الثلاثاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٢
الاسيرة اللبنانية المحررة سهى بشارة تروي مذكراتها
بقلم سهى بشارة

الحلقة الثانية - العائلـــة

أتراه ليوم مولدنا الأثر الكبير على حياتنا، أنا المولودة في الخامس عشر من حزيران / يونيو 1967؟ أو يسعني أن أطرح السؤال؟

في هذا اليوم، كانت الجيوش المصرية، والأردنية والسورية، تجرجر أذيال الهزيمة على يد الجيش الإسرائيلي. وكان جمال عبد الناصر في هذه اللحظة بالذات، ومن القاهرة يقدم استقالته الى شعب مصاب بذهول من رؤية رئيسه الأسطوري يتهاوى. ولئن كنت ولدت في يوم هزيمة للعالم العربي، فإني فضلا عن ذلك، آخر المولودين في عائلتي. تزوج والداي عام 1958، وكان كل منهما في العشرين من عمره. فكان أن ولد أخي عدنان في السنة التي تلت زواجهما، ثم أبصرت النور أختي حنان، وفيما بعد ولد أخي عمر، وفي آخر العنقود كنت أنا أخيراً. ولربما أتت تسميتي "سهى"، - وتعني النجمة – تيمناً وطلباً للأمل.

أما الرجل السياسي الأثير لدي، في لبنان، فلم يكن إلا والدي . فهو الشيوعي والنقابي، منذ مراهقته الأولى، بلا شك. أكتب "بلا شك"، لأنه لا يسعني القول إنه صم آذاننا، صبح مساء، بالتزامه. إنما على العكس من ذلك.

ولما كان والدي مستعداً، أتم الاستعداد، للانخراط في أية قضية حق، فقد بدا صموتاً، غير محب للضجيج. ولطالما رأيته مشاركاً العائلة في كل الأعياد الدينية التي يحسن الاحتفال بها في القرية احتراماً لأفراد عائلته الكبيرة، ولم أكتشف انتماءه الى الحزب الشيوعي اللبناني إلا مؤخراً، حين بلغت العمر المناسب الذي يؤهلني للانخراط في صفوفه. ولم أجرؤ قط على سؤال أبي عن دوافع التزامه هذا.

بالتأكيد، كان أُثر عن قريتنا، دير ميماس، ولزمن بعيد خلى، كونها قلعة من قلاع اليسار – أقله الى ما قبل الاحتلال الإسرائيلي عام 1978. قلعة لليسار، بيد أنها كانت ، كذلك، تلك البلدة التي دفعت أبناءها أشواطاً بعيدة في التعلم. وكانت النتائج الباهرة لتلامذة دير ميماس أرقى ما كانت تبلغه في بلدات الجوار، قاطبة. وكان والدي، الذي اضطر اضطراراً الى التوقف عن الدراسة، إثر حادثة جرت له مع جندي، لا يزال يبدي شغفاً بالكتب وبالدارسة. ولما كانت الأوساط المثقفة من الحزب قد استهوته، ولا سيما في نهاية الخمسينيات، أخمن أنه انتسب، بملء خاطره، الى خطابها الذي يعلي من شأن المواطنية على حساب الانتماء الطائفي.

ومنذ أن وعيت الأمور، كان والدي يعمل في مجال النشر بمثابة عامل في المطبعة، يصف الحروف أو يطبعها طبعاً. ولا يزال الى يومنا هذا، وعلى الرغم من استحقاقه تقاعداً، بعد كل سنوات النار والبارود، يمضي كل صباح الى عمله، فما كان يهمه من الحياة، هو أن ينال كفاف عيشه، ولا تزال صورته في ذاكرتي رجلاً استأثرت به مهنته كلياً.

ما كنت لأراه يوم الأحد حين كنا اعتدنا الخروج بأفراد عائلتنا، ونمضي مرات الى شاطئ البحر، أو غالباً الى أقاربنا. وحين باتت هذه النزهات مستحيلة بفعل اندلاع الحرب الأهلية والانفجارات، وجدت التزامه وعمله مختلطين تماماً، وعلى نحو مباغت.

ولما كانت مطبعة الحدث دُمرت في بداية العمليات القتالية، فلقد عمل في مطبعة أخرى للحزب، وهي مطبعة "الأمل"، والتي استمرت بالعمل، رغم كل الظروف التي عاناها القيمون عليها خلال الحرب كلها، وبذلك أمكن طباعة الجريدة الناطقة بلسان الشيوعيين، عنيت بها جريدة "النداء"، وحين عادت المعارك لتطردنا خارجاً من منزلنا ودمرته من ثم، اضطررنا الى النزول في أحد الأبنية العائدة الى هذه المطبعة، حيث أقمنا نهائياً.

أما والدتي، ذات الشخصية القوية، فكانت مدبرة منزلنا الصغير، فلها كل القرارات التي تتعلق بالأبناء، ولما كانت تعترض، مثلاً، على أن أمضي برفقة أصدقائي الكشافة في إحدى الرحلات، كان يتوجب علي أن أتحين غيابها عن المنزل لأستأذن والدي الذي ما كان ليرفض طلباً. ولقد حبت الطبيعة والدي طباعاً يغلب عليها الفرح، فبدت لنا سريعة البديهة، تروي الحكايا، أو ترمي بالدعابات، حيناً بعد حين.

ولم تتذمر يوماً من مخاطر الحرب ولا من انقطاعات المياه والكهرباء، التي كانت تضاعف من مصاعب الحياة، في ما حولنا، ولا كانت تتأفف من موجات القصف المتلاحقة علينا. وبخلاف والدي، لم تكن أمي تهتم للسياسة، وعرفت فيما بعد أنها أدلت بصوتها في انتخابات العام 1971، لصالح اليسار، قبيل الحرب الأهلية، بيد أن ذلك لم يكن عن قناعة راسخة لديها، بقدر ما كان إرضاءً لزوجها.

والحال أن والدتي أدركت باكراً أن للحزب الشيوعي طغياناً على زوجها. فهي لم تكد تنزع عنها ثوب العرس، حتى أشار إليها والدي بأن ترتب الحقائب لتلحق به الى سوريا، حيث أرسل سراً بمهمة برفقة عمي، إلا أن أمراً معاكساً صدر للتو آمراً بموجبه المناضلين بالعودة، على جناح السرعة الى بيروت، وبالتخلي الفوري عن زوجتيهما اللتين لم يمض على إنجابهما بكريهما سوى أيام معدودات. وظلت والدتي، على كر الأيام، تزداد غيظاً من تلك السياسة، وشاءت أن تدفعها دفعاً عن منزلها.

وللأسف، كان صيت عائلتنا الحزبية أسبق منها، وأرسخ من إرادتها. وإبان انتخاب بشير الجميل رئيساً للبلاد عام 1982، قدم الى الحي مقاتلون كتائبيون وأخذوا يرسلون في حقنا الكلام النابي، مزدرين محقرين، مرسلين زعيقهم من تحت نوافذ بيتنا الجبلي، حيث كنا، مرددين: "بشر، بشر، بشوره، بيت بشارة مقهورة".

والحق أن الحظوة السياسية، التي كان ينالها أحد المرشحين عن اليمين الماروني، كان يمثل انتكاسة للشيوعيين.

منذ بداية الحرب الأهلية، وجدت أهلي يقيسون المخاطر التي تنجم عن الالتزام السياسي. وقد بدأت خيوط الأحداث تتوالى منذ أن أطلق أول قناص، كامن في تسقيفة أحد البيوت القريبة من منزلنا الأول، طلقات على ما سمي بخط الجبهة، وذلك في الثالث عشر من نيسان / أبريل. وكان ذلك القناص كتائبياً، أحد جيراننا المعروفين، ويدعى "عيسى"، قد زرع الرعب في الحي بأسره. وأصابت رصاصاته بالمقتل أشخاصاً كثيرين، وبات من المؤكد، حيال مخاطر المرور من أمام ذلك القناص، أن تتوقف السكة الحديد عن العمل، وبالفعل كفت سكة الحديد عن العمل، منذ ذلك الحين. وخلال شهر بأيامه، جهدت الميليشيات الموالية لسوريا في طرد ذلك القناص، وجعلت تمشط الحي تمشيطاً دقيقاً، وبسرية تامة. وفي هذه المناسبة، تنبه أهلي أننا العائلة الوحيدة التي تملك سلاحاً، سواء أكان مسدساً أم بندقية صيد. حتى كان اعتقال عيسى. ولسوف يعدم لاحقاً. وقد رسمت في خيالي سيناريو لطريقة إعدامه لا تتفق مع ما حصل. كنت أعتقد أنه أعدم شنقاً في حيه، الموضع الذي شهد طفولته، ليكون مثالاً وعبرة لمن يعتبر، وفي جميع الأحوال. فقد كنا لا نزال ملتجئين في دير ميماس.

ولم تمض أيام حتى أتانا واحد من معارفنا الكتائبيين لينذر والدي: فهو على وشك أن يقتل في إحدى عمليات الثأر. علماً أن الثأر إن هو إلا عملية اغتيال منظم، يقوم مقام الرمز. وهكذا، بقي والدي شهرين كاملين محجوزاً في المطبعة ويحوط به رجال من أتباع كميل شمعون، وهو ثاني قائد في حركة اليمين المسيحية المارونية، حتى تمكن، مالك المطبعة، سليم اللوزي من إخراجه بسيارة تعود الى رئاسة الجمهورية اللبنانية. وكان والدي محظوظاً لنجاته. في حين لقي أحد أقاربه مصرعه في الفترة العصيبة نفسها، وهو كان يعمل، كوالدي، في المطبعة.

ولطالما كانت أمي مصرة على أن يكون أبناؤها خارج المنزل كلما التقى والدي بأخوته وأخذوا يتداولون في شؤون السياسة. غير أن هذا الحرص بدا لا طائل منه، أقله في ما خص أخي الأكبر، وما خصني. ذات يوم ، وقبيل اندلاع الحرب الأهلية، أقدم مدير المدرسة، الكتائبي بدوره، على توجيه صفعة لأخي عدنان، ولم يكن قد بلغ الثانية عشر من عمره، لأقوال نميت الى أهل اليسار، على حد ما وصفها المدير. وكانت هذه الحادثة شأناً عائلياً يتوزع الجميع تبعاته. ولم يكن والدي وحده مسؤولاً عما جرى لابنه، إنما كان عمه "نايف" الشيوعي، بدوره، مشاركاً في قسط من المسؤولية. ومع كونه أصغر عمراً من والدي، فقد كان يعمل في المطبعة، شأنه.

أما إذا شئت أن تصف الأجواء في عائلة عملي فقل إنها مختلفة عما في عائلتنا اختلافاً شديداً. فأنت ترى كل فرد من عائلته ملتزم بالحزب الشيوعي. فضلاً عن كون عمي محازباً، بالطبع، فأنت تجد امرأته "نوال" مناضلة في الاتحاد النسائي، وهي ورثت الانتماء الى الحزب وراثة، وكان لي أن أكتشف هذا العالم في نهاية السبعينيات. إذ قضيت معظم صيفياتي، خلال سنوات الاحتلال الإسرائيلي للجنبو، في كنف ذلك المنزل. وكان عمي يأتي لاصطحابي الى القرية حالما ترمي المدرسة بهمومها، فأروح أتقلب معه في عالم آخر، وفي حياة ملؤها الاضطرات حيث يسعني أن أهتم لكل الشؤون، كان منزل عمي مكاناً تعقد فيه اللقاءات والاجتماعات، ويتواعد فيه الناس على التعارف والحديث. وغالباً ما كنت ألتقي بعمي داود الذي كان مناضلاً في الحزب، بدوره، تشاركه امرأته جمليه الالتزام عينه. وفيه كنت أسر بسماع جدتي وهي تروي لنا زفاف ابنها داود بجميلة، والعرس الأسطوري الذي أعد لهما: يوم نزلت العائلة من القرية لتطلب يد "جميلة"، وكانت الأخيرة تقضي ليلتها الأولى في السجن لاشتراكها في إحدى المظاهرات.

وهكذا، أتاحت لي الصلة بنايف، المناضل، وبنوال نصيرة المرأة، وفي خضم الحرب، أن أكتشف ماهية الجدال، والمثل العليا، ومفهوم الالتزام. لئلا أندم على ما أقوم به لاحقاً.

وإذا ما كنت استمددت من أبي ذلك الشغف الذي عملت على ترسيخه لدى أخيه، فإني اعتدت منه، وفي زمن مبكر، حس الكتمان. وكانت ذكرى، من ذكريات طفولتي، طبعتني جيداً. كنت ذات يوم، في قاعة الجلوس برفقة أخي عمر وإحدى بنات عمي، وكان الاثنان يعلبان ويضجان، فإذا بأحد الأحذية يطير ويرتطم بزجاج النافذة فيحدث ارتطامه وتحطم الزجاج ضوضاء عالية. فما كان مني إلا أن اندفعت والإثارة تقطع أنفاسي، ومضيت الى والدتي التي كانت في زيارة لها الى إحدى جاراتها، وقاطعت أحاديثهما، ورحت أروي لها تفاصيل الحادثة، من دون أن تند عني أية حركة، أو تصدر أي نأمة، ولم أتوقف إلا حين ذكرت لها الفاعل.

لم تبد أمي أي اعتراض على ما قلت، ودعتني الى انتظارها في البيت. فجلست والخيبة تلازمني، وأنا صامتة. وعندما بلغت والدتي عتبة المنزل، أمرتني بالركوع في الحمام. لساعتين كانتا لي بمثابة دهر، ورحت أسائل النفس عما إذا كان ما فعلته يستحق هذا العقاب الشديد، ولدى وصول والدي، أجهشت بالبكاء. فبادر، للحال، الى رفع القصاص عني، وبالمقابل دعاني الى سؤال أمي عن الدوافع التي حملتها على ذلك العقاب. فتوجهت لها ثانية، وأكدت لها أني لست المذنبة، مما أغاظها شديد الغيظ، فخلصت الى إفهامي بأنه ينبغي لي ألا أروي حكاياتي التافهة لكل الناس، كما ينبغي لي بالمقام الأول، ألا أشي بأحد.

لا يسعني أن أقيس بالتحديد مدى تأثير ذلك الحادث في، بيد أني قررت ألا أبوح بأسراري ومشاعري الأكثر حميمية وعمقاً، لأهلي، ولا لإخوتي، ولا لأختي، رغم عاطفة الأخوة والمحبة التي تجمع بين روحينا.

فإذا صح أننا أبناء عائلة بشارة، وُسمنا جميعاً بالحيوية، فإنه كان لكل منا طباعه وشخصيته.

كان أخي "عدنان" لا يزال مراهقاً حين انجرف لبنان الى هاوية الحرب الأهلية، التي عاش أدق أهوالها حتى لحظة سفره في العام 1978. فلما كان والداي يصران على عدم إبقاء بكرهما في خضم الصراعات، استجاب "عدنان" للأمر وغادر البلاد لمتابعة دروسه الجامعية، في جو من الأمان، داخل الاتحاد السوفياتي في حينه، في مدينة خاركوف. فنظراً لمداخيلنا المتواضعة، لم يكن حسباننا إرساله الى فرنسا، أو أقله الى الولايات المتحدة الأميركية. ومع أن العيش في الاتحاد السوفياتي كان أرخص مما في غيره من البلدان، إلا أن أخي كان يفضله على ما عداه، يقيناً منه بصواب اختياره وتوجهه. الى ذلك، فنحن ندين لنقابة الاتحاد العمالي التي كان والدي عضواً فيها، بفضل تأمينها منحة لأخي. والحال أن هذا السفر كان كفيلاً بتفريقنا لسنوات طويلة. وفي مدينة خاركوف، التقى عدنان بامرأة شابة، تدعى "تاسولا"، وهي قبرصية يونانية، أحبها فتزوجا. وإثر تخرجهما مهندسين بالالكترونيك عاد الزوجان الى قبرص. ومن ثم، سعى أخي الى عمل له في لبنان، غير أن عودته تزامنت مع مقتل اثنين من أصدقائه، ما حمله على العودة الى قبرص والإقامة في موطن امرأته، نهائياً. وكل هذه الأمور وكثير غيرها، ما كنت لأعرفها إلا فيما بعد، إثر خروجي من المعتقل.

وأختي حنان تتميز بشخصية مختلفة عني تماماً . ومع أنها كانت طالبة مثابرة في علمها، فقد بدت كتومة للغاية. لم تلتزم بالسياسة، شأني وشأن أخيها. ولطالما كنت حافظة أسرارها، وأحياناً كنت أسد غيبتها لدى أهلي، كلما رغبت في الخروج مع صديقاتها وكانت والدتي حازمة في منعها. فكان يزيد في اطمئنان والدتي عليها أنني كنت أرافقها، أو أدعي بأني ماضية معها. ثم أني كلما ظننت أنه بوسعي خدمتها، واجهت والدتي بالقول إني موافقة على رأي أختي. أتراها تلك كانت حقيقة أمرينا؟ ذلك هو سرنا. خلال سنوات الحرب الأهلية، استمرت الحياة كيفما اتفق، وعاشت حنان قصة حب مع أحد جيراننا ويدعى بيار. وكان الأخير يجهد في إعطاء إنطباع عن نفسه بأنه غريب الأطوار بعض الشيء. وما كان صيته، الآنف، ليخدمه لدى والديّ، غير أن جلسات العاشقين، والناس نيام، كانت تطول، وكلمات البوح بالحب تبلغ شرفتنا من شرفة بيته. وظل الحال على هذه الصورة أشهراً طويلة، الى أن تسنى لهما الخروج من خفائهما، وتزوجا.

غير أني، لم أكن هنا لأشهد زواجهما. كنت في معتقل الخيام. أما أخي الثاني عمر فكان محباً للحياة. إذ قرر التوقف عن الدراسة باكراً، بعد نيله شهادة الباكالوريا، قائلاً أنه يفضل العمل. فاختار، شأن والدي مهنة الطباعة، حتى صار مختصاً بالتنقيحات اللازمة للصور. غير أن الحرب أحدثت انقلاباً جذرياً في حياته، ولا سيما بعد القصف الذي تعرض له حيُّنا عام 1983.

في هذا اليوم، ولما كان القصف شديداً، لجأ الى الطابق الثاني ، بينما بقيت أنا برفقة أختي وأبي في الطابق الثالث. وبلغ القصف من الشدة بحيث عجزنا عن بلوغهما، لأن حناناً كانت قد اختارت اللحظة غير المناسبة للاستحمام. وكان أن أصيبت والدتي، خلال هذا القصف، إصابة بالغة بشظايا قذيفة في مرفقها. ما استلزم إقامتها في المستشفى للمعالجة، ثلاثة أشهر. وبعد تلك الحادثة، جعلت تلح على ذهن أخي فكرة واحدة لا غير. وهي مغادرة لبنان، وكان له ما أراد في العام 1985. ولكونه منفياً ولاجئاً الى جمهورية ألمانيا الفدرالية، فقد سره غاية السرور أن يعاين سقوط جدار برلين، في العام 1989.

عند هذا الحد، لا يسعني أن أفصّل أحداثاً لم تصلني منها إلا الأصداء، وأنا في عزلتي الإجبارية.

والحق أنني أدين لأخوتي، ولأختي، ولكل منهم ببعض من طباعي. أنا أصغر أخواتي، التزمت في السياسة شأن عدنان، وكنت رياضية على مثال حنان، التي كانت معلمة للرياضة قبل أن تعاود دراساتها في اللغة العربية وآدباها، وأعشق الحياة، مثلما يعشقها عمر، كانت الرياضة تحتل حيزاً كبيراً من اهتماماتي ونشاطاتي. فجربت أول الأمر ألعاب القوى، ثم انصرفت الى الرياضات الجماعية مثل كرة السلة وكرة الطاولة، فيما بعد، من غير أن أهمل التمارين الرياضية الجسمانية.

كانت الرياضة تمدني بشعور من الحرية عارم، بل كان لها الفضل في بقائي وصمودي في سنوات أسري اللاحقة.

وأراني كذلك مدينةً لأختي بحس المثابرة في الدروس. ولما كان لي الحظ في أن أتلقى علومي في المدرسة الابتدائية، ومن بعدها، في الثانوية، آليت على نفسي أن أكون الأولى في صفي، على الغالب. وكانت كل المواد تستهويني، حتى لو كنت ميالة الى المواد العلمية، ميلاً صارخاً. ووجدتني أركز على فروضي ودروسي أتممها، ما دامت والدتي وفرت لي حماية من كل التقلبات والمخاطر التي كانت تحدق بنا. وكان من الصعوبة لنا بمكان أن نستقبل أصدقاءنا، لضيق مسكننا، فكنت أستعيض عن ذلك بشيء من الترويح عن النفس في الخارج فأتاح لي ذلك الجو أن أمضي وقتاً طويلاً في تحضير دروسي بمفردي. بيد أن تجليي في مواد الرياضيات أتاحت لي أن أصير، وبزمن مبكر قياساً على أخوتي، مستقلة مادياً عن أهلي، لما كنت أكسبه لقاء الدروس الخصوصية، منذ سن الثانية عشرة. وما برح صيتي يزداد، وزبائني يتكاثرون وعائداتي من التعليم تتنامى، حتى أنني كنت أقوم بمصاريفي ومعاشي وأنا لم أتجاوز الرابعة عشرة من عمري. فيما مضى، كان أخي عمر وأختي يمدانني بالمال كلما احتجت الى شراء غرض لي، وفي هذه الأثناء كان أخي يعمل في المطبعة لحيازة بعض المال، بينما كان لأختي الحظوة في أن يكون لها منحة تعليمية. وسرعان ما ذاع لي صيت متواضع في حيّنا لما كنت أقدمه من دروس، وهذا ما أثلج صدر أمي التي ما برحت تقول في سرها: ها إن ابنتي إذ تقضي معظم أوقات فراغها في التدريس، وفي تصحيح فروضها، تلهو عن السياسة ولا تجد الوقت الكافي لها، أقله.

مع ذلك، انتخبتُ ناطقة بلسان صف البنات، في ثانوية فخر الدين الرسمية، وأنا لم أكن تجاوزت الثانية عشرة. وعلى كون المدرسة قريبة من خطوط القتال، فقد حافظت على مستوى تربوي جيد عامةً، وهي تعد بين أهم الثانويات الرسمية والخاصة في العاصمة، والحال أن ثانوية فخر الدين لم تكن مجرد مدرسة عادية، إنما كانت أشبه بمكان تترجع فيه كل النقاشات والأصداء السياسية التي شكلت لب الصراع الدائر في الشارع. وكان للحياة الاجتماعية الموسيقية فيها حضور كثيف. أما الأعياد والمناقشات والحفلات الموسيقية فكانت تتوالى فيها فصولاً، وفي وتيرة متصلة. كما كانت "فخر الدين" في قلب كل المظاهرات في بيروت، ولهذا وجدتني كثيرة التعلق بها.

انتخبتُ ناطقة بلسان التلميذات، من صفي، لأنني كنت، بلا شك، أكثر الفتيات حيوية كلما اقتضى الأمر تنظيم الاحتفال بالأعياد، ولأنني كنتُ أمثل الصف في المسابقات الرياضية. وللمناسبة، اكتشفتُ مبدأ ثبت لي صدقه فيما بعد: وهو أن الناس توكل مسؤوليات الى الأكثر حيوية، أياً تكن أذواقهم وميولهم حياله. لا أحب إصدار الأوامر الى الآخرين، ولا قيادتهم، ولا أخذ القرارات التي تلزمهم إلزاماً. مع ذلك، وعلى مر الأعوام، رأيتني مضطرة الى قبول هذا النوع من المهام. من الحزب الشيوعي اللبناني، والذي باشرتُ النضال في صفوفه، في الفترة نفسها. كما أنني عُينتُ، بخلاف إرادتي، في المجلس الوطني لهذه الحركة، وذلك بعد سنوات قليلة من تولي المهمة الأولى. في حين كنتُ راغبة في أن تطلق يداي من المسؤوليات، لأعمل في حال من الكتمان والصمت.

في السادسة عشرة، اشتركتُ للمرة الأولى في أحد المخيمات الكشفية العائدة لإتحاد الشباب الديموقراطي من دون رضى أمي التي كانت ترتابُ كثيراً من هذا التنظيم الصديق للحزب. وكان المخيم قائماً في الجنوب من بيروت، قريباً من البحر. ولما كنت مسؤولة عن مواد المخيم، قصدته في أيامه الأخيرة، لأكون على بينة من تحضيرات الرحيل. وخلال الليلة الأخيرة، ومع أن عديدنا كان ستة كشافة فحسب. قررنا القيام "بغارة" على المخيم المجاور، وكان لتنظيم تقدمي آخر. فاقترحت على رفاقي بأن نحول اهتمام الحرس. وبحسب القواعد المرعية الإجراء كانت محاولة خداع الحراس وتحويل انتباههم أمراً مسموحاً، لإلقاء القبض على بعض الكشافة أو لحيازة العدة. وكان المخيم الغازي، على هذا النحو ينال حظوة وشرفاً، لأنه أثبت تفوقه.

كان الوقت منتصف الليل. فتقدمت نحو الحرس، وبي ترفع مزعوم، فاصطنعت اكتشاف موقعهم. كان الحارس صبياً. تعارفنا وطمأنته أني أقوم بدوري بالحراسة في المخيم الذي ينظمه الإتحاد واقترحتُ عليه أن يأتي بصحبتي ليشرب الشاي في خيمتنا، لأجل أن يريح قدميه قليلاً. فما كان أيسر من وقوعه في الفخ، ورافقني. وفي هذه الأثناء، وبينما كان رفاقه يغطون في نوم عميق، جعل شركائي ينتزعون خيمةً من خيم ذلك التنظيم، ويحملون معهم ثلاث جرار، ورقعة شطرنج وآلة ستيريو مع مكبرات الصوت العائدة إليها.

في صباح اليوم التالي، إستغرق الكشافة المسلوبون زمناً يسيراً ثم أدركوا أن الدائرة دارت عليهم. فأُعلنوا التأهب في صفوفهم. ولم يلبث أن روى لهم الحارس ما جرى له، فأرسلتُ، إثر ذلك، بعثة الى مخيمنا تطالب بمقابلة الفتاة، بمقابلتي، عبثاً.

إذ كنتُ أرقبُ الحدث، من وراء نقاب الخيمة. إلا أن قائدنا الشهم علي، رضي بأن يرد لهم العدة المأخوذة باستثناء رقعة الشطرنج، التي أرادها أن تكون غنيمة حرب. وعليه عزم المخيم الخصم على اختطافي ثأراً للإهانة التي لحقت به.

ولكن الأمر كان مقضياً إذ حملنا رحالنا ومضينا.

كان ذلك أول إنجاز حربي لي، بصورة من الصور.

سهى بشارة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى