الأحد ١ آذار (مارس) ٢٠٢٠
بقلم عبد الله المتقي

«الحديقة المحرمة» للتونسي معز زيود

"الحديقة المحرمة"، هو اسم الرواية التي دشن بها الروائي التونسي معز زيود تجربته السردية مؤخرا، والصادرة عن مؤسسة مسكيلياني للنشر في طبعة أنيقة من 261صفحة من القطع المتوسط، هي رواية تحتفي بالحب والعشق، تعري أوكار الجوسسة، وتتحدث عن الفساد والإفساد دون احتيال، لأن الراهن يستدعي الكشف وردود الفعل والانتقاد، كما أنه من غير الممكن في الزمن الحاضر التكتم فيه عن الحقائق.

تحكي الرواية عن عبدالنبي يوسف البطل والكهل الخمسيني، رئيس التحرير والاستاذ الجامعي الذي استفاق على إيقاع الثورة ليكتشف تراجيديا الحياة التي يعيشها عاطفيا وعمليا ومهنيا، فيقرر تغيير نمط حياته ويجاري الأحداث المكهربة وينتقل من امرأة إلى امرأة أو من شجرة أخرى، ثم الوقوع في شراك من الجواسيس الذين استنبتوا من حوله ومن حيث لا يدري

وعليه، تهيمن قيمة الحب في الرواية وتتحكم في بنيتها الموضوعاتية بتفرعاتها: عائلة وصداقة وعشق. وتأسيسا على هذا، تنسج الرواية خيوطا عائلية عاطفية، لنجد عائلة عبدالنبي التي تتكون"الأب والأم ومريم وهاج"، الحب والتعاطف ظل متينا بينهم، واستمر بين عبدالنبي وشقيقته شفيف، وبقيا على تواصل وتحاب حتى بعد وفاة الأب والأم:"يرى أخته نورا يضيء لياليه المظلمة، يجري إليها كالطفل كلما انغلقت في وجهه كل الأبواب، توظب مريم على إعداد الحلويات وخاصة الأكلات الشعبية التي بحبها"ص114، لكن، حب عبدالنبي لابنته هاجر يبقى هو الحب المتفرد والدائم والحقيقي

ثم الحب المضمر في رابطة الصداقة التي تجمع بين"عبدالنبي وكمال ومنتصر"، والخيط الرابط بينهما يتمثل في العبث والقلق وهموم سرطان المرحلة التي سميت خطأ بالربيع العربي، وثالثا تأتي تلك الشبكة من الحب والعلاقات الغرامية، التي تتكون من فدوى وأمل وزبيدة الأمازيغية وسلمى، بوصفهن ملاذا، وموئلا للإنساني في الإنساني فسارة الصباغ التي تعرف عليها عبدالنبي في أحد شواطئ جربة، ليتزوجا بعدها رسميا ويستقرا بباريز ويأتيا بهاجر، يكتشف أنها مخبرة وجاسوسة، ويعود إلى وطنه كي يعيش أجواء الخوف الرعب من أن يطاله شكل من أشكال التصفية

بيد أن الحب المهيمن في الرواية، فهو الذي تبادله عبدالنبي مع ياسمين، وجاء بوجوه متعددة ومتلونة، فهو حب مزاجي:"اضحى عبدالنبي أمام التغير السريع في مزاج ياسمين وانقلابها رأسا على عقب بين اللحظة والأخرىص34،وأحيانا أفلاطونيا وحلوليا وأخرى متوهجا:"كانت معشوقته القصيرة تصر على اعتلاء جسدها لجسده واتخاذ مكانها فوقه لاستحضار شبق اللذة بأسرع ما يمكن"ص36، وأخيرا، حبا خائنا فمنتجا للعنف، ثم نهايته في آخر المطاف.

وقد يتبادر إلى الذهن وأمام هذه الشبكة من العلاقات الغرامية وتبعثر للبطل عبدالنبي وراء النساء أننا أمام شخصية متشظية ومنشطرة بين حدة المعاناة من الخوف وفحولية منغمسة في اللذات بمختلف توارداتها الليبيدية، غير أنها لا تعدو أن تكون صورة لواقع مرير وبوجوه متعددة، واحتجاجا أو سلاحا تقاوم به الذات قلقها ورعبها بالتنقل من امرأة إلى امرأة بقصد الاحتماء بها، هروبا حدة الخوف، ذلك أن الحب هو دائما انتصار مؤقت على الموت، وليست كتابة المذكرات سوى احتماء ثاني يدفن فيه البطل عبدالنبي، معارك مهنية ومغامرات غرامية، خاضها في السر والعلن، ولم يستطع الفكاك منها وظلت أشجارا في الذاكرة واقفة ولم تشأ أن تشيخ أو تموت.

وبإعادة تركيبنا لصورة المرأة في الرواية، نلفي أنها تتأرجح بين المقدس والمدنس، بين صورة الأم والأخت وهاجر منبع العفة والعطاء والمحبة، وصورة المرأة العشيقة التي تنتمي إلى العالم من خلال جسدها المنتج للذة والمتعة والمغامرة، لكنها متورطة على حلبة الصراع وبعقلية مفهوماتية مغايرة.

من خلال هذه المغامرات المستنبتة في حديقة ذاكرة عبدالنبي، تتسلل وتتالى مشاهد وحكايات وحوارات في ظل مناخ من الفساد والإفساد، من تحرش في الجامعات والملل والنحل السياسية والجوسسة، كل شيء يحيل على التحول والغموض والفزع، والذي، يقتضي إماطة اللثام عنه قبل أن يتحول إلى سرطان يصعب اسئصاله

وتأسيسا عليه، يدخلنا الكاتب معز زيود من خلال هذه الرواية التي يقدمها،عوالم الجاسوسية المتوحشة الأذرع والتي تطوي بين أجنحتها الأخطبوطية إمبراطوريات وممالك، وترسم خرائط سياسية للأطماع والمصالح والنفوذ.

هكذا تتبع الرواية حب عبدالنبي لسارة الصباغ وزواجه منها،وبعدها استقرارهما بعد بباريس وانجابهما لهاجر، ثم مصادفته تورطها في الجوسسة،ليتموقف موقفا سلبيا منها، ويعود إلى تونس بقصد الاستقرار رفقة ابنته هاجر، وليدخل بعدها في عوالم أخرى من المتاعب والمغامرات والقلق، ولا يوجد استقرار إلا بالكشف والبحث، بالرغم من محاولات إغرائه وإسالة لعابه.

هكذا، وبعد تورط زوجته يستمر عبدالنبي في تتبع خطوات هذا الأخطبوط، ومن جملة استكشافاته ومغامراته الشيقة، اقتحامه لشقة"جوزيف"والاستيلاء على وثائق سرية خطيرة تثبت إدانة جوسسته، ومن ثم إحباط السقوط الكلي ل"ياسمين"في شراكه.

يتضح مما سبق، أن البطل عبدالنبي يوسف يعيش اضطرابا وصراعا داخليا، تتصف به الكتابة بدورها بحسب الكتابة الجديدة، ويحصل التوازن، لابد من دفن ما ينبغي دفنه، وتعرية ما يستوجب فضحه، وبذلك تنخرط الرواية في الجدة والعمل المفتوح كاستراتيجية من استراتيجيات الكتابة الجديدة

إنه عالم الجاسوسية الذي يقيم نظماً، ويدحر جيوشاً وأمماً، كما يعج بالدسائس والمكائد والأخطار، حيث كل شيء يجري في الخفاء، ولا يحكم الموقف إلا المكر والدهاء والفطنة والذكاء، وإنها أوكار الجوسسة العالمية وأسرارها الدفينة والخطيرة في تونس بعد 2011، البلاد أضحت بعد الثورة مرتعا لأجهزة المخابرات من الغرب والشرق، ألم تلاحظ كيف أصبح الدولار محركا أساسيا لنشاط الكثير من جمعياتنا الحقوقية والخيرية؟"ص106

وبخصوص التبنين الجمالي في رواية"الحديقة المحرمة"، نسجل أنها تتأسس على تقنيات جمالية متباينة كتعدد الخطابات من سينما وموسيقى، ونجد أيضا الرسائل الالكترونية، والخطاب الصحافي وخطاب التخييل الذاتي والخطاب الشعري باستدعاء مقاطع شعرية، ثم الخطاب التاريخي:"ماغون يارفاق المدام هو عالم قرطاجي يحمل هذا النبيذ اسمه، أخالكم لا تعرفون أنه صاحب أول موسوعة زراعية في التاريخ، حتى سمي شرقا وغربا"أب الزراعة"ص72، هذا إلى جانب الإحالة للتاريخ الإبراهيمي في اختيار أسماء « سارة » وهاجر »
ولاشك أن من يعاشر هذا النص الروائي تثير انتباهه تقنية الكسر، حيث تكسير عمود السرد التقليدي وشتات من النصوص يسهم المتلقي في لم ما تكسر وتشتت، وتحويلها إلى هيئة الرواية.

وفي سياق هذا التبنين الجمالي يتوسل الشاعر باللغة الشفوية التونسية:"كحل، كحلوشة، زرقة، كعبورة، سلوم.."لتكسير نقاء اللغة، ثم اللسان الأجنبي، كما تتسلل السخرية بلونها الأسود واللاسع سواء من الشخصيات والأشياء أو من الفضاءات، نقرأ في الصفحة 18:"- كفاك هذيانا تعبت الليلة كثيرا والجعة الوطنية تكاد تذهب عقلي، أخشى ألا أستطيع قيادة سيارتي بسلام، أجاب عبدالنبي، ثم أردف: عصير الشعير تخمر أكثر من العادة، ربما تعبت"السلتيا"من وطنيتها"

ونقرأ في الصفحة 14:"كان الحظ في صف نزيلات زقاق سيدي عبدالله قش، فلم يلق بهن في الشوارع القائمة كقطط المزابل للطواف ومراودة زبائن الحانات والفنادق الرخيصة، في هذا المكان نزلتي الصالح عليهن بركة الولي الصالح الذي اتخذ الماخور اسمه"ص 14، وأخيرا طغيان الأسلوب الروائي البوليسي على أغلب فصول الرواية، والذي أملته عوالم الجوسسة ومحاولات البحث عن رأس أخطبوطها.

وجملة القول، تمتص رواية"الحديقة المحرمة"واقعها المتشظي والمستهدف من خلال قول ما لا يقال، ومن خلال المكاشفة المستفزة اعترافات الذات لنفسها من خلال التخييل والغوص في متاهة الذاكرة، وكل هذا أكسبها طابع الإحراج الذي يضاف إلى عمقها وتبنيها الجمالي، ويجعلها لذيذة قابلة لأكثر من قراءة وتأويل، وإنها لحديقة مباحة، فتح أبوابها محسن زيود لقارئ يعشق حياة النص، ويحب الاختلاف الروائي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى