حالات كثيرة ، ناهيك عن العزلة الوجاهية المباشرة. لذلك كان المسخ بالعصرنة مزدوجا، اذ هدد قيم المجتمع المتلقي بالتشويه، في نفس الوقت الذي اختزل السياق الحضاري المتمدن لهذه التكنولوجيا المتقدمة، ليقتصر على سلبيات الانتفاع بارجحية واضحة ، وخاصة بين فئات الشباب، التي لا تهتم كثيرا بمعطيات الخصوصية والحفاظ على التراث، تحت وطأة الانبهار الزائف بتلك المعطيات.

لذلك يتطلب الامر ان ننتبه الى مخاطر المسخ بتحديات العصرنة ، الذي ما انفكت تتركه على هوية التراث، بتسفيه العادات والتقاليد الحميدة، في نفس الوقت الذي تمسخ فيه الصورة الايجابية لأبداعتها، التي هي احد ادواتها المعاصرة للهيمنة، لاسيما بعد ان فتح الفضاء المعلوماتي بقنواته الفضائية، وشبكة الانترنت، والهاتف النقال، الباب على مصراعيه، امام الغزو الاجنبي للدخول الى بيوتنا بدون استئذان، ليؤسس لثقافة جديدة، وعادات جديدة، ومصطلحات جديدة غير مالوفة، سيكون لها بالطبع اثرا كبيرا على تغيير سلوك الجيل، الذي بدأنا نلمس جنوحهم صوب الانسلاخ التدريجي من سيطرة البيت، والتفلت من ضوابط المجتمع بشكل واضح، والانزياح خارج حدود فضاءات سيطرة الأب والأم، بمسارات غريبة عن المألوف من الموروث الاجتماعي، حيث تفاقمت فجوة الجيل مع غزو العصرنة بشكل مقلق، يهدد بتفكك قيمي واجتماعي، يقود الى الضياع والاستلاب المحقق في الافق المنظور، مما يؤدي بالمحصلة الى مسخ الهوية، وقطع التواصل الحركي مع التراث.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى